ملخص
إعلان صدام حسين تمزيق اتفاقية الجزائر لعام 1975 مع إيران كان بمثابة بيان رقم واحد لإعلان الحرب من جانبه ضد النظام الإسلامي الجديد
ما يحكم العلاقة بين إيران والنظام الإسلامي فيها مع دولة العراق كثير من العوامل المتداخلة، التاريخية وما فيها من استحضار للماضي الضارب في القدم منذ ما قبل الفتح الإسلامي لأرض السواد، والدينية على نصاب مذهبي وما تسببت به من حروب ومعارك على مر القرون الخمسة الماضية بين الملكية الإيرانية (الصفوية والقاجارية في الأقل) والخلافة العثمانية، وأبعاد أمنية عسكرية وسياسية مع دخول مفاهيم الجيوسياسية على العلاقات بين الدول واستقرار الحدود المشتركة بينهما ما بعد الحرب العالمية الأولى التي رسمت الشكل القائم حالياً لها.
إعلان رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين تمزيق اتفاقية الجزائر لعام 1975 مع إيران، وهي الاتفاقية التي أنهت الصراع بين البلدين ووضعت آلية للتعامل بينهما حول المناطق المتنازع عليها، هذا الإعلان كان بمثابة بيان رقم واحد لإعلان الحرب من جانب صدام ضد النظام الإسلامي الجديد، في محاولة من بغداد لإعادة تركيب المناطق الحدودية المشتركة مع إيران على نصاب جيوسياسي جديد ومختلف، إلا أن مسار الحرب التي استمرت ثماني سنوات، كشف لبغداد كما لطهران التي توغلت داخل الأراضي العراقية لاحقاً بعدم قدرة أي منهما المس بهذا الثابت أو إحداث تغيير في المجال الجيوسياسي.
ومنذ إعلان صدام، عام 1990، العودة إلى اتفاقية الجزائر تزامناً مع استعداداته لغزو الكويت، والنظام الإيراني يسعى بكل الوسائل، للحصول من الجانب العراقي، الرسمية سواء في زمن النظام السابق، أما بعد الاحتلال الأميركي ووصول حلفاء طهران إلى السلطة، على وثيقة رسمية تثبت هذه الاتفاقية وتحمل اعترافاً رسمياً عراقياً بالترسيم الذي جاء فيها للحدود المشتركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم مما وفره الاحتلال الأميركي للعراق من فرصة لإيران للإمساك بالقرار العراقي والتحكم بتفاصيل المشهد السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي طولاً وعرضاً، إلا أن عقدة اتفاقية الجزائر استمرت تشكل أزمة لدى النظام في طهران ولم تستطع تحقيق هذا الهدف وأن تجبر أو تدفع الحكومات العراقية الجديدة والموالية لإيران للاعتراف بها أو التوقيع على وثيقة أو بيان رئاسي أو حكومي يثبت هذه الاتفاقية، لدرجة أن هذه العقدة دفعت قاسم سليماني المسؤول عن ملف النفوذ الإقليمي لإيران والتعامل مع الساحات العربية إلى معاقبة رؤساء الوزراء العراقيين الذين رفضوا السير أو مسايرة المطلب الإيراني، ولم تنفع معها كل الضغوط والتهديدات التي مارسها التي لم تقتصر على الحكومات العراقية، بل شملت أيضاً القيادات الموالية لإيران والمتحالفين معها.
أمام هذا الواقع وموقف الحكومات العراقية من اتفاقية الجزائر، دفع النظام الإيراني للالتفاف على هذا الموقف والذهاب إلى خيار تعزيز علاقاته مع الجانب العراقي من خلال تأكيد توسيع التعاون بين الحكومتين حول جميع الملفات، ومنها ملف الحدود البرية والمناطق المتنازع عليها، التي لا تقتصر على رسم الحدود البحرية أو المائية في شط العرب، بل أيضاً حول بعض النقاط البرية الحدودية في محافظتي الكوت والعمارة وما فيها من حقول نفطية مشتركة بين الطرفين.
هذا التوجه الجديد للنظام الإيراني، لم يسقط من أجندته البعد الأمني في التعامل مع ملف الحدود المشتركة، واعتباره جزءاً من الأمن القومي الإيراني، وهو البعد الذي يحكم العلاقة بين طهران وحكومة إقليم كردستان العراقي الفيدرالي، وتتوسع لتفرض نفسها على جانب أساسي من العلاقة بين طهران والحكومة الاتحادية في بغداد بغض النظر عن الحليف الذي يرأسها أو يجلس على رأس السلطة التنفيذية.
فالنظرة الإيرانية للإقليم الكردي- العراقي، كانت تاريخياً، وما زالت حتى الآن وستستمر، تقوم على مبدأ الشك والاتهام وعدم الثقة بالقوى الكردية على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، وكما في النظام الملكي في عهد محمد رضا بهلوي، كذلك مع النظام الإسلامي، فإن طهران تعتبر المناطق الكردية - العراقية كما الإيرانية مصدر خطر دائم لأمنها القومي واستقرارها الجيوسياسي، وذلك انطلاقاً من تجاربها التاريخية مع دولة "مهاباد" وزعيمها قاضي محمد ووزير دفاعه الملا مصطفى بارزاني، وصولاً إلى الحراك الذي قام به الأكراد، عام 1979، بعد انتصار الثورة.
ولعل المحطات الأبرز التي يمكن التوقف عندها باعتبار أنها شكلت متحولاً أساسياً ومفصلياً في التعامل بين الطرفين، وفي هذه العلاقة المتوترة أو غير السوية والمحكومة بالشك والحذر بين طهران والإقليم الكردي، هي محطة الاستفتاء الذي أجرته قيادة الإقليم العراقي برئاسة مسعود بارزاني حول استقلال الإقليم، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017، الذي تعاملت معه طهران من منطلق ما يشكله من تهديد لأمنها القومي وما يمكن أن ينتج منه من واقع جيوسياسي جديد في الإقليم لا يمكن حصر تداعياته على الخريطة العراقية وحدود هذا البلد، لذلك كان التدخل مباشراً وواضحاً لإفشال هذا الاستفتاء وإبطال مفاعيله ومترتباته بقيادة سليماني الذي لم يوفر وسيلة من أجل تحقيق هذا الهدف حتى وإن كان على حساب وحدة الموقف داخل المكون الكردي وتوسيع الخلاف بين قطبي القيادة الكردية بين حزبي الديمقراطي بقيادة بارزاني والاتحاد الوطني بقيادة بافل طالباني.
ذريعة الأمن القومي للنظام الإيراني تحولت إلى أداة للتدخل في الشؤون الداخلية للإقليم وتحديد علاقاته الخارجية مع القوى الإقليمية والدولية، وهذا ما حول الإقليم والحدود العراقية في الإقليم مع إيران إلى ساحة صراع مفتوح بين الأجهزة الإيرانية وحرس الثورة من جهة، وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية و"الموساد" من جهة أخرى، ولم تتردد طهران باستخدام كل ما تملك في ترسانتها الصاروخية الباليستية ضد أهداف ادعت أنها تستخدم من قبل الإسرائيليين، وهي استهدافات لم تقتصر على الصراع الإيراني - الإسرائيلي، بل توسعت لتشمل مراكز وقواعد الأحزاب الكردية - الإيرانية المعارضة التي تعمل من داخل الإقليم العراقي.
الحساسية الإيرانية في التعامل مع الحدود المشتركة مع العراق، بخاصة في الجغرافيا الكردية منه، ارتفعت وأكثر حساسية، في سبتمبر (أيلول) من عام 2022، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية على أثر مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني على يد "الشرطة الأخلاقية" في طهران، الأمر الذي دفع طهران إلى توجيه تهديد مباشر وحازم للحكومة العراقية وضرورة فرض سيطرتها على حدودها الدولية المشتركة، وهذا ما حصل في التطورات الأخيرة، إذ تضمنت تسوية تشكيل الحكومة برئاسة محمد شياع السوداني فقرة واضحة تفرض على حكومة الإقليم تسليم السيطرة على المنافذ البرية والجوية والحدود الدولية لقوات تابعة للحكومة الاتحادية التي يجب أن تتولى الإشراف عليها.
ولإعطاء هذه الخطوات بعداً رسمياً، جاءت خطوة التوقيع على اتفاقية استراتيجية للتعاون بين طهران وبغداد تشمل البعد المتعلق بالأمن القومي الإيراني على رأس أولوياتها، التي قام بها أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني السابق علي شمخاني في آخر مهمة قبل إقالته أو إخراجه من موقعه، والتي تلت خطوة مماثلة مع دولة الإمارات، ونتيجة للتحول الجوهري الحاصل بين طهران والسعودية بعد التوقيع على الاتفاق الثنائي برعاية الصين، في 10 مارس (آذار) 2023، لتكون ترجمة عملية لهذا المسار الطويل من التدخلات التي تقوم بها طهران في صراعها الحدودي مع العراق، الذي من المحتمل ألا يتوقف بل سيأخذ أبعاداً وأساليب مختلفة.