ملخص
شاعر وكاتب حمل لقب "بطريرك العرب" واصطدم مع السادات ودعا إلى التآلف بين المسيحيين والمسلمين
في الثالث من أغسطس (آب) من عام 1923، كان مولده في قرية نائية تسمى "سلام"، في محافظة أسيوط بجنوب مصر.
وكأن القدر كان له بالمرصاد منذ البدايات، أو كان هو على موعد معه، فقد توفيت والدته بعد أيام قلائل من مولده، الأمر الذي طبع حياته بأمرين:
الأول: شخصيته الصلبة، إذ لم يعرف اللعب مع الأطفال الصغار، بل كانت طفولته مليئة بالقراءة المبكرة.
الثاني: إيمانه بوحدة المصريين، بعد أن أرضعته غالبية نساء القرية، مسلمات ومسيحيات، فكن جميعهن بمثابة الأم البديلة له.
سوف يقدر لهذا الطفل اليتيم، أن يضحى لاحقاً علامة مهمة، بفكره ورؤيته الصوفية، وبمواقفه المصرية والعروبية، ذلك أنه لم يكن مجرد بطريرك قبطي يحمل رقماً (117)، في تاريخ بطاركة كنيسة الإسكندرية، بل صار نقطة مفصلية في مسيرة المصريين عامة والأقباط بخاصة، وإن أحبه البعض أو رفضه البعض الآخر.
ما قصة الأنبا شنودة الثالث، بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر، والذي يحتفل هذه الأيام بمرور 100 عام على مولده؟
قبل الغوص عميقاً في قصة الرجل لا بد أن نشير إلى بعض المصطلحات التفكيكية، حتى يستقيم فهم القصة.
والبداية من عند لفظة "أقباط"، وما الذي تعنيه؟
يطلق هذا اللفظ على كل المصريين، مسلمين ومسيحيين، فهو يعني مصريين، وجذر الكلمة من اللغة المصرية القديمة، "الهيروغليفية"، "كيمت"، أي الأرض السوداء، وباليونانية "إيجبتوس"، وحين دخل العرب مصر سموها "جبط" والتي تطورت لاحقاً إلى قبط.
مجازاً يسمى مسيحيو مصر أقباطاً، وهذا ما يميزهم عن بقية مسيحيي المشرق من السريان والكلدان، والأرمن والروم، وسائر طوائفهم المشرقية.
جذور الأقباط جميعاً تعود إلى المصريين القدماء، وحين دخل الإسلام مصر، هناك من قبل الدعوة فصار مسلماً، وهناك من ظل على مسيحيته، وهؤلاء من يعرفون اليوم بالأقباط، ومنهم بطل هذه القصة البطريرك الأنبا شنودة الثالث، أو "نظير جيد" كما اسمه في شهادة ميلاده.
من قلب الصعيد إلى قاهرة المعز
نزحت أسرة الأنبا شنودة من صعيد مصر إلى مدينة دمنهور في محافظة البحيرة، 70 كيلومتراً جنوب مدينة الإسكندرية الساحلية، وقد كان وقتها في عمر السنوات الست، وهناك بدأ الدراسة الابتدائية حتى الصف الرابع، ليعود ثانية مع والده إلى أسيوط بسبب ظروف عمله، ليكمل تعليمه الأولي، ثم الإعدادي، ومن بعد ترحل الأسرة ثانية إلى منطقة شبرا الحيوية وسط القاهرة، وهناك يحصل على شهادة الثانوية العامة، ويلتحق بجامعة فؤاد الأول، التي ستضحى جامعة القاهرة لاحقاً، وهناك في كلية الآداب تبدأ علامات التفوق تظهر على محياه، فيحصل عام 1947 على ليسانس الآداب قسم التاريخ، بتقدير "ممتاز".
تختلف حياة الأنبا شنودة عن حياة كثير من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ذلك أنه دخل مجال العمل العام، لا سيما التدريس، فعمل مدرساً للغة العربية ثم الإنجليزية.
كان عشقه للعربية مثاراً لاهتمام من حوله، لا سيما أن موهبة قرض الشعر ظهرت عنده مبكراً جداً، ففي عام 1939 كتب أول قصيدة منظومة ودارت حول موضوع مولده، قال في مطلعها:
أحقاً كان لي أم فماتت أم أني قد خلقت بغير أم
رباني الله في الدنيا غريباً أحلق في فضاء مدلهم
لم يكن سراً أن نسبة بالغة من أقباط مصر في هذا التوقيت كانوا من كبار المعجبين بالقطب الوفدي الكبير مكرم عبيد، الذي عرف بمقولته "أنا مسيحي الدنيا إسلامي الثقافة".
كان الشاب "نظير جيد" من كبار المعجبين بوطنية مكرم عبيد، مما ترك في نفسه رغبة عارمة في الاطلاع الواسع والكتابة المدققة.
لسنوات عدة عمل محرراً ثم رئيساً للتحرير في مجلة "مدارس الأحد"، والتي كانت في بداياتها، وفي الوقت نفسه كان يتابع دراساته العليا في علم الآثار القديمة.
ولعله مما ميز حياة الرجل أداؤه الخدمة العسكرية كضابط في سلاح المشاة، وقد جاء ترتيبه الأول بين أقرانه في دفعة الاحتياط.
التحق الشاب نظير بما يعرف بالكلية الإكليريكية، أي الكيان التعليمي الذي يتخرج فيه رجال الدين، ولم يكن يرقى إلى مستوى الجامعات في ذلك الوقت، وهناك أظهر تفوقاً واضحاً وجاء ترتيبه الأول، ليضحى مدرساً في المكان عينه.
كان من الطبيعي جداً أن تقوده هذه السياقات إلى التفكير في الزهد وترك العالم، والانضمام إلى أحد أديرة الرهبان الأقباط، التي كانت ولا تزال تملأ صحاري مصر منذ القرن الثالث الميلادي.
في مذكراته الشخصية، يسرد كيف أن فكرة الرهبنة كانت ساكنة بين ضلوعه منذ كان طالباً في الجامعة فيقول "منذ كنت طالباً في الجامعة، شعرت أن هناك شيئاً أسمى من هذه الدنيا بكثير، واشتقت لأن أكون راهباً وعاشت الفكرة في حياتي وأشعاري".
بالفعل نجد ضمن أشعار الأنبا شنودة ودواوينه، قصيدة كان قد كتبها وهو في السنة الثالثة بكلية الآداب عنوانها "غريباً"، يقول في مطلعها:
غريباً عشت في الدنيا نزيلاً مثل آبائي
غريباً في أساليبي وأفكاري وأهوائي
غريباً لم أجد سمعاً أفرغ فيه آرائي
يحار الناس في ألفي ولا يدرون ما بائي
وفي كل الأحوال لم تطل الإقامة به وسط صفوف العلمانيين، أي غير الأكليروس من رجال الدين، ليغادر إلى أحد الأديرة الواقعة في صحراء مصر بالقرب من القاهرة، والذي يعرف بدير السريان، وهو أحد أهم أربعة أديرة مصرية في منطقة "وداي النطرون"، في منتصف المسافة بين القاهرة والإسكندرية.
سيم راهباً في 18 يوليو (تموز) 1954 باسم الراهب "أنطونيوس"، وكان له من العمر 31 سنة وقتها، وربما اختار هذا الاسم تيمناً بمؤسس الرهبنة المصرية، الأنبا أنطونيوس المعروف بـ"كوكب البرية" (251-356) م.
سنوات التكوين الفكري وأسقفاً للتعليم
للذين لا يعرفون طبيعة الحياة الديرية الرهبانية في التراث المسيحي القبطي، هي شكل من أشكال الصوفية بدرجة أو بأخرى، فيها يفضل المرء حياة الزهد والنسك، التعبد والتوحد، كي لا يشارعه أو يصارعه أحد ما في حب الله.
لكن ليس معنى ذلك أن هؤلاء الرهبان يقضون آناء الليل وأطراف النهار في الصلوات والذكر، وإنما الأوقات لديهم مقسمة، إذ تبدأ الصلوات من منتصف الليل، وتستمر عادة حتى طلوع النهار، ليستريحوا قليلاً، ثم يقوموا كل إلى العمل الموكل إليه، سواء زراعة الأرض، أو إعداد الطعام، وقد يذهب البعض الآخر إلى الاهتمام بالمكتبات العامة داخل الأديرة، وهذه قصة طويلة.
حين ترهب الأنبا شنودة عام 1954، لم تكن الحياة الديرية القبطية قد تطورت على النحو الذي نراه ويراه البعض على هذه الصورة، بل كانت إرث قرون طويلة ماضية، وفي حاجة إلى تجديد وترميم وإعمار على صعيدي الحجر والبشر معاً.
11 عاماً قضاها الراهب "أنطونيوس السرياني"، في ديره، ما بين العبادة والصلاة داخل الجماعة، أو متوحداً في مغارة تبعد نحو ثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر من الدير، كان يجلس فيها وحيداً لا يرى وجهاً ولا يسمع صوت إنسان.
تمثلت مسؤولياته داخل الدير في الاهتمام بالمكتبة ونسخ الكتب الأثرية التاريخية المهمة، لا سيما أن وسائل الطباعة والتصوير الحديثة لم تكن قد طفت على السطح بعد.
كانت الفرصة طيبة لتعميق القراءة والتأليف والترجمة والنسخ.
بجانب الإشراف على مكتبة الدير ومطبعته أشرف على ما يسمى ببيت الخلوة، ويقصد به المكان الذي يقضي به الساعون إلى الترهب أوقاتهم في إطار البحث عن دعوتهم الروحية، كما كان يستقبل السائحين الأجانب ويترجم لهم، فقد أجاد الإنجليزية، إضافة إلى الاهتمام بالمرضى وتضميد جراحاتهم.
كيف انتقل القس أنطونيوس السرياني إلى القاهرة مرة أخرى؟
الأمر له قصة، تكاد تكون غريبة، ذلك أنه في عام 1962، كان في زيارة لبطريرك الأقباط الأرثوذكس وقتها الأنبا كيرلس السادس، لقضاء شأن من شؤون الدير، غير أنه في نهاية اللقاء وجد النية لتعيينه أسقفاً للتعليم داخل الكنيسة الأرثوذكسية، وتمت بالفعل سيامته يوم الثلاثاء 25 سبتمبر (أيلول) من عام 1962 أسقفاً للتعليم والمعاهد الدينية، لتبدأ سيرة ومسيرة مغايرة في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر المحروسة.
نهضة فكرية وعلمية وتعليمية
ليس سراً القول إنه قبل سيامة الأنبا شنودة أسقفاً للتعليم، لم تكن هناك خطة ممنهجة، أو رؤية تعليمية واضحة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بخلاف المؤسسات الدينية القبطية الأخرى كالكنيسة القبطية الكاثوليكية، والتي أسهم الرهبان الأوروبيون بنوع خاص في نهضة مدارسهم ومؤسساتهم ومعاهدهم، وقد برع بين هؤلاء: الجيزويت أو اليسوعيون والفرير والدومنيكان والفرنسيسكان، وجميعهم من أصحاب الشهادات العلمية العليا.
بالقدر نفسه كان احتكاك الأقباط البروتستانت بالبعثات الأميركية، التي أنشأت المدارس المتقدمة الراقية، ودور الأيتام والملاجئ، فاعل الأثر في ترقية الأحوال الفكرية لهذه الطائفة.
أما الغالبية الغالبة من الأقباط الأرثوذكس، وتحديداً الأكليروس منهم، فكان حظهم من العلوم سواء التراثية أو المعاصرة قليلاً، ولم يتحرك قارب النهضة إلا مع الأرشدياكون حبيب جرجس، الذي أسس بعض الأفكار التي اعتبرت أعمدة البناء العقلي، مثل فكرة مدارس الأحد، ومن بعده الأنبا شنودة الذي عمل على ما يمكن أن نسميه مأسسة التعليم في داخل كنيسته.
نظم الرجل فكرة المعاهد الدينية، واستقطب لها كثيرين من العلامات البارزة فكرياً في الوسط التعليمي المصري، ووسع نطاق الدراسات لتتجاوز فكرة تلقين الألحان أو بعض الطقوس، والقليل من الكتاب المقدس.
على أن الأمر الذي غير معالم وملامح الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في زمن الأنبا شنودة الثالث كأسقف للتعليم، هو أنه فتح الطريق واسعاً أمام جيل جديد من الرهبان والأساقفة من خيرة الشباب المصري المسيحي الحاصل على أعلى الشهادات العلمية.
قبل الأنبا شنودة كانت غالبية الدعوات الرهبانية من أناس رقيقي الحال فكرياً، إلا ندرة نادرة جداً، من عينة "الأب متى المسكين"، والذي سيقدر لهما أن يتصادما معاً، في زمن الرئيس أنور السادات.
منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى الساعة باتت الدعوات الرهبانية زاخرة والأديرة عامرة بشباب الأطباء والصيادلة والمهندسين والحقوقيين والكتاب والمفكرين، وجميعهم فضلوا الحياة الرهبانية على الحياة المدنية، وعليه فقد تلقت الرهبنة المصرية دفقات من الدماء الجديدة، كفلت لها رؤية تطويرية يدركها من يمضي إلى العمق ويزور ويعيش في قلب تلك الأماكن في القلب من صحراء مصر التاريخية.
هل كان القدر يخبئ مزيداً من المفاجآت للشاب اليتيم الذي صار شاعراً وكاتباً، وضابط احتياط، ثم مدرساً وتالياً راهباً فأسقفاً؟
شنودة الثالث والطريق إلى البابوية
في التاسع من مارس (آذار) 1971 توفي البطريرك القبطي الأرثوذكسي الأنبا كيرلس السادس، واحتاج الأمر إلى نحو ثمانية أشهر للإعداد لاختيار بطريرك قبطي جديد.
بحسب التقليد الكنسي القبطي، يقوم المجمع الملي، أي كبار شخصيات الأقباط، وعدد كبير من الأكليروس باختيار ثلاثة أسماء تحظى برضا الأقباط وعادة ما يحدث نوع من الانتخابات الداخلية عددياً.
نهار الأحد 31 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وفي يوم يعد مشهوداً لدى الأقباط، جرت عملية تسمى "القرعة الهيكلية"، حين تطرح الأسماء المرشحة الثلاثة، ويتم الاختيار عشوائياً من خلال طفل صغير مغمض العينين.
جاءت القرعة باسم أسقف التعليم، الأنبا شنودة الثالث ليخلف البطريرك الراحل الأنبا كيرلس السادس.
بدا المشهد وكأنه يحمل مفارقة تاريخية بين الرجلين، ذلك أن الأنبا كيرلس لم يكن سوى رجل صلاة وتصوف وتعبد، وعرفت سيرته محطات عديدة من النسك والزهد، ولا يزال مقره الأول في القاهرة المسمى "الطاحونة"، يستقبل الزوار صباح مساء كل يوم وطوال أيام السنة.
اتسمت بطريركية الأنبا كيرلس بنوع من الهدوء بين الكنيسة والدولة في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، لا سيما بعد أن تم بناء المقر الجديد للبطريرك، في منطقة العباسية، بتبرع من الدولة، وقام الرئيس عبدالناصر نفسه، يرافقه إمبراطور الحبشة هيلاسلاسي بافتتاح مهيب، على رغم أن مصر كانت في عهده مشغولة تماماً بمعركة تحرير الأرض، وبخاصة بعد هزيمة عام 1967.
بمجيء الأنبا شنودة، بدا كأن هناك حراكاً جديداً يتولد في الأفق القبطي، حراكاً ابن عصره إن جاز القول، إذ اهتم بشكل كبير وواضح بالعمل على صعيدين، التنمية الفكرية والذهنية للأقباط في الداخل، ورعاية الأقباط في الخارج.
هل يمكن اعتبار عهد الأنبا شنودة مرحلة جديدة في دول المهجر؟
ذلك كذلك قولاً وفعلاً، فمصر التي ظلت طوال النصف الأول من القرن العشرين مركزاً جاذباً للمهاجرين من إيطاليين ويونان، وأرمن وكلدان، ومن كل منطقة الشام والهلال الخصيب، عرف شعبها بمسلميه ومسيحييه طريق الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
في عهده اهتم الأنبا شنودة الثالث بالمصريين الأقباط الذين بدأوا في النصف الثاني من الستينيات الهجرة، لا سيما إلى أميركا وأستراليا وكندا وبريطانيا، عطفاً على ألمانيا وفرنسا، وأخيراً إيطاليا وهولندا والنمسا، وبحسب بعض التقديرات فإن هؤلاء يصل عددهم إلى ثلاثة ملايين منتشرين في ثلاث قارات تحديداً أوروبا وأستراليا وأميركا الشمالية، وهناك حضور ما لبعضهم في أفريقيا وأميركا الجنوبية.
شهدت فترة الأنبا شنودة الثالث نماءً وازدهاراً على صعيد المنشآت وبناء الكنائس وتعمير الأديرة داخل مصر، وتوسعاً كبيراً جداً في الخارج، وإن تسبب بعض أقباط المهجر في لحظات بعينها، في تشويه العلاقة بين الكنيسة والدولة، وربما هذا ما حدث في عهد الرئيس أنور السادات، الذي لم تجر المياه بينه وبين الأنبا شنودة في مجرى التفاهم والتعايش ذاته الذي سبق بين الأنبا كيرلس السادس والرئيس عبدالناصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصدام مع السادات وزيارة القدس
تقليدياً يقتضي تجليس البطريرك القبطي قراراً من رئيس الجمهورية، وهو ما حدث بالفعل من قبل الرئيس السادات بعد انتخاب الأنبا شنودة في 1971.
غير أنه بعد عام تقريباً، جرت بعض المناوشات الطائفية في منطقة الخانكة وسط القاهرة، بين مسيحيين ومسلمين، عكرت صفو العلاقات بين البطريرك والرئيس، وإن تم تجاوزها بعد دخول مصر الحرب في أكتوبر من عام 1973، وحاجة النسيج المجتمعي المصري إلى التماسك والتعاضد.
خلال الحرب عقد الأنبا شنودة اجتماعاً مع الكهنة والجمعيات القبطية لحثهم على الإسهام في دعم المجهود الحربي، كما شكل لجنة لجمع التبرعات ولجنة للإعلام الخارجي، كما قدمت الكنيسة 100 ألف بطانية لوزارة الشؤون الاجتماعية، ونحو 30 ألف جهاز نقل دم لوزارة الصحة.
وفي عام 1974 زار الأنبا شنودة مدينة السويس وألقى كلمة تشجيع في الجنود، ومن بعد زار مقابر الذين سقطوا خلال المعارك ووضع إكليلاً من الزهور على النصب التذكاري.
الأمر نفسه فعله في شهر سبتمبر (أيلول) من عام 1976 حين زار مدينة الإسماعيلية وزار الجيش الثاني ووضع زهوراً على النصب التذكاري.
بدأت الجفوة أو الكبوة مع الرئيس السادات حين قدم البعض اقتراحاً بتطبيق الشريعة الإسلامية عوضاً عن القوانين الوضعية في مصر والمستمدة من القانون الفرنسي.
اعتبر الأقباط وفي مقدمتهم الأنبا شنودة أن هذا أمر لا يمكن القبول به، وطلب من الأقباط الصوم ثلاثة أيام، في إشارة لم تغفلها الدولة، وإن مر الأمر بأقل الخسائر.
على أن الأزمة الكبرى تولدت في أعقاب زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977، والتي انتهت بالتوصل إلى اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل.
رفض شنودة زيارة الأقباط للقدس. وقال مقولته الشهيرة "لن ندخلها إلا في أيدي إخواننا المسلمين، لزيارة الأقصى والقيامة معاً".
اعتبر السادات هذا الأمر عصياناً بصورة ما لتوجهات الدولة الساعية إلى تعميق السلام مع إسرائيل، فيما كان شنودة في واقع الأمر يخشى أن يتهم الأقباط بالخيانة إذا ذهبوا منفردين.
أكبر العالم العربي موقف الأنبا شنودة وقتها بشكل كبير، لا سيما القيادات الفلسطينية، ليظهر في الأفق وصف وتعبير جديد للبطريرك شنودة الثالث بأنه بابا العرب وليس بابا الأقباط فحسب.
زاد الأمر تعقيداً حدوث أزمة طائفية في منطقة الزاوية الحمراء عام 1981، مما دعا الرئيس السادات في خطابه الشهير، 5 سبتمبر 1981، إلى إعلان عزله، وهو أمر تسبب في إحباط كبير، وتم تقييد إقامة الأنبا شنودة في ديره بوادي النطرون.
جرت الأمور سريعاً بعد أحداث أكتوبر 1981 التي اغتيل فيها الرئيس السادات وسط العرض العسكري، وفي عام 1984 أفرج الرئيس الراحل حسني مبارك عن شنودة، ليعود من جديد إلى منصبه، في لمسة تواصل وتصالح مع الدولة ظلت قائمة على رغم الشد والجذب الخفيفين طوال نحو ثلاثة عقود بين الرجلين، إلى أن رحل شنودة قبل مبارك بنحو ثماني سنوات.
علامة في تاريخ العرب والمصريين
في ذكرى مرور 100 عام على مولده تذكر الجميع كيف استطاع هذا الطفل اليتيم أن يتحول لصديق لغالبية الزعماء العرب، وقد حسبت له مواقفه المنفتحة، كما تميز بثقافته الإسلامية العميقة، الأمر الذي تجلى في كتبه وكتاباته، محاضراته ومسامراته، وفي صداقة كبار المفكرين الإسلاميين مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي عاده مريضاً في لندن، والمفكر الإسلامي خالد محمد خالد.
كان يرى في المصريين نسيجاً واحداً، وهو من رضع من أمهات مسلمات في قرية "سلام"، وكثيراً ما رفض فكرة انعزال الأقباط في ركن قصي من أركان مصر الجغرافية، وإعلان دولة مستقلة لهم كما حاول البعض ترويج إشاعات بهذا المعنى.
قال ذات مرة "أنا أريد أن تتعمق المحبة بين المسلمين والمسيحيين، وتزداد رسوخاً يوماً بعد يوم، وتكون أقوى من الإشاعات وأقوى من الشكوك، فالحب الحقيقي ينتصر على كل شيء، والمحبة لا تظن السوء كما ورد في الكتاب المقدس".
رحل الأنبا شنودة بعد أن ترك تراثاً فكرياً كبيراً يفوق 110 كتب، وحوارات وأحاديث عميقة، مما جعله علامة من علامات مصر والعالم العربي في القرن العشرين.