ملخص
في ظل الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في توثيق الأحداث التاريخية تتباين آراء المتخصصين حول قدرة الآلات على تحقيق الحيادية والموضوعية في كتابة التاريخ. يرى بعض المؤرخين أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى النقد العلمي والقدرة على التحقق من المصادر، مما قد يؤدي إلى تقديم روايات مشوهة أو مغلوطة. بينما يشدد آخرون على إمكانية الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في استعادة معلومات تاريخية مفقودة وتحليل الوثائق القديمة. ومع ذلك يبقى التحدي الأكبر في ضمان ألا تتسلل التحيزات إلى الروايات التاريخية بسبب البيانات المدخلة أو تأثيرات الشركات المهيمنة على التكنولوجيا
في زمن أصبح فيه الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي متزايداً، إذ تسجل الآلة حضورها في مجالات متعددة، بما في ذلك توثيق الأحداث والوقائع التاريخية بفضل قدرتها الفائقة على تخزين البيانات الضخمة، يبقى الولوج إلى هذا العالم المعتمد على التكنولوجيا في عملية التأريخ مثيراً للجدل، في ظل تباين وجهات نظر المتخصصين حول مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق الحيادية والموضوعية عند سرد الأحداث التاريخية.
وفقاً لما أفاد به مؤرخون ومتخصصون في الذكاء الاصطناعي "اندبندنت عربية"، فإنه على رغم أنه يمتلك قدرة فائقة على التحليل وتوفير معلومات دقيقة بسرعة وإمكاناته التقنية متقدمة، فإن هناك تحديات تواجه استخداماته في تزويد الباحثين بالأحداث التاريخية التي يمكن توثيقها. من بين هذه التحديات صعوبة التزام الحيادية، إضافة إلى مخاوف أخرى تتعلق بإمكانية تزويدنا بروايات تاريخية مغلوطة أو مشوهة، مما يقلل من فاعليته كأداة يُطمأن إليها في التوثيق التاريخي.
توثيق الأحداث التاريخية
في رأي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة "عين شمس"، جمال شقرة، لا يوجد ما يبعث على التفاؤل في شأن الحاجة إلى الاعتماد على الآلة في تسجيل الأحداث والوقائع التاريخية. مرجعاً ذلك إلى سهولة تغذية هذه التقنيات بمعلومات "غير دقيقة أو مشوهة"، مما يؤدي إلى "تقديم قراءة مغلوطة أو مزيفة للتاريخ، فضلاً عن التحديات التي تحول دون اعتبار الذكاء الاصطناعي مصدراً حيادياً في توثيق الأحداث التاريخية".
وأوضح شقرة أن "الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الموضوعية، نظراً إلى اعتماده على المواد التي يغذى بها فحسب، من دون منهج علمي أو نقدي. بينما يعتمد المؤرخ على مقارنة مصادر متعددة للوصول إلى الحقيقة، في حين يلجأ الذكاء الاصطناعي إلى بيانات جاهزة قد تحوي أخطاء". مستشهداً بأنه إذا مُدَّ النظام بمعلومات تدعي هزيمة مصر في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، فإنه سيقدم هذه الرواية من دون مراجعة أو تدقيق.
تقنيات الذكاء الاصطناعي تحمل جوانب إيجابية يمكن الاستفادة منها في كتابة التاريخ، وفقاً لما ذكره شقرة، إذ تتيح الوصول السريع إلى المواد العلمية والوثائق. ومع ذلك يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى "الروح" التي تميز الكتابات التاريخية، إذ تكون كتاباته جامدة وإجرائية، وتخلو من الحس النقدي الذي يمتلكه المؤرخون.
وعلى رغم هذه النظرة السلبية، استعاد أستاذ التاريخ المعاصر والحديث تجربة شخصية اعتبرها إيجابية، شرح شقرة، "طلبت منه موضوعاً معيناً، فاستدعى النظام مادة علمية متكاملة". ومع ذلك أشار إلى إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في "تشويه الحقائق التاريخية، مثل الادعاء بأن الأهرام بناها قوم عاد أو اليهود، أو تقديم روايات مشوهة عن التاريخ العربي أو القضية الفلسطينية، مثل إطلاق أسماء عبرية على المدن الفلسطينية". وحذر شقرة من أن الذكاء الاصطناعي قد يصبح مصدراً مشكوكاً فيه إذا لم تخضع المعلومات التي يقدمها للتدقيق والنقد من قبل الباحثين في التاريخ. من بين عيوبه الأخرى إمكانية تزويد النظام بآلاف الوثائق المزيفة، مما يؤدي إلى تقديم صورة مشوهة عن شخصيات أو قادة أو حقب تاريخية معينة، مشيراً إلى سهولة التلاعب في أي معلومات عبر الإنترنت.
واستشهد شقرة بقصة تاريخية عن وثيقة "هبة قسطنطين"، التي زعمت الكنيسة أن الإمبراطور قسطنطين تنازل من خلالها عن السلطة المدنية والدينية لصالحها. وعندما فحص لورنزو فالا الوثيقة، اكتشف أنها مزيفة لأن الخط هو الحبر، واللغة لم تكن تعود إلى زمن قسطنطين. وأكد شقرة أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه القيام بهذا النوع من النقد.
وأشار المؤرخ المصري إلى معوقات أخرى تقف حائلاً أمام قدرة الذكاء الاصطناعي على التوثيق التاريخي، منها أن المواد المتعلقة بالتاريخ المستمدة من الذكاء الاصطناعي يجب أن "تخضع لنقد صارم قبل قبولها"، مستشهداً ببحوث جرى تقديمها في الجامعات بصورة غير دقيقة، بسبب الاعتماد على المعلومات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي.
مزايا وعيوب
وفي مقال للصحافية العلمية مويرا دونوفان، نشر في أبريل (نيسان) 2023 بعنوان "كيف يساعد الذكاء الاصطناعي المؤرخين على فهم ماضينا بصورة فضلى"، أشارت إلى أن مؤرخي الغد يستخدمون علوم الكمبيوتر لتحليل كيفية معيشية الناس قبل قرون مضت. وأضافت أن المؤرخين بدأوا في استخدام هذه التقنيات لفحص الوثائق التاريخية، بما في ذلك الجداول الفلكية التي جرى إنتاجها في مدن مثل فينيسيا. وقد تكون هذه الوثائق قد تعرضت لتلف بسبب مرور الزمن، مثل التأثيرات الناتجة من التخزين في الأرشيفات الرطبة، أو قد تكون مشوهة بسبب أخطاء في الطباعة. لافتة إلى أنه من خلال استخدام تقنيات التعلم الآلي يمكن الآن فحص وتحليل هذه الوثائق بطرق دقيقة تساعد على استعادة المعلومات المفقودة أو المشوهة.
واستندت دونوفان في مقالها إلى آراء مؤرخين قالوا إن تطبيق علوم الحاسب الحديثة على الماضي البعيد يساعد في ربط أجزاء أوسع من السجل التاريخي بطريقة لم تكن ممكنة من قبل، مما يصحح التشوهات التي تحدث عند تحليل التاريخ وثيقة تلو الأخرى. لكن هذا التطبيق، وفقاً للمؤرخين، يقدم أيضاً تشوهات خاصة به، بما في ذلك خطر أن يتسلل التحيز أو التزوير الصريح إلى السجل التاريخي من خلال تقنيات التعلم الآلي، مما طرح تساؤلاً مهماً "مع تزايد دور الآلات في المستقبل، إلى أي مدى يجب أن نترك لها السيطرة على ماضينا؟".
وأكدت أنه "حتى وإن لم يكن هناك تلاعب متعمد، يعبر بعض العلماء عن قلقهم من أن المؤرخين قد يستخدمون أدوات ليسوا مدربين على فهمها". وقال أستاذ التاريخ في جامعة "تكساس" في سان أنطونيو، إبراهيم جيبسون، "حتى وقت قريب جداً، لم يكن زملائي المؤرخين يرون علاقة للذكاء الاصطناعي بأعمالهم، لكنهم بدأوا يدركون بصورة متزايدة الاحتمالية التي قد تجبرهم على ترك بعض التفسير التاريخي للتكنولوجيا".
على المستوى التقني، اعتبر استشاري تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي، محمد الحارثي، أن الذكاء الاصطناعي "قد يظهر تحيزاً عند استخدامه في التأريخ، بسبب اعتماده على بيانات جُمعت من مصادر متعددة عبر الإنترنت، إضافة إلى المعلومات التي يدخلها المستخدمون في أثناء التفاعل معه". موضحاً أن هذه البيانات "غالباً ما تحوي تناقضات، مما يؤدي إلى نتائج غير موضوعية".
على رغم ذلك أشار الحارثي إلى أن الذكاء الاصطناعي يمتلك مزايا عدة، منها قدرته على تتبع الأحداث وربط بعضها ببعض، إضافة إلى تقديم تفسيرات مترابطة للأحداث التاريخية اليومية وربطها بالماضي، وهذه القدرة تجعل الذكاء الاصطناعي "أداة فعّالة في التوثيق وتحليل البيانات"، لكنه شدد على ضرورة "التعامل بحذر" مع النتائج التي يقدمها. وشرح أن الآلة تعكس صفات صانعها، مما يجعلها عرضة للتحيز أو تقديم معلومات مضللة ومتحيزة للغرب. وبين أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يواجه اضطرابات تشبه "الهلاوس" أو ما يسمى اضطراب الآلة. مختتماً حديثه بتأكيد أن الذكاء الاصطناعي "يجب أن يعامل كأداة مساعدة للمؤرخين، وليس بديلاً لهم".
وعلى موقع "Quora"، المتخصص في فتح نقاشات اجتماعية ضمن سوق المعرفة عبر الإنترنت، دارت مناقشة تحت عنوان "هل يمكن للروبوتات المتخصصة أن تساعد في كتابة تاريخ أكثر حيادية للأجيال القادمة؟" اعتبر خريج علوم الحاسب الآلي من جامعة "نيو هامبشاير"، كريستوفر كوك، أن توثيق التاريخ بواسطة الروبوتات يتطلب أمرين رئيسين: الأول مراقبة الأحداث الفعلية وتخزين المعلومات ذات الصلة، والآخر يعتمد على تلقي الأحداث من وسائل الإعلام وتصفيتها، لكن هذا قد يؤدي إلى وجود انحياز، مضيفاً أن إعادة كتابة التاريخ يجب ألا تتم باستخفاف، بخاصة إذا كان الشخص غير موجود في تلك الحقبة، ولا يمكنه تقديم وجهة نظر دقيقة.
من جهة أخرى رأى نيك نيلسون، الذي عرّف نفسه متخصصاً في التاريخ، أنه من الممكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في كتابة التاريخ بصورة محايدة، بشرط أن يبنى هذا الذكاء بطريقة خالية من التحيز، مضيفاً أن البشر "لا يسعون إلى الصدق أو الحقيقة بقدر سعيهم إلى تأكيد تحيزاتهم، وأي شيء يخالف ذلك يُوقف بسرعة". أما العامل في مجال التكنولوجيا بإحدى الشركات الهندية، ديباك بيلورو، فقد أوضح أنه حتى إذا ساعدت التقنيات مثل التعلم الآلي في فك تشفير الأدلة التاريخية، فإن التحيز "سيظل موجوداً في كل صورة من صور الأدلة استناداً إلى عقلية الكتاب في تلك الحقبة"، مؤكداً أن التاريخ "لا يمكن أن يكون محايداً تماماً، لأن الإنسان بطبيعته كائن متحيز".
وشدد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، عاصم الدسوقي، على أن التاريخ لا يمكن أن يكتب بالطريقة التي يجري الترويج لها حول الذكاء الاصطناعي، وكأن هذا الأخير سيلغي دور البشر بشكل كامل. موضحاً أن التأريخ هو مجرد تسجيل للأحداث يوماً بيوم من دون إبداء رأي، مثلما كان يفعل عبدالرحمن الجبرتي، الذي كان يسجل الوقائع من دون أن يذكر رأيه غالباً. وأشار الدسوقي إلى أن الباحث في التاريخ عندما يكتب عن فترة معينة يعود إلى مثل هذا المصدر ومصادر عدة أخرى لأشخاص أرَّخوا للأحداث، موضحاً أن الباحث في التاريخ العلمي ليس من مهامه محاكمة التاريخ، بل تفسير الأحداث التي يكتب عنها في ضوء الظروف الموضوعية التي كانت تمر بها تلك الحقبة.
وأوضح أستاذ التاريخ أنه في مقابل ذلك المجهود، يختار الذكاء الاصطناعي من المواد المتاحة، مما يوقعه في مأزق الانحياز، إذ لا يقدم جميع الأحداث بالقدر نفسه من الأهمية، بل ينتقي أحداثاً قد تدين أو تؤيد فترة معينة، مما يجعله يخرج عن نطاق الموضوعية. واختتم حديثه بتأكيد أن الأجيال القادمة، التي سيكون لديها فهم أعمق للمصادر المختلفة، ستتمكن من اكتشاف عمليات الانتقاء والاختيار التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي، بدلاً من تقديم جميع التفاصيل بصورة شاملة.
انحيازات للغرب
واعتبر الأستاذ المساعد بكلية تكنولوجيا المعلومات وعلوم الحاسب بـ "جامعة النيل"، إسلام ثروت، أن الذكاء الاصطناعي "لا يمكن أن يكون أكثر حيادية من المؤرخين، وأن توثيقه الأحداث التاريخية سيكون بالتبعية بناءً على المعلومات التي تقدمها الشركات المهيمنة على التكنولوجيا، سواء كانت أميركية أو صينية أو أوروبية". وأوضح ثروت أن الذكاء الاصطناعي "يقدم أدلة تاريخية تخدم وجهة نظر من زوده بالمعلومات، مما يعني أن نتائجه قد تعكس تحيزات واضحة. وعلى رغم أن بعض هذه الأنظمة تعتمد على النماذج اللغوية التي تتيح لها التفاعل مع المستخدمين وتغذية نفسها بمعلومات جديدة، مما يمنحها القدرة على التطور نحو مزيد من الحياد، فإن تأثير التعليم الأولي يبقى عائقاً أمام الوصول إلى حيادية كاملة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف أستاذ علوم الحاسب أن الذكاء الاصطناعي قادر على "تأليف" حقب تاريخية غير موجودة إذا طلب منه ذلك، مما يجعله أداة خطرة للتزييف التاريخي، مؤكداً أن برمجته الحالية لا تشمل الامتناع عن الرد حتى في الحالات التي يكون فيها السؤال مبنياً على معلومات خيالية.
ولا يغفل أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة "عين شمس"، أشرف مؤنس، أن الذكاء الاصطناعي أصبح لغة العصر، وامتد تأثيره ليشمل جميع المجالات، ومنها مجال كتابة التاريخ. وأضاف أن خطورة الذكاء الاصطناعي في كتابة التاريخ تكمن في أن الإنسان هو من يتحكم في عملية التوجيه، وإذا وصل الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة الانتقاء الذاتي للمعلومات سيحدث تغييراً في طريقة التعامل مع المادة التاريخية، لكنه أشار إلى إمكانية تحقيق الحياد إذا كانت الجهة التي تغذي الذكاء الاصطناعي بالمعلومات تعمل بموضوعية.
وأوضح مؤنس أن المؤرخين يعتمدون على مناهج علمية في تصنيف وترتيب المواد التاريخية، كما يحللون وجهة نظر كاتب الوثيقة، ويدرسون ما إذا كان مغرضاً أم مجرد ناقل للأحداث اليومية. وأكد أن هذا النهج يقلل من تأثير الذاتية مقارنة بما قد يفعله الذكاء الاصطناعي، مشيراً إلى أن الذاتية تدخل في الذكاء الاصطناعي عند تناوله قضايا مثل الحرب الروسية - الأوكرانية، حينها سيختلف التحليل وفقاً لطبيعة المعلومات المدخلة في النظام، لكنه أكد أن المؤرخ الذي يعتمد على الدراسات المقارنة يبقى أكثر حيادية ودقة في تفسير الأحداث التاريخية من الذكاء الاصطناعي.