ملخص
يعيش لبنان حالة من "التناقض التربوي"، ففي وقت تتراجع جودة التعليم، ترتفع نسبة الناجحين في الشهادات الرسمية.
ينتظر 40 ألف طالب في التعليم الثانوي اللبناني نتائج "الشهادة الرسمية"، بعد عام مليء بالأزمات التربوية، والإضرابات النقابية. وتبرز التكهنات بنسب نجاح قياسية، على غرار ما شهده التعليم المهني والتقني عندما تجاوزت 98 في المئة، وهي نسبة لا تعكس في الحقيقة "العائد المعرفي الضئيل". فيما تزداد النداءات لتصحيح المسار، وترميم مكانة البكالوريا اللبنانية.
بين زمنين
في عام 1960، نال عادل أزعور "السرتفيكا" أي الشهادة الابتدائية في لبنان، اليوم، وبعد مرور 63 عاماً، ما زال يشعر بالفخر والسعادة، كلما نظر إليها داخل صندوق محفوظاته، يستذكر تلك اللحظات التي شكلت إقراراً بكفاءته وأقرانه، وفتحت البوابة أمام أبناء القرية نحو بداية جديدة.
يتحدث أزعور عن نزوله للمرة الأولى في حياته إلى مدينة طرابلس من أجل إنجاز طلب الترشيح، والتقاط الصورة في "ساحة التل"، راوياً "كان المصور يلبسنا جاكيتاً من عنده، ويهتم بمظهرنا قبل التقاط الصورة لطلب الشهادة، وفي يوم التقديم كنا ننزل قبل ساعات إلى مركز التقديم في المدينة، كنا خمسة طلاب، ولم تكن هناك سيارات، كنا ننتقل بشاحنات الخضار، وكنا ننتظر عودة أحد السائقين معه الجريدة، لإشاعة خبر النجاح في القرية".
يستعيد أزعور لحظات مضى عليها الزمن، وكيف كان أستاذاً واحداً في مدرسة من خمسة صفوف تقع عليه مهمة تعليم كل المواد. يقول أزعور "شهادة السرتفيكا كانت كافية لتعيين حائزها أستاذاً في مدرسة القرية"، و"الشاب فريد رحمة كان أول أستاذ معين في بلدة كفرحبو، كان له فضل كبير على أبناء القرية، فقد كان يأتي من بشري (في أعالي جبال الشمال) لتعليم أبناء الضيعة".
تكررت هذه الواقعة مع عادل شخصياً الذي دخل إلى سلك التعليم الرسمي بعد نيله "شهادة البريفيه". يعود أزعور إلى عام 1966، عندما فتحت الدولة باب التعليم أمام الخريجين، فتقدم إلى الوظيفة، وبعد قبوله اضطر للانتقال إلى بلدة القاع وهو في عمر الشباب". ويلفت " كان بعض الطلاب الحائزين على الشهادة المتوسطة، ينضمون إلى أساتذتهم في العام التالي عقب نجاحهم".
يقارن أزعور بين حقبتين، في تلك المرحلة كان التعليم شديداً ورصيناً، وكانت الشهادة تتضمن إلى جانب الشق الكتابي، مقابلات شفهية في بيروت للتأكد من كفاءة الطالب، كما تتضمن الرسم.
تراجع في جودة التعليم
لا تعكس الشهادة الثانوية في لبنان اليوم تلك الصورة الزهرية، فقد أصبحت مجرد محطة، لا تعكس رتبة علمية، ولا تشكل فرصة للصعود في هرم المكانة الاجتماعية، وتظهر المعاناة جلية في التعليم المهني بسبب غلبة الشق التطبيقي. تشكو إحدى المدربات في القطاع الصحي من تراجع في كفاءة الكادر البشري والمتدربين، وتقول "نسمع بنسب نجاح مرتفعة في قسم التمريض، وبحصول الطلاب على معدلات عالية جداً، ولكن عندما يأتون إلى التدريب أو العمل، نصطدم بعدم امتلاكهم الحد الأدنى من المعرفة أو المهارة". وتعزو ذلك إلى نقص كبير في المختبرات، وتقليص فترات التدريب، ناهيك عن إلغاء الامتحانات التطبيقية في الشهادة الرسمية، مما يجعل الطلاب يركزون على الحفظ والتلقين النظري.
من جهته، يؤصل الباحث التربوي فراس حريري مراحل تراجع جودة التعليم في لبنان، فهو سابق على الانهيار الذي تعيشه البلاد حاضراً. ويلفت "منذ 2016، دخل لبنان ورش تقليص المناهج، التي رسخت تقليد حذف الدروس التي أصبحت عرفاً، في ظل غياب خطط الطوارئ التربوية. كما جاء نظام المواد الاختيارية ليضاعف مستوى الكسل، حيث بات الطالب وأهله، والمعلم، يستشرفون القرارات في نهاية العام الدراسي، وكذلك مضمون المسابقات بسبب العدد المحدود من الدروس المطلوبة". يعتقد حريري "يوجد توجه لحفظ استمرارية التربية صورياً، بغض النظر عن مستوى التعليم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى ذلك، يمكن ملاحظة الدرجات المرتفعة، ومستوى التقدير الذي يناله عدد كبير من الطلاب على رغم عدم إتمام المنهاج. ويشير حريري إلى "عملية التساهل في وضع أسئلة الاختبارات الرسمية"، مضيفاً "أصبح أي شخص في الشارع قادراً على توقع الدروس والمواضيع التي ستأتي في الشهادة"، وشهدنا عشرات التوقعات التي نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ظن البعض أن هناك تسريباً للأسئلة، علماً أن إمكانيه التسريب صعبة للغاية بفعل الخصوصية المتبعة، وعزل أعضاء اللجان إلى ما بعد توزيع المسابقات".
كما يتأسف حريري إلى وضع الكادر التعليمي في لبنان، حيث "يعاني الأساتذة من مظلومية كبيرة، ففي التعليم الخاص يخضع الأساتذة لشروط العرض والطلب ورغبات رب العمل، خشيةً من الطرد التعسفي، أما في التعليم الرسمي فقد خسرت رواتب الأساتذة القدرة الشرائية بفعل انهيار الليرة، وخسارة التغطية الصحية. لذلك، تنعكس هذه الأمور مباشرة على مستوى التعليم في لبنان، حيث نشهد هجرة الكفاءات أو استقالتهم".
نقاش أكاديمي
تستمر النقاشات في الأوساط التربوية في لبنان حول جدوى الشهادة الرسمية، وتبرز الدعوات إلى "ترميم مكانة الشهادة اللبنانية"، لتعود إلى صلب عملية التقويم المعرفي، وقياس كفاءة المتعلمين، بعدما تحولت إلى جواز عبور نحو التعليم الجامعي، بفعل المناهج التربوية غير المواكبة للتطور.
يقول نمر فريحة المدير السابق لمركز البحوث والإنماء المكلف وضع وتطوير المناهج، "بات قياس جودة التعليم في لبنان خاضعاً للآراء أكثر منه لدراسات علمية موضوعية، وهناك انطباع عام بتدهور المستوى التعليمي، في ظل غياب العمليات الإصلاحية، وعدم إنجاز عملية تطوير المناهج التي بدأت منذ سنوات، مما يشي بالتعثر التربوي".
يقدم فريحة مجموعة من المؤشرات على تراجع جودة التعليم في لبنان، في مقدمها "وصول الطلاب إلى الصف الخامس دون تمكنهم من القراءة أو الكتابة السليمة"، ولا يمكن تجاهل أن كثيراً من المؤسسات لا تعطي الطلاب أكثر من ربع المنهاج السنوي، إضافة إلى انخفاض أيام التعليم بسبب العطلات والإضرابات علماً أن أيام التدريس محدودة جداً حتى خارج نطاق الأزمات الطارئة".
أما الباحث التربوي ماجد جابر فيطرح علامات استفهام حول المعدلات المرتفعة للنجاح في الشهادات الرسمية، التي تتكرر عاماً بعد عام، لافتاً إلى "تحول الشهادة إلى مناسبة احتفالية واستعراضية" أكثر منها وسيلة لتقويم النظام التعليمي وأدواته".
لا ينفي جابر وجود طلاب متميزين وقادرين على التفوق في مختلف الاستحقاقات، ولكن في المقابل، يسلط الضوء على "نسبة كبيرة من الطلاب، لم تكن قادرة على تحقيق درجة 14 على 20 في مدارسهم". وبحسب استقصاء لجابر، 10 في المئة من الطلاب المتفوقين هم كذلك بالفعل، وأصحاب المستوى المقبول لا يتجاوزون 40 في المئة، و50 في المئة هم دون المستوى المقبول. هذا الأمر دفع جابر للتساؤل "هل أن المطلوب هو تكريس مشروعية الكم في التعليم والتقويم على حساب الكيف والنوع في تكوين المتعلم"؟