ملخص
سكان منطقة ساروجة في قلب العاصمة السورية يستيقظون في جوف الليل على حريق هائل وسط دمشق التهم بيوتاً تراثية وخلف ثمانية مصابين
طالما وصف البيت الدمشقي بقارورة عطر، كناية عن زهر الياسمين الأبيض والورد الجوري الفواح في أرجاء وساحات بيوت العاصمة وحاراتها القديمة، متداخلة مع جمال تصميم معماري فريد من نوعه، لكن كل ذلك أصبح "أثراً بعد عين" في حي من أحياء الشام العتيقة الذي ضربه حريق هائل أكل الأخضر واليابس، وأحاله إلى كومة رماد.
في جوف الليل استيقظ سكان منطقة ساروجة بشارع الثورة وسط دمشق على نيران تلتهم بعجل كل شيء، تتسابق الألسنة لتأتي على بيوت سكنية تراثية واحدة تلو الأخرى باتجاه سوق الهال القديمة، ومع بزوغ خيوط الفجر الأولى تكشف المشهد عن كارثة لحقت بجزء مهم من تراث المدينة.
وقال مسؤول بفريق الإنقاذ والإطفاء في دمشق، اليوم الثلاثاء، إن ثمانية أشخاص أصيبوا بشكل متفاوت، فيما تم الدفع بالعشرات من عربات الإطفاء والدفاع المدني التي باشرت عملها تحت انتشار كثيف للنيران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف "لقد زاد الأمر سوءاً نشوب الحريق ضمن بيوت فيها ورش صغيرة أو مستودعات أحذية وجلديات مما ساعد على انتشار الحريق وتضخمه، فضلاً عن طبيعة الأبنية القديمة المبنية من خشب وطين، والتي زادت من حدة انتشارها وكثافتها أيضاً على رغم التدخل السريع والواسع من رجال الإطفاء الذين لم يدخروا جهداً لوقف النار، وتبريد مكان الحادثة".
أضرار فادحة
مشهد كارثي خيم كصاعقة على السوريين، خصوصاً محبي مدينة الياسمين، فحجم الضرر فاق التصور، في حين أحصى فريق متخصص من مديرية الآثار والمتاحف حجم الخسائر المادية مع انجلاء دخان الحريق في حي العقيبة، ولحقت به أضرار هائلة، حيث يعد مكان إقامة أمير محمل الحج الدمشقي.
قائمة الخسائر التي أكلتها النيران امتدت إلى أجزاء من بيت خالد العظم، ويطلق عليه بيت التراث الدمشقي وأدى إلى إحراق وتدمير أجزاء من قسم الحرملك الذي يشغله مركز الوثائق التاريخية واقتصرت الأضرار على الماديات.
تقارير أخرى تحدثت عن نقل مديرية الآثار والمتاحف، العاملين في مركز الوثائق ومديرية المباني التاريخية لكل الوثائق والأجهزة، إلى مواقع آمنة، خوفاً من امتداد الحريق، وجرى تنفيذ ذلك بمشاركة جمعية أصدقاء المتاحف لتقديم الدعم والمساعدة للموظفين.
أسباب مجهولة
حتى الآن، لم تخرج أية نتائج أولية من التحقيقات الجارية حول أسباب الحادثة، بينما يتبادل بين أوساط المهتمين بالتراث رواية عن أطماع لسماسرة وتجار بناء ورغبتهم بالاستحواذ على هذه المنطقة الاستراتيجية التي تتوسط المدينة بشرائها من أهلها بأثمان بخسة.
ويدور حديث ثانٍ عن سبب فني يتمثل في حدوث ماس كهربائي، وهو الأمر الذي يرفض الأهالي وسكان المنطقة تصديقه، بعد أن أصبح ذريعة لكل الحرائق، بحسب وصف الشارع السوري.
أطراف من فريق المعارضة خارج البلاد، أشارت بأصابع الاتهام، إلى أيادٍ هدفها تخريب التراث الدمشقي، بينما اتهمت صراحة أطرافاً إيرانية تسعى إلى استكمال السيطرة على الحارات العتيقة حول الجامع الأموي، بينما رفضت عائلات من الحارة الدمشقية المتضررة تصديق هذه المزاعم إلا بعد انتهاء التحقيقات، وعدم تسييس الحادثة وجرها إلى إثارة نعرات طائفية.
خسارة العمارة
يلتفت فريق من الآثاريين للخسائر الفادحة التي لحقت بجزء من التراث الدمشقي، وعلى رغم الجدل الحاصل بين السبب الحقيقي للحادثة ما زالت رائحة الدخان من كومة الخراب لا تفارق ما تبقى من بيوت الشام القديمة.
لعل أبرز البيوت المتضررة بيت اليوسف، وهو بيت عائد لعبدالرحمن باشا اليوسف الذي ولد في حي ساروجة عام 1871 وشغل مناصب كعضو مجلس الأعيان في الدولة العثمانية وأمير محمل الحج الشامي، وعين رئيساً لمجلس الشورى في نهاية عهد الملك فيصل الأول.
وخلال الأسابيع الأولى من الانتداب الفرنسي في سوريا لقي اليوسف مصرعه مع رئيس الحكومة السورية علاء الدين الدروبي عام 1920 في قرية خربة غزالة الواقعة في سهل حوران، جنوب سوريا.
وتروى حكايات عن فقدان الذهب الذي يملك الباشا يوسف أمير المحمل ولم يعثر عليه في المصارف العثمانية وقتها، وكل الروايات تزعم أنه مدفون في البيت، ولهذا الغرض كثر التفتيش والنبش في أرجاء البيت الواسع وسط حالة يرثى له من الإهمال وتحول إلى ورش مؤجرة لأعمال حرفية متعددة الأغراض.
وقال فيليب خوري في كتابه عن أعيان دمشق، إنه في آخر القرن الـ19 سكنت في ساروجة أغنى ثلاث أسر هي (العظم والعابد واليوسف)، وكان بينهم مصاهرات ومصالح مشتركة.
البيت الدمشقي
أما بيت العظم الذي تعرض جزء منه للحريق وفيه مركز للوثائق ومتحف تاريخي لمدينة دمشق، يقع خلف مديرية المصالح العقارية، شيد في الفترة العثمانية خلال القرن الـ18 الميلادي، وكان بيتاً لرئيس الوزارة خالد العظم في عام 1945 وتعرض لعديد من الأحداث للقصف من قبل سلطات الانتداب الفرنسي وهدم جزء من قسمه الجنوبي، وباشرت أعمال الترميم فيه عام 1970 وخصص كجزء منه كمتحف.
وأنشئ البيت الواقع على مساحة تتجاوز 3100 متر مربع على طراز معماري وبواسطة الحجر واللبن والخشب، وتتوسطه باحة سماوية ورواق وقاعة وإيوان وعديد من الغرف الرئيسة المبنية على طراز العمارة الدمشقية.
لم يكن هذا الحريق الأول من نوعه، بل تعرضت الأحياء والأسواق كسوق البزورية والعمارة وآخرها ساروجة بحي العقبة إلى عدد من الحرائق في أعوام 2016، وتلا ذلك حريق بالعام التالي، وكلها ضمن الحارات القديمة والتراثية وسط اتهامات بافتعالها بأيادٍ خفية.
كل ذلك دفع مهتمين بالتراث السوري للمطالبة بحماية هذه الأماكن الحضارية الفريدة من التلوث والعبث وعدم تحويلها إلى ورش حرفية تهدد الحجارة والبشر لأنه في حال خسارتها فهي ستكون خسارة لا تعوض.