ملخص
تتجلى ظاهرة الاغتصاب في استخدام المرأة كسلاح للهوية القبلية وإمعاناً في القهر الاجتماعي والنفسي، وامتدت إلى المدن الأخرى في إطار سوسيولوجيا القهر وتحقيق الذات.
رسالة عميقة جسدتها مسرحية "ماكبث" لشكسبير، وتوضح كيف يمكن للطموح والقوة والجشع أن تفسد الإنسان وتقوده نحو مأساة دموية.
تلقى ماكبث نبوءة الساحرات الثلاث بأنه سيصبح في نهاية المطاف ملكاً، أما زوجته فقد أقنعته بقتل الملك دنكان ففعل، بالتالي أصبح الملك المتوج. وحتى لا تتحقق نبوءة صديقه بانكو الذي يحلم أيضاً بأن يكون ملكاً، قام باستئجار قتلة قضوا عليه فأصبح ماكبث يرى شبحي الملك وبانكو في منامه، وتكاثرت عليه الكوابيس، وعلى زوجته الهلوسة مما دفعها إلى الانتحار.
تختلط في المسرحية العالمية الشهيرة الدموية بقضايا الذكورة من خلال تشكيك الليدي ماكبث في رجولة زوجها لتحريضه على القتل، ثم استفزاز ماكبث القتلة الذين استأجرهم لقتل بانكو من خلال التشكيك في رجولتهم. وهذا ما وصفه النقاد بأن "كلاً من ماكبث وزوجته يساويان الذكورة بالعدوان العاري، وكلما تحدثا عن الرجولة سرعان ما يتبع ذلك عنف ضار، ويسمح هذا الفهم للرجولة بهبوط النظام السياسي في حال من الفوضى".
منذ بداية الحرب السودانية بدأ استنكار اجتماعي كبير لاختباء أفراد من قوات "الدعم السريع" في مستشفى "الدايات للولادة"، واستخدم الجيش هذه الحادثة في إطار الحرب الإعلامية لنعتهم بعدم الرجولة، وظهر عضو المجلس السيادي الانتقالي الفريق شمس الدين الكباشي في أحد الفيديوهات المصورة يسخر منهم. وأثناء ذلك سجلت حالات اغتصاب وسط المعارك، ثم تفشت بشكل واسع وكأنها رد فعل على الاتهام والتشكيك في الرجولة.
منظمات أممية وإنسانية كشفت عن تزايد حالات اغتصاب النساء والفتيات، بعضهن في عمر 12 سنة. وأشارت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة إلى وقوع حوادث عدة، متهمة مقاتلي "الدعم السريع" بالضلوع فيها. وعدت مقاطع اغتصاب صورها المعتدون أنفسهم لعمليات اغتصاب في الخرطوم وثائق وأدلة مرئية لعمليات الاغتصاب في زمن الحرب. وأكدت منظمة نشطاء حقوق الإنسان السودانيين، ومقرها أوسلو في النرويج، وقوع جرائم عنف جنسي بما في ذلك الاغتصاب الجماعي والمتكرر في الخرطوم ودارفور.
عسكرة العنف
بدأت الأزمة السودانية بالاختلافات بين القوى السياسية مدنية وعسكرية، ثم في ما بين المكون الواحد، حتى وصلت إلى مرحلة التشنج السياسي، وسرعان ما أفضت إلى الصراع المسلح والحرب الدموية، وفي خضم الصراع الذي يواجهه السودان منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي، تطرح أسئلة عن وضع النساء وحقوقهن وقت النزاع. وترتبط هذه الحقوق بوضعهن أثناء الحرب، سواء نازحات أو لاجئات، وتعرضهن في كل الأحوال لعدم الاستقرار أو الاغتصاب أو الإخفاء والاختطاف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتعرض النساء للعنف أكثر من غيرهن، ويتخذ ذلك أبعاداً سياسية جندرية، مع عدم القدرة على توثيق هذه الجرائم برصدها أو حتى اعتراف الضحايا بها لأسباب اجتماعية ونفسية.
الناشطة النسوية سمية علي، ذكرت أن "تعرض المرأة لعنف جسدي أثناء الحرب يعبر عن الخضوع لإرادة من يملك وسيلة لإكراهها وفرض موقف ذكوري قوي عام على وضع نسوي ضعيف، وهو لا يستهدف المرأة وحدها وإنما يعد رسالة صارخة الغرض منها الإذلال، لأنها تعبر عن المقدرة على إخضاع المجتمع بأكمله، كما أنها موجهة لرجال الطرف الآخر ومفادها (ماذا أنتم فاعلون، وكيف يمكنكم الرد؟)".
وأضافت علي "يحدث هذا النوع من العنف الجنسي نوعاً من الإحساس بالانتصار المرتبط بقهر الآخر"، موضحة "لم يكن الإعلان عن هذه الحوادث متناسباً مع فظاعتها، لأن معظم الناشطات النسويات المناهضات للحرب اللائي ناقشن من قبل علاقة العسكرة بالعنف ضد المرأة، إما نزحن أو لجأن إلى دول الجوار، وأعاقت الحرب التواصل بينهن ومتابعة الحوادث وتوثيقها وعرض الضحايا للعلاج النفسي والجسدي، إضافة إلى الخوف من استهدافهن".
وأكدت أنه "لو طالت الحرب أو انتهت فإنه يجب تأطيرها كمفهوم شمولي ومعبر عن السلطة العسكرية والمدافعين عنها، وهم ذكوريون بمنطلقات عنصرية ومناطقية". متابعة "لم تستفد النسوية السودانية كثيراً من أحداث العنف الجنسي السابقة خلال الحرب في دارفور منذ عام 2003، التي اتهمت فيها قوات الجنجويد (الدعم السريع)، وانبرت وقتها نسويات منتميات للنظام السابق بالدفاع عن هذه القوات لأنها كانت تحارب الحركات المسلحة في دارفور تحت مظلة الجيش السوداني".
سوسيولوجيا القهر
تقول الباحثة في قضايا التنمية والسياسات البديلة والمتخصصة في النوع الاجتماعي (الجندر) نعمات كوكو، إن "الخطاب المتبادل بين طرفي الحرب يعبر عن التركيبة الاجتماعية - الثقافية التي ينتميان إليها. وهي في جوهرها جزء من مؤسسة ونظام الأبوية (البطريركية)، أو الأساس المادي لاضطهاد المرأة".
وأبانت كوكو "تتجلى الذكورية عندما يتم ربطها بالطبيعة البيولوجية للمرأة إمعاناً في القهر، وينسون أو يتناسون أنها تعبر عن مدى تخلفهم الفكري والاجتماعي ومستوى تفكيرهم الذي لا يزال يستمد سرديته من الانتماء القبلي والجنسي في الوقت ذاته، على رغم أن الصراع بينهم عسكري، وربما لأنه لم يأخذ الطابع المهني والثقة في الانتصار كان اللجوء للرجولة والفحولة وهي من وسائل القرون الوسطى".
وأكدت الباحثة أن "استفزاز الخصم باستخدام هذا الخطاب دليل واضح على الإفلاس المهني عسكرياً، ومن المفترض أن يقوم على التكتيك والاستراتيجية العسكرية، خصوصاً من جانب قيادة الجيش ومؤسسته العريقة التي فشلت في حسم المعركة".
وأضافت "ما حدث هو نتاج طبيعي للخراب الذي دمر هياكل ومؤسسات الدولة طيلة الـ30 عاماً السابقة لقيام الثورة، والمؤسسة العسكرية جزء لا يتجزأ من الاقتصاد السياسي لتلك الفترة الكالحة من تاريخ الوطن. ولا يسقط من الحسابات أن الطرف الآخر ميليشيات أساسها القبيلة بكل شرائعها".
وترى أن "ظاهرة الاغتصاب من منظور النوع الاجتماعي (الجندر) كانت ولا تزال تستخدم في إطار الصراعات من أجل إثبات الهوية، لا سيما أنها بدأت بشكل ممنهج وممعن في العرقية والإثنية منذ بداية حرب دارفور عام 2003، وذات ارتباط مباشر بصراع الموارد وخصوصاً الأرض، وهي دالة النزاعات القبلية هناك".
وزادت "جاء من هذه الظاهرة أيضاً استخدام المرأة كسلاح للهوية، لأنها في العرف القبلي شرف القبيلة ولابد من عكس قوة رجال القبيلة في استهداف شرف القبيلة الأخرى إمعاناً في القهر الاجتماعي والنفسي. وامتدت الممارسة إلى المدن الأخرى في إطار سوسيولوجيا القهر وتحقيق الذات".
وتابعت "الرسالة هنا اجتماعية - ثقافية باستخدام العنف الجنسي واغتصاب النساء، وهو قائم على مفاهيم النوع الاجتماعي ودونية إنسانية المرأة وعلو حافر النمطية، فالمرأة هي [أنثى] للجنس فقط، بالتالي يجري أولاً استهدافها جنسياً من قبل الرجل [الذكر]".
دور محوري
من جانبها قالت المحامية نهلة محمد خير، إن "الحرب ينتج منها ضعف اجتماعي يؤثر في المرأة بشكل خاص، وأكثر الأسباب التي أدت إلى خروج الناس من مساكنها إضافة إلى الفرار من ضرب النار الكثيف وسقوط القذائف عليهم، كان أن كثيراً من الرجال أشاروا إلى أنهم لا يريدون أن تتم إهانتهم وإذلالهم على يد قوات الدعم السريع أمام أمهاتهم أو زوجاتهم أو بناتهم، أو أن يعتدى عليهن أمام أنظارهم، وفضل بعضهم الموت على أن يحدث ذلك".
وأضافت خير "تواجه المنظمات النسوية تحديات كبيرة في سعيها إلى حماية النساء في أوقات النزاع، وهذا الخطر ليس وليد هذه الحرب إنما بدأ مع تصاعد الحال الثورية بعد اندلاع انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وانخراط النساء بشكل غير مسبوق في التظاهرات، مما أدى إلى استهدافهن من قبل القوات العسكرية والأمنية. وعندما حدث فض اعتصام القيادة صاحبت تلك الأحداث حالات عنف جنسي لكبح حضور المرأة الواضح في مشهد الانتفاضة".
وأوردت المحامية "يظل للمرأة السودانية دور محوري في دعم مجتمعاتها المحلية في أوقات الأزمات. والمرأة هي أول من يتدخل لمساندة المتضررين من النزاع، ولها مبادرات عدة خلال الحروب. وفي هذه الحرب قامت مدافعات وناشطات في مجال الحقوق بإنشاء مجموعات على منصات التواصل الاجتماعي من ولايات السودان المختلفة ومن السودانيات بالخارج من أجل تقديم الدعم النفسي والمعنوي والمساعدة والتنظيم في حملات لإنهاء الحرب. وهناك الدعم المقدم من ولايات السودان المختلفة لاستضافة النازحين والنازحات".
وعن التحديات الأساسية التي تواجه هذه المبادرات، ذكرت خير أنها كثيرة وأبرزها "الوضع الأمني في الخرطوم ودارفور، الذي يحد من حركة فرق العمل ونقص الموارد لتلبية الحاجات الضخمة للمتأثرات بالحرب".
تجارب متراكمة
عضو لجان المقاومة هيثم عوض يقول "كغيرها من الحروب، أظهر التعدي على جسد المرأة أن الحرب تزيد من التقسيمات الجنسية على أساس النوع، وذلك من واقع الرجل المقاتل مرتكب للعنف، والمرأة المدنية ضحية، وهو تصور فتح الباب للعنف الجنسي الجماعي الذي ظهر خلال هذه الحرب أيضاً في دارفور".
وأضاف عوض "في إطار العنف الجنسي يمكن تأطير هذه الحرب بأنها تدور بين طرفين المعتدي والمعتدى على نسائه، ويلاحظ أن الحكومة لم تفعل شيئاً بغرض حماية المجتمع، وهذا مفهوم في ظل حرب مفتوحة لا يدري أحد متى ستكون نهايتها ولا ما هي موازين القوة فيها، ولكن مع ذلك اختفت مظاهر الحماية الأمنية سواء من قوات الشرطة أو الأمن السري الذي كان ينشط في التظاهرات السابقة، فالمدنيون الذين لم يستطيعوا مغادرة منازلهم في حاجة إلى الحماية".
وتابع "رغم أن لجان المقاومة تقدم بعض المساعدة للأسر المتضررة في الهدن القصيرة، لكن بالنسبة إلى العنف المتواصل خلال الحرب لم تستطع تقديم الكثير مما يتوقع من منظمات المجتمع المدني".
وتوقع عضو لجان المقاومة أن "تؤدي الانتهاكات في هذه الحرب إلى نشوء حركات نسوية نشطة في مجال حقوق المرأة، ربما تهيئ لوضع المطالبة بالحكم المدني الديمقراطي في مقدمة أجنداتها، وإنهاء كافة مظاهر الحكم العسكري وشبه العسكري المتمثل في ما اعترى الفترة الانتقالية بعد فرض الفريق البرهان إجراءات 25 أكتوبر 2021. واصطحاب التجارب المتراكمة السابقة للمرأة السودانية خلال حكم النظام السابق، ثم ما تم خلال هذه الحرب".
قيود كبيرة
في اجتماعه مع ممثلات هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومبعوثات المنظمة الدولية في أفريقيا، قدم "منبر السلام من أجل السودان" عرضاً عن تأثير الحرب على السودانيين وخصوصاً النساء والفتيات والأطفال، وجهود المرأة خلال الأزمة.
قالت مؤسسة مركز النوع الاجتماعي للبحوث والناشطة في مجال النوع الاجتماعي أمينة شين "على رغم دور المرأة الإنتاجي في المجتمع السوداني، فإن الحرب أثرت عليها بشكل كبير، لكن لا تزال المرأة هي مقدمة الرعاية الأساسية لأفراد الأسرة أو المسنين أو المرضى أو الأطفال".
وأوضحت شين "تسبب الوضع الأمني بفرض قيود كبيرة على حركة المرأة بسبب خوفها من التعرض للاعتداء أو الاغتصاب أو الخطف مما حد من دورها وقدراتها، خصوصاً في المجال الإنساني بتقديم الغذاء والعلاج للمتضررين والمرضى. ولا يزال الوصول إلى المعلومات وتبادلها بين النساء شديد الصعوبة في أماكن معينة، فانقطاع الكهرباء ونقص الوقود وضعف الاتصال يحد من قدرة الجميع، ولا سيما النساء اللائي يكن في الداخل، على التواصل بشكل فعال ليكن على دراية بالمناطق شديدة الخطورة وتحذير الآخرين".