ملخص
يتمكن المصريون من التعرف على ثقافة صاحب السيارة وميوله الكروية بل وديانته من الملصقات والشعارات.. فما القصة؟
تخبر السيارات في مصر كثيراً عن صاحبها، انتماؤه الكروي حيناً والديني أحياناً، عمره بالتقريب وجنسه أيضاً، وربما بعض اهتماماته، ينبئ لون طلائها عن أمور، وأنواعها عن شخصية راكبها ومستواه، وما إذا كان كلاسيكاً أو يميل ولو قليلاً إلى التهور.
ملصق وعلم وكتابة وإكسسوارات، تزين كثيراً من المركبات ووسائل النقل في مصر، باختلاف أنواعها، ما بين السيارات الملاكي (الخاصة) والأجرة (نقل الركاب)، وكذلك الميكروباصات والباصات (الحافلات) والتوكتوك (مركبة نارية ذات ثلاث عجلات) ، وحتى الكارو (عربات تجرها الخيول أو الحمير)، لكل استخدامه ووظيفته.
منزلي الثاني
بإناء يحوي ماء وقطعة إسفنج ومنظفاً سائلاً، كان محمود عادل ينظف سيارته الميكروباص قبل أن تمتلئ بالركاب، ويتحرك بها من شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية (شمال القاهرة)، إلى مدينة السادس من أكتوبر في محافظة الجيزة (جنوب غربي القاهرة)، ينادي على المارة لعل صوته يجذب أحدهم من الذين ضلوا الطريق إلى موقف السيارات المتحركة إلى وجهتهم، بينما تميز سيارته ملصقات عدة، كانت جميعها دينية، عدا واحدة.
"أمي أعز ما أملك" تزين العبارة خلفية الميكروباص، ولصقت في مكان واضح للأعين، ومن تحتها ملصقات أخرى دينية، تحمل عبارات مختلفة مثل "ما شاء الله" و"الرزق على ربنا مش على البشر"، و"صلي على النبي" وإن ضم بعضها أخطاء إملائية.
يقول محمود ذو الـ36 سنة إن هذا الميكروباص الثاني الذي يمتلكه، ويحرص على نظافته، وأيضاً على تميزه داخل أي موقف للسيارات، سواء كان ذلك بإكسسوارات أو ملصقات أو تمائم داخل العربة، يتعامل الرجل الذي لديه ثلاثة أطفال وتعد السيارة مصدر رزقه، على أنها بيته الثاني بحسب تعبيره، إذ يقضي فيها أكثر من 12 ساعة يومياً، أو أكثر بحسب طبيعة يوم العمل، وهو وقت يفوق أحياناً الوقت الذي يقضيه في منزله.
"إذا كنت تجلس في بيتك فإنك ستحب أن تراه في أفضل أشكاله، هكذا يمثل لي الميكروباص، وكما أضع عبارات على باب منزلي أفعل الأمر نفسه مع الميكروباص"، يحكي الرجل الذي يذهب كل فترة إلى متجر يبيع إكسسوارات السيارات ويشتري بعضها ويزين بها سيارته، لكنه يحرص أكثر على الملصقات الدينية من غيرها، ويرى في الأمر بركة تتحصل له خلال سيره.
ملصقات البركة
وتسيطر الملصقات الدينية والكتابات على المركبات بشكل كبير، بعضها يتعلق بدفع الحسد، مثل آيات من القرآن، أبرزها "قل أعوذ برب الفلق" أو طلب البركة والمعونة على شاكلة "مدد يا آل البيت"، أو "مدد يا أم النور"، فيما تظهر أحياناً صور لشخصيات دينية على بعض السيارات، مثل صورة "الشيخ الشعراوي" أو "البابا شنودة" وإن كانت صور الأول أكثر انتشاراً لا سيما في السيارات الأجرة، كما توضع المصاحف في مقدمة السيارة، وكذلك الصليب أحياناً.
يقول إبراهيم ميلاد، الذي يملك "توكتوك" في حي شبرا بمحافظة القاهرة، إنه يضع بعض الملصقات الدينية المسيحية على مركبته الصغيرة، بقصد حلول البركة والحفظ، كما أنها تعطي مظهراً مميزاً ومختلفاً لمركبته عن غيرها، كما يفعل كثيرون حوله، لكنه لا يفضل المبالغة في الأمر "ملصق أو اثنين بكثير، لا أضع أكثر من هذا، لكن بعض الشباب يفضلون وضع ملصقات كثيرة، ورسوم عدة، لكن هذا مبالغ فيه" يحكي الرجل الذي كتب اسم ابنتيه على التوكتوك، افتخاراً واعتزازاً بهما.
نظرة حسد
دفع الحسد، بحسب سائقين عدة يكون بأكثر من أمر، فهو بالأصابع الخمس، وبالخرزة الزرقاء، وبحث من تقع عينه على المركبة أن يقول "ما شاء الله"، أو أن تدون على المركبات عبارات مختلفة تدور في فلك "متبصليش بعين رضية (سيئة) شوف اللي اتدفع في" أو "الحلوة خوخة جت بعد دوخة (تعب كثير)" أو "نظرة حسد ولا عضة أسد"، كما تكون هناك لافتات مكتوبة باليد أو مطبوعة، مرفق معها رقم هاتف مزيف تدعي أن "العربية للبيع"، دفعاً لعين حاسد ونقمه.
سائق التاكسي فهمي جمال، الذي له 25 عاماً في هذا العمل، وضع لافتة مطبوعة تفيد بأن سيارته الأجرة للبيع، وبينما كان يقف وسط أصحاب سيارات أخرى يشربون الشاي في ميدان رمسيس بالقاهرة، على بعد خطوات من محطة مصر، وهي المحطة المركزية للقطارات في القاهرة، كان الواقفون معه يتندرون على الأمر، ويسخرون من خوفه من الحسد، وعلى رغم مجاراتهم في الضحك، إلا أنه أخبرهم أنه اشترى التاكسي وعليه أقساط يدفعها بشكل شهري، ويخشى الحسد فعلاً، مضيفاً "أنا مؤمن جداً بالحسد، فهو مذكور في القرآن، وعلينا الاستعاذة منه، فحين أضع الورقة يعتقد بعضهم أن وضعي صعب وفي حاجة إلى البيع فلا يحسدونني".
سيارة فهمي، تضم أيضاً ملصقاً للنادي الأهلي، يميزها نسره الشهير، وهو ملصق يجذب حديثاً طويلاً مع الزبائن، وهو مادة غنية بالحديث في مصر، إذ إن لكرة القدم شعبية كبيرة، ويكون الاستقطاب فيها لناديي الأهلي أو الزمالك، الذي يميز شعاره خطين باللون الأحمر والخلفية البيضاء، وملصقات الكرة كثيرة على عدد من المركبات، كذلك أعلام الأندية، وبعضها غير مصري، لكنها تكون منتشرة بشكل أكبر في السيارات التي يقودها شباب صغار السن، على عكس الكبار.
حضور شبابي
والفئة الأصغر سناً من مالكي المركبات، تلجأ بشكل أكبر للملصقات التي تفيض بالحكم الشعبية، والأغاني سواء التراثية منها أو الجديدة، وملصقات تحمل رموزاً للقوة، كالجمجمة والسكاكين ورفع الأثقال، وبعض الأبطال في مجالات مختلفة ككرة القدم وعالم الرياضة، أو حتى نجوم الفن، وملصقات أخرى تدل على السرعة أثناء القيادة، والقدرة على تخطي أية سيارة مجاورة، ناصحاً بعدم تجربة ذلك الشيء أو الاقتراب من مركبته مثل "تلمسها تلبسها"، وهي تعني عدم التهاون مع أي سائق يصطدم أو يجرح سيارته بأي شكل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن المادة 74 مكرر، من قانون المرور في مصر، تنص على أنه يعاقب بغرامة لا تقل عن 100 جنيه (3.23 دولار) ولا تزيد على 300 جنيه (9.69 دولار) كل من ارتكب عدداً من الأفعال، كان منها "إضافة ملصقات أو معلقات أو وضع أية كتابة أو رسم أو أي رموز أو أي بيانات أخرى غير تلك الواجبة بحكم القانون واللوائح على جسم المركبة أو أي جزء من أجزائها، أو لوحاتها المعدنية" فإن الأمر لا يخضع دوماً لتلك الغرامة، بحسب كثيرين ممن تحدثت معهم "اندبندنت عربية".
وفي مصر يبلغ عدد المركبات المرخصة، في محافظات الجمهورية نحو 9.9 مليون مركبة، حتى نهاية العام الماضي 2022، كان نصيب السيارات الملاكي منها 5.1 مليون سيارة، وأكثر من 3 ملايين شاحنة، تليها 328 ألف سيارة أجرة، و173 ألف حافلة، إضافة إلى المركبات الأخرى ومنها الدراجات النارية، وكانت محافظة القاهرة صاحبة المرتبة الأولى في عدد المركبات بواقع 2.6 مليون مركبة، ثم الجيزة بنحو 1.3 مليون مركبة، بعدها الإسكندرية بأكثر من 722 ألف مركبة.
أهواء وأمزجة
ولا تضع كل سيارة ملصقات أو شعارات، فالأمر متوقف على مزاج صاحبها، إذ يميل بعضهم لترك سيارتهم من دون أي ملصقات، باعتبار أن ذلك أكثر جمالاً للسيارة ويليق بها، "كما أن بعضهم يبالغ في أثاث منزله أو تزيينه، هناك من يفضلون البساطة، وهذا رقي وهذا أيضاً رقي، كل بحسب ثقافته وبيئته" يقولها رمضان حسن، الذي يعتبر وضع ملصقات على السيارة أو شعارات أو عبارات يضر بشكلها أكثر مما ينفعها.
ويحكي الشاب حسن الذي اشترى سيارة مستعملة منذ أشهر متابعاً "حين اشتريت سيارتي كان عليها ملصقات، قمت بإزالتها وأعدت طلاءها من جديد، لم أرغب في وجود ملصق واحد، ولا أحب وجود أي رمز أو إكسسوارات زائدة داخلها أو ملصق عليها"، ويرى في ذلك الأمر بساطة تليق بمركبة تعينه على التنقل، مضيفاً "أشعر بأن الملصقات تكلف زائد في غير محله، وقد يستخدمها بعضهم لمحاولة إظهار شيء ما، كثقافته أو مستواه المادي، وهي أمور لا أفضلها"، كما يرى الشاب أيضاً أن العبارات الدينية المكتوبة على السيارات لا تحمي صاحبها من خطر، لكن ما يحميه اتباع قواعد المرور ليس أكثر.
السياسة والدين
من جهته يرى متخصص علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأميركية بالقاهرة سعيد صادق أن تلك الشعارات والملصقات نوع من أنواع التعبير، وتدل على شخصية صاحبها وثقافته وتعليمه وأحياناً اتجاهاته "فالشعارات الدينية المتعلقة بالحسد مثلاً، لها علاقة بالطبقية والفروق الاجتماعية، صاحب السيارة في محيط فقير يخشى الحسد من المحيطين به".
ولفت صادق إلى أن بعض تلك الشعارات الدينية تكون أداة نصب، كما لو كان صاحب المركبة يقود سيارة أجرة، فيعطي انطباعاً بأنه متدين، ولن يقبل الغش أو زيادة الأجرة، ويصدقه بعضهم "وبالتالي فلكل شخص هدف من الكلمات المكتوبة، إما التعبير عن الذات، أو لفت الانتباه والمباهاة، أو للظن أن في ذلك حماية من مخاطر".
وحول العبارات السياسية وندرة وجودها، فإن متخصص علم الاجتماع السياسي، يعزو ذلك إلى مساحة الحريات والتعبير من دون خوف، لكن بعضهم قد يضع عبارات يلمح بها من دون تصريح وإلا "فسيتم توقيفه من رجال الأمن، وسيكون لذلك عواقب"، لافتاً إلى أن كثرة تزيين السيارات بالكتابات قد يكون موجوداً في المناطق العشوائية أكثر من الراقية، لأن المجموعة الأخيرة تعتبر أن ذلك من قبيل المباهاة التي تنقص من قدر صاحبها.
تاريخ قديم
كان الملقب بعميد علماء الاجتماع في الوطن العربي سيد عويس من أوائل من تناولوا تلك الظاهرة بالشرح والتحليل، وإخضاعها لمنهج علمي في كتابه "هتاف الصامتين" عن ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في المجتمع المصري، والصادر عام 1970، في دراسة بدأها 1967 وجمع خلالها ألف كلمة وعبارة من 500 مركبة في بعض محافظات مصر، في عامين ونصف عام، إذ إنه سافر خلال تلك الفترة ستة أشهر إلى دول عدة.
الملاحظ في العبارات التي جمعها عويس، أنها تتشابه في المعنى والغرض وإن اختلفت في الأسلوب عن الوقت الحالي، وفي صدارة دراسته جمع عبارات عدة قبل إهداء الكتاب، كان بعضها "النبي تبسم" و"فلسطين عروس ومهرها الدم" و"أحب كل الناس ولا أكره كل الناس"، وكذلك "خليها على جانب الله" و"حياتك يا ظالم ما تمسك حاجة علي" و"تندب في عينك رصاصة ياللي بتبص" و"كفاية يا عين".
اعتبر عويس أن تلك العبارات محاولة من أصحاب المركبات أن تكون أصواتهم مسموعة من دون أن يراهم أحد، لافتاً إلى أن الأمر يعكس عديداً من العناصر الثقافية غير المادية، مشيراً إلى أن الملصقات الدينية كانت ضمن الأكثر تكراراً مثل "يارب سترك" و"يا رب رضاك" و"ما شاء الله"، وكذلك "الصبر جميل" و"توكلت على الله" و"إن ينصركم الله فلا غالب لكم" و"ما توفيقي إلا بالله".
ودون متخصص على الاجتماع في دراسته عدداً من العبارات التي تخبر بالخوف من الحسد ومحاولة دفعه مثل "عين الحسود فيها عود يا حلاوة" و"يا حاسدين الناس مالكم ومال الناس" و"لا تتعجب فإنها قدرة الله" و"كفاية يا عين"، موضحاً أن الكتابات تنوعت من شعبية لدينية لأخرى، بهذا الترتيب، إذ كانت الشعبية عبارة عن أجزاء من أغنية أو تعبيرات بما في ذلك التحذيرات والأمثال والنصائح، وكان لفظ الجلالة الأكثر كتابة ثم لفظ العين تلاه الحب، ثم السلامة، بعدها اسم النبي محمد فالصبر وفي النهاية الأولياء والقديسين.
نصيب الكارو
ثمة عربات أخرى تتحرك بشعارات أكثر، لكنها هذه المرة لا تعمل بالمحركات وإنما بقوة الدفع بواسطة شخص أو الجر بالخيل أو الحمير، وهو أمر تناوله عويس أيضاً، في كتابه "هتاف الصامتين" وما يزال مستمراً، لكن النصيب الأكبر في تلك العربات كان للعبارات المكتوبة بخط اليد، إذ إن الملصقات لن تصلح مع الخشب ولن تستقر عليه طويلاً.
منذ 25 عاماً ومحمد الأسمر يبيع الجيلاتي (آيس كريم) في شبرا الخيمة، ومعه عربة يحركها بيده تحمل ما لذ وطاب من مثلجات للأطفال والكبار على حد سواء، ويحرص على أن تكون العربة الصغيرة مزينة بعبارات مختلفة، ويلجأ في الأمر لخطاط يعطيه مقابلاً أمام تلك الكتابات والرسوم، ويقوم بتغييرها مع كل صيف، موضحاً أنها "تعطي مظهراً جميلاً للعربة، وتجذب الأطفال أيضاً، وفيها كلمات دينية ربما آخذ ثواباً إذا ردد أحدهم عبارة مدونة عليها".
الكتابة على العربات التي تجرها الخيول والحمير تكاد تكون الأقل، لكن لها زينتها أيضاً من سلاسل معدنية كبيرة، أو مواد توضع على سرج الحصان، لكن اللافت حذاء صغير يعلق في مؤخرة العربة، وبحسب أحد المتحركين بها، فإنها تكون لدفع الحسد.
خطوط باليد
كانت هواية زكريا السيد، منذ صغره الخط، وحين خرج على المعاش من عمله، فتح ورشة صغيرة للخطوط والرسوم، لكنه متخصص في النقوش على السيارات النقل والجرارات منها تحديداً، وله في ذلك العمل سنوات طويلة جاوزت 40 عاماً، يكتب فيها عبارات مختلفة، كما يرسم بضعة أشياء قليلة عليها، في مقابل مبالغ يتفق عليها مع أصحاب تلك السيارات.
يأتي صاحب السيارة إلى زكريا ويطلب منه كتابة آيات قرآنية أو كلمات من الأغاني أو الأمثال الشعبية فيدونها له، لكنه يرفض أن يكتب كلمات يراها خارجة عن المألوف، مثل الكتابة عن شخص بعينه، متابعاً "أكتب اللغة العربية والإنجليزية على حد سواء، ولا وقت محدد لإنجاز العمل، إذ يختلف من عربة لأخرى بحسب عدد الكلمات والحروف، وتختلف الكلفة وفقاً لذلك، واستخدم طلاء كان الكيلو منه بنحو 250 جنيهاً (8 دولارات) في السابق، لكنه الآن وصل إلى 550 جنيهاً (17.80 دولار) وبالتالي زادت قيمة الكتابة".
ويحرص الكبار والصغار على كتابة كلمات على سياراتهم في ورشة زكريا، ويتذكر موقفاً حدث معه من قبل حين زار ورشته رجل كبير في السن تخطى 80 سنة، وكانت السيارة في أسوأ أوضاعها وأشكالها، لكنه دون عليها العبارة التي أراد أن تكون على مؤخرة السيارة "زمن الجمايل فات إحنا في زمن خد وهات".
ويفضل الخطاط، ربما بحكم عمله، الكتابة على السيارات بشكل يدوي، أفضل من الملصقات الجاهزة لأمرين، ففي الحالة الثانية يكون الشخص مجبراً على ما يجده، أو أن يطلب تصميماً معيناً، كما أن الرسوم تبقى فترة أطول، لكن تلك الملصقات تختفي سريعاً بسقوطها أو تعرضها للتآكل مع تنظيف السيارة.