Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بدفع ما بدفع" كوميديا تحرض النساء على سرقة السوبرماركت

نص الإيطالي داريو فو كما قدمه الأردني عبدالسلام قبيلات في دمشق بصيغة هزلية درامية

من مسرحية "بدفع ما بدفع" الأردنية في دمشق (خدمة الفرقة)

ملخص

نص الإيطالي داريو فو كما قدمه الأردني عبدالسلام قبيلات في دمشق بصيغة هزلية درامية

لعلها المرة الأولى بعد سنوات الحرب الطويلة تتمكن فيها فرقة فنية أردنية من زيارة دمشق، وتقديم عروضها على مسرح الحمراء الدمشقي الذي غص ليلة الافتتاح بجمهور جاء يشاهد مسرحية "بدفع ما بدفع" لمعدها ومخرجها عبدالسلام قبيلات. الفنان الحائز درجة الدكتوراه في الإخراج المسرحي من جامعة سان بطرسبورغ في روسيا، كان قد أسس "مسرح الشمس" في عمان عام 2016، وحقق عديداً من التجارب التي أنعشت الحركة المسرحية المستقلة في بلاده، مبتدئاً سلسلة تجاربه بعرض "بحر ورمال" عن نص للكاتب ياسر قبيلات، مروراً بعرض "بكرا وبعده" عن نص "في انتظار غودو" للكاتب صموئيل بيكيت (1906-1989، ووصولاً إلى عرضه الحالي الذي اقتبسه عن نص "لا تدفع الحساب" للكاتب الإيطالي داريو فو (1926-2016).

وتعد مسرحية "بدفع ما بدفع" التي قدمت لأول مرة عام 2017 على خشبة "مسرح الشمس" في عمان، من العروض التي تنبأت باحتجاجات عام 2018، وما تلا ذلك من موجة غضب شعبية عارمة أدت إلى تغييرات جذرية في البنية السياسية للبلاد، وذلك على خلفية تقديم حكومة هاني الملقي آنذاك مشروعاً لتعديل قانون ضريبة الدخل، مما أطاح حكومة الملقي وحجب الثقة عنها، هذا الحدث كان بمثابة إشارة البدء لعرض ذي إسقاطات جريئة، إذ قام قبيلات بالتقاط نبض الشارع لتقديم معالجة فنية مختلفة، وذات صياغة مفعمة بروح نقدية لاذعة وسليطة اللسان، سواء تجاه مسألة الأجور والرواتب في الأردن، أو حتى إزاء الحالة المعيشية للمواطن الإيطالي، نعم الإيطالي، فقد تقصد قبيلات هذه المواربة، مبقياً - على سبيل التهكم - أسماء الشخصيات كما وردت في النص الأصلي، وحافظ في إعداده الجديد، على إيطاليا، كمكان للأحداث التي كان داريو فو قد كتب "لا تدفع الحساب" عنها، مستلهماً ذلك من حادثة واقعية جرت في مدينة ميلانو عام 1984 عندما هجمت مجموعة من النساء الإيطاليات على أحد المجمعات التجارية، والقيام بالسطو عليه وأخذ البضائع الغذائية من مخازنه من دون أن يدفعن ثمنها.

سرقة بالخفاء 

تتعقد الأمور بعد فرار كل من أنطونيا (حياة الجابر) ومارغو (روسن حلاق) بالبضائع المسروقة، وتفكيرهما بخطة لإخفائها عن زوجيهما الصالحين. فتقومان بعد وقوعهما في الحيرة بإخفاء مسروقاتهما تحت ثيابهما بواسطة حقيبة قماشية، وبين التظاهر لكل منهما بأنهما حامل، وذهابهما إلى المستشفى لإنقاذ "الجنين". يفتضح أمر المرأتين أمام كل من جيوفاني (أحمد سرور) ولويجي (سعيد المغربي) زوجيهما الصالحين المعروفين بالعصامية ونظافة اليد، وعدم قبولهما الدخول في دائرة الفساد العامة.

إنها مجموعة من حالات سوء الفهم وعدم التصديق تؤدي في النهاية إلى مفارقات وصدامات وقفشات ضاحكة، وتجعل من "كوميديا الأخطاء" عنواناً للعبة تبادل أدوار خاطف، لا سيما مع الدخول والخروج للممثل عدي حجازي الذي قام بأداء ثلاث شخصيات في العرض، وهي الشرطي ورجل الأمن، إضافة إلى شخصية رجل الدين. ولعل أخطر إشارة غمز فيها قبيلات من قناة طبيعة السلطة وتركيبتها الأبدية، هي في إسناد هذه الأدوار الثلاثة لممثل واحد، بحيث تلتبس أدوار رجال البوليس والأمن ودور رجل الدين وعظاته في العرض، لتصبح هذه العظات في نهاية المطاف وجهاً من وجوه السلطة، ولبوساً محكماً لإدارة اللعبة السياسية عبر عناصر العسس ومنابر الخطباء، وإتمام حصار الشعوب واستعبادها، مرة بالترهيب الأمني، ومرات بتصدير خطاب التقية والطهرانية الملفقة.

اعتمد قبيلات في عرضه الساخر على ديكور كاريكاتيري (بهاء سليمان) منجزاً حالة من الواقع المائل الممسوخ في كتله وأبوابه ونوافذه وأثاثه المهلهل، والمطل على خلفية لرسم جسد مدينة عمان متموضعاً في عمق الخشبة، بينما أبقى المخرج على نوع من الإضاءة العامة، منتصراً لسطوعات متباينة على المسرح، ليتم توظيف ذلك في عرض نشيط ولاهث تميز بشغف ممثليه وحماستهم، وإقبالهم على اتباع ميزانسين (رسم حركي) لدخولهم وخروجهم ورقصاتهم تارة، وجلوسهم على كراسي إلى جانب المسرح تارة أخرى. وهذا ما ترك مساحة من الارتجال تقصدها مخرج العرض، خالقا مسافة بين الممثل والشخصية من جهة، وبين الممثل والجمهور من جهة أخرى.

إن تعزيز الكوميديا جاء هنا لأسلبة الأداء على طريقة المخرج الألماني برتولد بريخت (1889-1956) فجعل ذلك من الممثل مؤدياً ومتفرجاً على اللعبة في آنٍ واحد، وأسهم في تقديم فرجة متعددة في مستويات قراءتها، ولكن دون التعمق في الأبعاد النفسية للشخصيات، بل بالحفاظ طوال ساعة ونصف الساعة (زمن العرض) على تلك المسافة التأملية من العرض ككل. وهذا شرط أساسي من شروط فن الكوميديا الذي يؤكد موقف عقلي ونقدي مما يحدث، وعدم الاكتفاء بالتعاطف وتوسل المشاعر واستجدائها، بل بالتركيز أكثر على أداء الشخصية النمطية ومبالغاتها اللفظية، وإبراز عيوبها الفيسيولوجية الفاقعة، وطريقة سلوكها الكاريكاتيري، في التعامل مع الفرضية العامة والمواقف والظروف المتفرعة عنها.

هكذا، يصبح الخيال واقعاً، ويصبح من الصعب الفكاك من لعبة النساء الحوامل بربطات المعكرونة وأكياس الرز والسكر، ويقاوم الرجال جوعهم، فيمتنعون - تحت تهديد الجوع - عن تناول أطعمة الكلاب والقطط، وشرب حساء الذرة ورؤوس الأرانب المثلجة، مع أنهم يذعنون لها في النهاية. وهكذا أيضاً يدقق البوليس في كل شاردة وواردة، حتى شدات "السيفون" في الشقق المجاورة التي تحصي على الناس خروجهم ودخولهم إلى دورات المياه، فتؤخذ هنا بعين الاعتبار، بل وتصبح دليلاً على تهمة امتلاك القوت وسد الرمق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع حصار قوات حفظ النظام لبيت أنطونيا وجيوفاني، وإطلاق الغاز المسيل للدموع، تنهار الشخصيات دفعة واحدة، وتشعر بلا جدوى تعففها ومقاومتها، ونكرانها المزمن للفاقة والعوز. فتطلب في هذا المناخ الخانق من الظروف المضادة وقنابل الدموع أن يقوم أحد ما بإيقاف هذه اللعبة المسلطة عليها من الأعلى، في مزامنة بين سلطة النص وسلطة الغيب، طالبة من الكاتب أن يسمح لها بالتنفس خارج أوراق النص. وهنا يطالب الجميع بالقول "إذا لم يعجبك النص، اكتب نصك بيدك"، لكن "شخصية المرء هي مصيره"، كما يقول هيراقليطس، وعليه تبقى كوة الأمل مجرد سراب يتداعى مع اقتحام أمسى وشيكاً، للمكان المحاصر بالأبخرة السامة ودروع رجال البوليس وهراواتهم الغليظة.

بعد كل هذا الهرج والمرج ينقلب الضحك في النهاية إلى صمت ووجوم، ويجلس الممثلون في مقدمة الخشبة وهم يحدقون بيأس في وجوه الجمهور، لكن أنطونيا تجثو بعد رهن بيتها للبنك على قدمي زوجها وتسأله "لوين بدنا نروح"؟ سؤال تعود بعده موسيقى الفنان موسى قبيلات للعلو معلنة هذه المرة إنزال ستارها الوهمي على شخصيات لا تجد أجوبة لأسئلتها الملحة. ومع أن موسيقى العرض أسهمت في خلق مفاصل درامية واضحة، وتمرير زمن متخيل للأحداث الممتدة من ساعات النهار إلى هطول الليل وإطباق الحصار، إلا أن المقطوعات الموسيقية لم تتنازل عن دورها في أن تكون بمثابة راوٍ مواكب للأحداث، ومتمم للمحددات الفنية التي أسهمت بقوة في توجيه الأداء، وضبطه ضمن النوع الذي تراوح بين "كوميديا الفارس" و"كوميديا الأخطاء"، مستلهماً رؤيته الإخراجية العامة من أجواء الكوميديا ديل آرتي، ومعلناً استعادة أمجاد المسرح السياسي في العالم العربي، كأداة فنية ضاربة في نبش المسكوت عنه، ومواجهته بلهجة أردنية لامست واقع الجمهور السوري في مواضع عديدة، ونكأت جراحهم الغائرة، هذا من دون أن يعلو صوت المضمون على الشكل، ومن غير الدخول في مباشرة فنية كان من الممكن أن تعطل ثنائية التجريب والتغريب في هذا العرض، وتفسد البهجة المسرحية أو تنقص من طرافتها اللاذعة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة