Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تجليات باريس في الأدب العربي كما يستجليها خليل الشيخ

كتّاب وصفوها بالجنة الأرضية والسماوية والجميع وجد فيها مثال الحضارة الحديثة

باريس في أواخر القرن التاسع عشر عندما زارها الكتاب العرب (متحف كانافاليه)

ملخص

كتاب الناقد خليل الشيخ "باريس في الأدب العربي الحديث" يفتح نافذة جديدة في نقد "الأدب المقارن" العربي، يطل من خلالها على "العلاقة بين المركز والأطراف".

نادراً ما أولى النقاد العرب كبير اهتمام بما يسمى "أدب المدن" الذي يدرج عادة في خانة "الأدب المقارن"، ولم تجذبهم كثيراً مقاربة أثر المدن الغربية في الأدب العربي، رواية أو قصاً وشعراً وحتى نقداً. فظل هذا الميدان وقفاً على بضعة أبحاث لم تنل حجمها في المعترك الأدبي. على أن قضية العلاقة بين الغرب والشرق شغلت النقاد كثيراً، وكانت هي الأبرز في حقل النقد المقارن الذي تناول هذه القضية، كما تجلت في روايات معروفة مثل "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس و"موسم الهجرة إلى الشمال" وسواها. نالت قضية العلاقة بين الشرق والغرب أدبياً وروائياً، رواجاً نقدياً واستقطبت نقاداً كثراً حتى باتت شبه مستهلكة ومن نواحيها كافة، السياسية والحضارية والنفسية والجنسية...

لعل كتاب الناقد خليل الشيخ "باريس في الأدب العربي الحديث" الصادر عن مركز أبو ظبي للغة العربية، سلسلة "إصدرات"، يفتح نافذة جديدة في نقد "الأدب المقارن" العربي، يطل من خلالها على "العلاقة بين المركز والأطراف"، وهي قضية مهمة جداً وراهنة دوماً، على رغم الثورة المعلوماتية التي حدثت في حقل التواصل والإعلام والتبادل الثقافي والتي جعلت العالم "قرية" كونية مفتوحة الحدود افتراضياً. لكن هذه العلاقة بين "المركز والأطراف" لم تتأثر بهذا الانفتاح كثيراً، فالعولمة زادت من المفهوم المركزي (الأميركي خصوصاً) على خلاف ما حملت إلى البشر من وعود.

باريس في الرواية والشعر والفكر

 

يتناول الشيخ في كتابه الذي كان صدر في طبعة أولى عام 1998 عن المؤسسة العربية حضور باريس في الأدب العربي الحديث عبر تجلياته المتعددة في السرد والشعر والفكر وأدب الرحلة، في أعمال روائيين وشعراء وكتّاب ينتمون إلى مراحل وأمكنة ومراتب وأمزجة تختلف بين مبدع وآخر. وصفة "الحديث" هنا تشمل نصوصاً كتبت بدءاً من عام 1834 عام صدور كتاب رفاعة الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، حتى أواسط القرن الـ20 وما بعد. غير أن اختيار باريس كما يشير الشيخ، بصفتها مركزاً يجذب أطرافاً عدة من العالم العربي، لا يهدف إلى الترويج لها من منظور فرانكوفوني أو سياسي ، بمقدار ما يروم تحليل "لحظة معقدة بين تاريخ الثقافة الحضارية بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي المعاصر".

ويتوقف عند مظاهر الاحتفاء الثقافي، الفريد عربياً، في مدينة باريس والذي لم يشمل أي مدينة أخرى، وبدا احتفاء غير خالٍ من فرح الاكتشاف ودهشته، ولم يخل في آن واحد من "تأمل حزين للذات الحضارية العربية التي غدت هامشية ومتخلفة، قياساً إلى الحضارة الغربية التي تعد نفسها مركزاً للعالم ونقطة جذب إليه".  وقد تجلت جاذبية هذه المدينة من خلال بعدين، تمثل الأول في "إضفاء المثالية" على باريس على نحو يربطها بصورة الجنة، الدينية أو الأرضية. لكن هذا الربط لا يلغي الأبعاد الجيوسياسية والا التناقض الجلي بين الشرق والغرب، بل يسبغ طابعاً يوتويباً على باريس، كما يعرب المؤلف. ولعل ما يرسخ هذا الانبهار المثالي هو توافق عدد من الكتاب العرب على هذه الصفة. يصف مثلاً فرنسيس مراش باريس بـ"جنة هذا العصر"، ويقول عنها مصطفى عبدالرازق "باريس جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فيها للأرواح غذاء وللأبدان غذاء". أما محمد كرد علي فقال فيها "جنة أرضية جمع فيها موجدوها -استغفر الله- ما لا عين رأت"...

 

أما البعد الثاني، فهو ذو طابع حضاري يقضي بأن بناء مشروع النهضة العربية المعاصرة يجب أن يمر بهذه المدينة، المركز التي رأى فيها الطهطاوي "أحكم سائر بلاد الدنيا وديار العلوم البرانية وأثينة الفرنساوية". ويرى الشيخ أن من الضروري الإشارة إلى أن أول رحلة عربية إلى باريس قام بها حنا دياب عام 1708، آتياً من حلب مسقط رأسه. وبحسب الشيخ، كان على اكتشاف هذه الرحلة في تسعينيات القرن الماضي، أن تمثل نقطة تحول في الدراسات العربية الخاصة بمدينة باريس. وفي هذا السياق يتناول ظاهرة هذا الرجل الحلبي، المترجم الذي يجيد الفرنسية والذي قابل لويس الـ14 فور وصوله إلى الحاضرة الفرنسية. ويتوسع في تناول رحلته وشخصيته ومساعدته المعروفة للباحث الفرنسي الشهير أنطوان غالان خلال ترجمته الشهيرة لـ"ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية. وفي هذا الشأن يقول بورخيس إن دياب تولى تأليف حكايات معروفة وشائعة في "الليالي" ومنها حكاية علاء الدين وعلي بابا والأمير أحمد والساحرة وأبو حسن النايم واليقظان الأختان الغيورتان... لكن الشيخ ينقل عن مترجمة رحلة حنا دياب إلى الفرنسية فحمة تييري (صدرت عن دار أكت سود) أن هذه الحكايات هي نسيج سوري – فرنسي مشترك. وما لبثت هذه الرحلة أن صدرت بالعربية عن دار الجمل. واللافت أن دياب الحلبي كتب رحلته بالعامية السورية، مما جعلها تتسم بالعفوية والبساطة وبعيدة من مواصفات الأدب وبدا فيها متأثراً قليلاً بـ"الليالي".

مكانة عالمية

في مستهل الفصل الأول يرى الشيخ أن مكانة باريس في الأدب العربي تغدو امتداداً لما لها من مكانة في الآداب العالمية. فهذه  المدينة هي من العواصم القليلة في العالم التي ظلت موضوعاً و"موتيفاً" من الناحية الأدبية، نظراً إلى ما تمثله من قيم جمالية وحضارية. فهي مدينة عالمية تنصهر في متنها حضارات شتى، وتمثل "مصدر إشعاع حضاري". فصورة باريس الحديثة وتمثلاتها في القرن الـ19 كما يقول، بدأت تتشكل مع ظهور الشاعر بودلير وديوانه الشهير "أزهار الشر". فصعود باريس في شعره "شكل نموذجاً عن تجلّي المدينة في الأزمنة الحديثة". لكن باريس تجلت أيضاً كل التجلي في أعمال روائيين كبار في القرن الـ19 من أمثال فيكتور هوغو وبلزاك وإميل زولا وأوجين سو صاحب "أسرار باريس" وسواهم. وتراوحت صورة باريس في رواياتهم بين مدينة تعاني عبء النظام الإمبراطوري وما تسبب به من فقر وعوز وبؤس وشقاء ("بؤساء" هوغو)، ومدينة تعلن ثورتها الكبرى التي غدت مثالاً عالمياً على رغم ما نجم عنها من صراعات ثورية وردود فعل وأحكام قاسية.

 

وكتب عن هذه الثورة مفكرون عرب كثر وفي طليعتهم أمين الريحاني. ثم تتطور صورة باريس، فإذا هي تنهض نهضة المنقلب الحداثي في أواخر القرن الـ19 لتُشيع معاني العدل والمساواة والحرية. ويتناول الشيخ أبعاد ظهور باريس في الآداب الأوروبية بصفتها "عاصمة للحضارة الغربية وملتقى كل تيارات الفكر في العالم". وهي تمثل في نظر التنويريين رمز المستقبل الذي يتضمن معاني الحرية والسعادة. ويتحدث عن باريس بوصفها "أثينا الجديدة" و"وطناً لكل الكتاب، خصوصاً المجددين منهم". وغدت باريس "مركزاً للصراع بين المجددين والمحافظين" على المستويات كافة، ففيها ظهرت النزعة "الطليعية" ثقافياً وفكرياً وفنياً، لتعم أوروبا والعالم.

 ولعل مراجعة سريعة لما كتب روائيون وشعراء عالميون عن باريس، تكشف عمق الأثر الذي تركته فيهم، وقد أقام فيها كثيرون منهم وتنفسوا هواء الحرية الذي تنعم به، ومن هؤلاء شتيفان زفايغ وريلكه التي كتب فيها أجمل الرسائل ووصفها بـ"المدينة الفريدة والغريبة" وأناييس نين وهنري ميلر وماركيز وجاك كيرواك  وإرنست همنغواي الذي كتب عنها كتابه الجميل "باريس عيد"، وفيه يقول "إذا كان لك الحظ أن تعيش شاباً في باريس فهي لن تتركك أبداً. باريس هي عيد". وقد زارها كافكا برفقة صديقه ماكس برود عام 1911 وقال عنها "شعرت بأن باريس تجثم على صدري". وشغلته حينذاك قضية سرقة الشاعر الكبير غيوم أبولينير لوحة الموناليزا من متحف اللوفر. في هذا العام كان جمع من الكتاب العرب يجوبون باريس ولكن بحثاً عن أمور أخرى.

أما اهتمام الأدب العربي بمدينة باريس بحسب الشيخ، فهو لم يظهر إلا بعد ربع قرن من غزو نابوليون مصر عام  1798، وقد وفد ومعه حشد من الخبراء والمهتمين بقضايا الشرق العربي الذين يجيدون لغة الضاد واللغات القديمة، والعارفين بالأبعاد الحضارية المصرية في معظم النواحي. ويأخذ عن الجبرتي أن المصريين ومثقفيهم تحديداً لم يكونوا يجيدون اللغة الفرنسية ولا التاريخ الفرنسي وكذلك الأدب، على خلاف العلماء والمستشرقين الفرنسيين الذين كانوا على اهتمام بالتراث العربي وترجمته.

 

وفي هذا السياق يتناول المؤلف رحلات محمد علي إلى إيطاليا (1809- 1813) ثم إلى فرنسا عام 1820 طامحاً إلى بناء دولة مصرية عصرية، ويتوقف عند بعض التفاصيل السياسية والدولية التي برزت حينذاك، خصوصاً بعد الخسارة الفرنسية في مصر عقب احتلال الإنجليز لها، وكيف تمكنت فرنسا من الحفاظ على وجودها الثقافي ولغتها وأدبها عن طريق المدارس والبعثات والترجمة. وكان رفاعة الطهطاوي أرسى جذور الاهتمام بالثقافة والأدب الفرنسيين، لا سيما في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وترجم الدستور الفرنسي وكتباً أدبية. ثم في عهد الخديوي إسماعيل تعزز حضور الثقافة الفرنسية في مصر واتجه الكتاب نحوها متقنين لغة موليير. وشرع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني يشجعان أيضاً على تعلم الفرنسية. وراح الكتاب يسافرون إلى باريس بغية التحصيل المعرفي والأدبي.  وبرز في هذا الحقل محمد عثمان جلال بصفته نموذجاً عن الطهطاوي (كان تلميذاً له) فراح يدعم الثقافة الفرنسية. أما يعقوب صنوع (أبو نضارة)، فسمى نفسه "موليير مصر" ولما نفاه الخديوي اختار باريس وفيها أصدر جريدته التي تندد بالخديوي والاحتلال الإنجليزي.

الساحة المصرية

 يقدم الشيخ هنا معظم الوقائع التي عرفتها الساحة المصرية والرحلات التي قام بها أدباء مصريون، والسجالات التي دارت حول الثقافة الفرنسية ومنها مثلاً مقولة "عربي تفرنج" وسواها. ثم ينتقل إلى بلاد الشام ورواج الثقافة الفرنسية في ظهرانيها من خلال الإرساليات التبشيرية المسيحية، لا سيما الكاثوليكية والجزويتية (اليسوعية) الفرنكوفونية، بدءاً من ثلاثينيات القرن الـ19، في مواجهة البعثات البروتستانتية الأنغلوساكسونية. ويتناول نموذج الكاتب المسرحي مارون النقاش الذي درس الأدب الفرنسي وتأثر به وكتب مسرحية "البخيل" التي تتكئ قليلاً على مسرحية موليير الشهيرة، وقدمها في بيروت عام 1847 وسمي "المسرحي العربي الأول".

 

يقدم  المؤلف من ثم صورة شاملة عن مظاهر الحضور الفرنسي الثقافي في بلاد الشام مثل الترجمات الأدبية والفكرية والإنجازات الثقافية، ويسمي بعض الأعلام الذين برزوا في تلك الحقبة في حقلي الفكر وعلم السياسة ومنهم نجيب الحداد وأديب إسحاق وأحمد فارس الشدياق قبل تمرده على الكاثوليك وانضمامه إلى البروتستانت واعتناقه الإسلام، وروحي الخالدي وقسطاكي الحمصي وشبلي الشميل وفرنسيس مراش وجبرائيل الحلبي...

أما على الصعيد العروبي والقومي، فيورد المؤلف أن باريس احتضنت الحركات القومية العربية وعقد فيها المؤتمر العربي الأول في الـ18 من يونيو (حزيران) 1913 وتأثر بعض رواد الحركة القومية بالثقافة والفكر السياسي الفرنسيين، ومنهم على سبيل المثل عبدالغني العريسي ونجيب عازوري صاحب الكتاب الشهير "يقظة الأمة العربية" الذي كتبه في باريس بالفرنسية وأصدره فيها عام 1905.

ويقدم الشيخ من ثم أبرز المفكرين والكتاب والشعراء الذين سافروا إلى باريس وأقاموا فيها وكتبوا عنها على ضوء منهج الأدب المقارن، ساعياً إلى استخراج الموقف الحضاري العربي من الحضارة الغربية الذي تجسد في مدينة باريس. وفي طليعة هؤلاء الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي الذي سافر إلى باريس عام 1826، وشكل سفره هذا تجربة جديدة، خصوصاً من جهة العلاقة  بين المشرق العربي والغرب الأوروبي، كما يقول المؤلف. وبعد ثلاثة أعوام على رجوعه أصدر كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" عام 1834 الذي يعد أول كتاب عربي عن باريس وكان خلاصة هذه التجربة الفريدة، لا سيما في "حث ديار الإسلام على البحث عن العلوم البرانية والفنون والصنائع". لكن الكتاب أورد وقائع نادرة وانطباعات ولوحات ومشاهد و"غرائب" من العاصمة الفرنسية في وجوه عدة، عمرانية وثقافية وفنية وعلمية واجتماعية وحياتية وسياسية ودينية وسواها. ولفته أن في باريس، "القبلة الحضارية العلمية" لمصر محمد علي الذي تولى إرساله، "يباح التعبد بسائر الأديان" وأنها "أثينة الفرنساوية" ومن "أعمر مدائن الدنيا ومن أعظم مدائن الإفرنج". لكن ما أزعجه فيها، هي مدينة الجمال والتقدم، أن تكون "مدينة كفر" و"ليل الكفر ليس له صباح"، وهذا برأيه أمر عجيب، كما يقول في بعض أبياته. هذا كتاب من أجمل ما كتب عن باريس عصرذاك، بشغف صاحبه وحماسته واندفاعه وعمق نظرته وبساطتها في آن واحد، عطفاً على لغته النهضوية غير المقعرة بل المنفتحة على تحولات المرحلة لغوياً.

 

ثم يتطرق الشيخ إلى كتاب علي مبارك وعنوانه "علم الدين" وهو يكشف عن رؤية متميزة إلى باريس وسببها الرئيس أنها رؤية شاب فقير قصد باريس ليكمل دراسته ضمن "بعثة الأنجال" في عهد الخديوي سعيد، فدرس فيها بين 1844 و1850 فنون الهندسة الحربية. وفي كتابه هذا لم يعبر مبارك عن رؤيته مباشرة بل اختلق شخصيات قصصية مثل علم الدين وولده برهان الدين والمستشرق الإنجليزي وسواهم، ساعياً إلى الفصل بين تجربته الشخصية والتعبير عنها في ما يشبه القالب القصصي.

أحمد فارس الشدياق

أما فارس الشدياق، فيخصه الشيخ بصفحات يتطرق فيها إلى شخصيته و"قضيته" الإشكالية مع طائفته المارونية وانضمامه إلى البروتستانتية ثم إعلان إسلامه مبتنياً اسم أحمد، علاوة على كتابيه عن باريس، "الساق على الساق في ما هو الفارياق" (1855) و"كشف المخبا في فنون أوروبا" (1867). جاء الشدياق إلى باريس آتياً من لندن التي لم ترق له الحياة فيها بتاتاً، فهو هناك، لم يتدبر وظيفة وهناك مات ابنه ومرضت امرأته. كتب الشدياق "الساق على الساق في ما هو الفارياق" في الـ50 من عمره، وفيه يعالج أمرين كرس حياته لسبر غوريهما، اللغة والمراة. وقصد إلى "اللغة ونوادرها" ثم إلى ذكر محامد النساء ومذاقهن، متكئاً على تضلعه من العربية و"مفاتنها". وانتحل في سرد القصص والمشاهدات والوقائع، اسم فارياق ليتحدث عن نفسه عبر ضمير الغائب، مخفياً وراءه صراحته العارية وسخريته العابثة من كل ما أراد أن يسخر منه، مثل النساء وبعض المظاهر الباريسية والعادات. ويعد الكتاب من أهم الأعمال الأدبية العربية في عصره، نظراً إلى فرادة أسلوبه بل أساليبه، وبساطة لغته ومتانتها وغرابة اشتقاقاته ومترادافاته وطرائفه "الفانتازية"، ناهيك عن تماسك السبك والصوغ في السرد المتوالي.

 

ثم يقدم كتابه الآخر "كشف المخبا عن فنون أوروبا" الذي نشر بعد 12 عاماً على نشر "الساق على الساق في ما هو الفارياق"، وهو يختلف عنه طباعاً ومزاجاً، وكذلك في نظرة الشدياق إلى باريس مكاناً وحضارة. فهو كان ابتعد عن الغرب فترة بدأ ينظر خلالها إلى الغرب نظرة موضوعية، فأورد في كتابه إحصاءات ومعلومات، واعتمد الوصف الجغرافي والسرد التاريخي والمقارنة، مبتعداً عن المضارب الإنشائية والبلاغية والاستطراد. ويتوسع الشيخ في هذا الكتاب كما في سابقه والكتب اللاحقة، موضحاً ما احتوى من خصائص ومتوقفاً عند مواده الأبرز التي تخدم بحثه. وينتقل من بعد ذلك إلى فرنسيس مراش الذي أقام في باريس نحو عامين ووضع كتابين عبر فيهما عن علاقته بهذه المدينة مكاناً وحضارة وهما "رحلة باريس" و"مشهد الأحوال". ورصد في الأول وجهة نظر الرحالة إلى باريس وفي الثاني ألقى على المدينة وأحوالها نظرة الباحث الاجتماعي والعمراني والحضاري.

 وفي تناوله كتاب "حديث عيسى بن هشام" للكاتب المصري محمد المويلحي يتوقف عند مقولته في تجسيد باريس كنموذج لـ"المدينة الغربية" ويتطرق إلى الفروق بين مصر والغرب أو العرب والغربيين وإلى التناقض بينهما. ويأخذ على المصريين وقوعهم في التقليد واستعارتهم تجارب الغربيين من دون تمحص أو نقد. لكنه في نقده الاستعمار لم يغفل قضية التقدم الغربي الشامل.

وفي سياق مقاربته ما كتب من نصوص في السرد وأدب الرحلة والتحليل الاجتماعي والسياسي يتوقف الشيخ أيضاً عند كتاب توفيق البكري، أحد مشايخ الطرق الصوفية، "صهريج اللؤلؤ" الذي يستحضر فيه جماليات الأمكنة التراثية على رغم أنه لم يمكث في باريس سوى بضعة أشهر. ومن طرائفه في الكتاب وقوفه أمام قبر نابليون وقوله المفرط في الإنشائية، "يود لو قام شبل من نسله أو رجل من أهله فاسترجع ملكه بعد الذهاب، وحفظ من نور ذلك المجد بقدر ما يحفظ البدر نور الشمس بعد الغياب". أما الكاتب المصري أحمد زكي باشا، فقد زار باريس عام 1900 وسجل انطباعاته عن المدينة في كتاب "الدنيا في باريس" ورسم ملامحها بحسب الشيخ، على الطريقة السردية في "ألف ليلة وليلة" نظراً إلى ما وجد فيها من سحر وجمال وجاذبية. وكتب يقول منحازاً أيضاً إلى الفن الإنشائي "هذه باريس تحفة الدنيا ونزهة العالم وزهرة الكون. هذه باريس جنة الجنائن ومدينة المدائن وعاصمة العواصم...".

رحلة مصطفى عبد الرازق

يتوقف الشيخ عند رحلة مصطفى عبدالرازق شيخ جامع الأزهر، إلى باريس عام 1909، وهو العام الذي سافر فيه إلى باريس أيضاً  محمد كرد علي ومحمد حسين هيكل. تابع عبدالرازق دروس العالم إميل دوركهايم  في السوربون، ثم دروساً في الفلسفة والأدب في جامعة ليون ووضع عبدالرازق كتابين تحدث فيهما عن رحلته الباريسية، الأول بعنوان "صفحات من سفر الحياة" وأوجز فيه الكلام، والثاني "مذكرات مسافر" أطال فيه الكلام عن حياته الباريسية والفرنسية. في المذكرات يصور عبدالرازق باريس مكاناً طاهراً، فهي بحسبانه "مملكة المدائن" و"جماع ما استصفاه الدهر عنه من نفائس المدنيات البائدة وما تمخض عنه ذوق البشر وعقلهم من آيات الفن والعلم والجمال". ولا يني يصفها بالجنة التي "فيها ما تشتهي النفوس... وما ينزع إليه ابن آدم من جد ولهو ونشوة وصحوة ولذة وطرب وعلم وأدب وحرية". بل هو يماهي باريس بالجنة في ما توحي به مفردات يستخدمها مثل الحور والولدان والنيران والصراط والميزان والفجار والصالحين والملائكة والشياطين". ولعل في مثل هذا الوصف ما يدل على أن هذه النظرة هي نظرة متحررة لرجل أزهري، إلى شؤون تُعد من أركان الدين، كما يشير الشيخ، مستعيداً مقارنة مصطفى عبدالرازق في كتابه بين الذهاب إلى الحج والذهاب إلى باريس. وثمة هنا مبالغة تفوق التوقع وتعبر عن حماسة وحمياً لا قبل للقراء آنذاك، بمثلهما.

أما زيارة محمد كرد علي، فكانت "من أعظم أماني النفس" كما ورد في كتابه "غرائب الغرب"، بل هي الرحلة التي أتاحت له الفرصة ليدرس حضارة الغرب في منبعها، أو مركزها. وفي أحد نصوصه يورد "اللهم هل خلقت باريس من معدن اللطف والظرف لتكون مثالاً من جنة أرضية". ويحيّي باريس في كتابه مستهلاً تحيته غالباً بـ"سلام عليك"، كأن يقول مثلاً "سلام عليك مرضعة الحكمة وربيبة الإخاء والنعمة...".

وفي ختام هذا الفصل لا بد من تناول ظاهرة الكاتب محمد تيمور الذي توفي شاباً، وكان قد سافر إلى باريس في الـ19 من عمره ومكث فيها ثلاثة أعوام دارساً الحقوق على مضض. كتب تيمور "مذكراتي في باريس" على نحو سردي واختار مثيلاً له أو قريناً، هو شاب مصري يدعى حسن يدرس الحقوق ويمل دراستها. لكنه لا يلبث أن يقع في فتنة باريس فيحبها، ويروح يتعرف إلى معالمها عن كثب. ويقع في حب سيدة تدعى مارغريت، يهديها كتاباً للمعري، مترجماً إلى الفرنسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويخص المؤلف باريس في الشعر العربي بفصل يتناول فيه الشعراء الذين كتبوا قصائد في باريس أو عنها، وفي رأيه أن صورة باريس تطورت في الشعر العربي الجديد وكان تطورها دليلاً على تطور الوعي القومي العربي، فامتزجت العناصر الثقافية والوجدانية والموضوعية والذاتية، بعضها ببعض. وكان حافظ ابراهيم مترجم "البؤساء" لفيكتور هوغو كتب قصيدة في مناسبة صدور مختارات شعرية فرنسية مترجمة إلى العربية، يقول فيها "بلغ إذا جئت باريزا أفاضلها/ عنا التحيات واشفعها بشكران". لكن التطور تجلى في سياقات رئيسة تبدو فيها باريس ذات بعد جمالي، والمدينة - المرأة ومدينة الحضارة الحديثة. واللافت أن معظم الأدباء والكتاب الذين ورد ذكرهم سابقاً، تضمنت كتبهم قصائد جمة وبدا كثير منها "مناسباتياً" وشبه مصطنع. يذكر المؤلف عبدالله فكري وحفني ناصف وخيرالدين الزركلي ويحلل قصائدهم. ويتناول قصيدة محمد مهدي الجوهري عن باريس التي يقول فيها "تعاليت باريس أم النضال/ وأم الجمال وأم النغم"، فيحللها ويستخلص خصالها الشعرية والبنائية. ثم يتناول قصيدته "شهرزاد" التي تتوقف عند أحد أجمل مراقص باريس، وفيها تصبح "أنيتا" هي باريس نفسها.

ويقدم قصيدة نزار قباني وعنوانها "وجودية" ويعبر فيها الشاعر الدمشقي عن حبه لامرأة تدعى جانين التقاها في باريس "كان اسمها جانين/ لقيتها أذكر في باريس من سنين". وكتب قباني أيضاً قصيدة باريسية انتحل فيها قصيدة الشاعر الفرنسي جاك بريفير الشهيرة "فطور الصباح" التي كان قرأها مترجمة في رواية سهيل إدريس "الحي اللاتيني" وسماها "مع جريدة"، ودرءاً للفضيحة أو النقد أهداها إلى جاك بريفير. أما الشاعر بدر شاكر السياب، فكتب في باريس قصيدتين عنها وعن استشفائه في أحد مصحاتها خلال مرضه ووهنه عام 1863 قبل أشهر من وفاته، الأولى بعنوان "من ليالي السهاد – ليلة في باريس" والثانية "أحبيني" ويفصل بينهما يومان. ويروي المؤلف قصة هاتين القصيدتين، لا سيما قصة "أحبيني" الطريفة كل الطرافة، على رغم طابعها المأساوي، ويحلل موقعهما في شعر السياب الأخير. ولا ينسى عبدالوهاب البياتي وعبدالمعطي حجازي وأدونيس وما تتميز به قصائدهم الباريسية من أبعاد نضالية وحداثية وجمالية.

شعر أحمد شوقي

اللافت أن المؤلف يخص الشاعر أحمد شوقي بصفحات غير قليلة في الدراستين الثانية والثالثة ويرى أن شعر احمد شوقي يعكس اهتماماً لديه بباريس في جريرة اهتمامه بالمدن عموماً، فهو كتب عن دمشق وزحلة وأنقرة وروما وجنيف وباريس. قرن شوقي باريس بصورة المرأة المحبوبة المتنعمة التي يعز وصالها. وأمضى شوقي في باريس ثلاثة أعوام (1890 – 1893)، فدرس الحقوق واطلع على ما أمكنه من الشعر الفرنسي الرومانطيقي من غير أن يتابع الشعر الحديث الذي كان يسيطر على المشهد حينذاك بجمالياته وقضاياه وثوراته الجديدة. ويقول إنه انغمس في قراءة فيكتور هوغو ولامارتين وألفرد دو موسيه، "لقد كنت أفني هذا الثالوث ويفنيني". رأى شوقي في باريس قبلة حضارية ومدينة النور وكتب فيها قصيدتين، مطلع الأولى، "جهد الصبابة ما أكابد فيك/ لو كان ما قد ذقته يكفيك"، ومطلع الثانية "يا غاب بولون ولي/ ذمم عليك ولي عهود". ويغرق الشيخ في تحليل هاتين القصيدتين مبرزاً ما تتميزان به من مميزات "شوقية".

كتاب خليل الشيخ "باريس في الأدب العربي الحديث" عمل تأسيسي في ميدان النقد الأدبي المقارن ونقد أدب المدن، بل هو من الكتب النادرة جداً التي تطرقت إلى هذه القضية، والتي تنتمي في وقت واحد إلى النقد الأدبي والثقافي مع استناد منهجي إلى البحث التاريخي والحضاري. وعلى الرغم من صفحاته المئتين والخمسين فهو يختصر مكتبة كاملة تدور حول باريس وتجلياتها الأدبية والفكرية في الأدب العربي المتراوح زمناً، بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. فهو قدم هذه الكتب وأخضعها لقراءة نقدية متعددة الوجهات، راسماً من خلالها ما يمكن تسميته جدارية "باريس الأدب العربي". ولعل الكتب التي اعتمدها في هذه القراءة، تضم صفحات بديعة لا تزال على مر العقود، حية وفريدة، بل وطريفة، أسلوبا ولغة ورؤية. ولا بد من أن تشهد المكتبة العربية كتباً نقدية جديدة يكمل جهود الشيخ، وتتناول حضور باريس في الروايات العربية الراهنة، وهي غير قليلة، وأصحابها من الروائيين المعروفين، بعضهم يعيش في باريس وبعضهم يستوحيها، ساحة للوقائع والشخصيات.

وما أحوجنا اليوم، في المرحلة الراهنة التي تشهد فيها بعض المدن الفرنسية ومنها باريس، مواجهات عنيفة و"صدامية" وربما "حضارية" ، ما أحوجنا أن نعود إلى هذا الكتاب الذي يدحض المقولات الحاقدة والحقودة، حول العلاقة بين الشرق والغرب، ويقدم صورة جلية عن هذه العلاقة، في أوج تألقها الثقافي والحضاري والتنويري.  

المزيد من ثقافة