لم تسفر زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، لبريطانيا واجتماعاته مع أركان حكومة رئيس الوزراء الجديد بوريس جونسون، عن اتفاقات أو التزامات محددة بشأن أي من القضايا التي حملها معه من واشنطن إلى لندن.
وربما كانت النتيجة الهامة الوحيدة هي التأكيد على متانة "العلاقة الخاصة" عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتي بدا أنها كادت تفتر في ظل حكم رئيسة الوزراء المستقيلة تريزا ماي. كما عززت الزيارة الدعم الأميركي لجونسون الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترمب صراحة أكثر من مرة حتى قبل اختياره زعيما لحزب العمال ورئيسا للوزراء نهاية الشهر الماضي.
وعبّر بولتون في تصريحاته للصحفيين في لندن عن دعم أميركا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، حتى من دون اتفاق، قائلا عن "بريكست" دون اتفاق "أعتقد لو كان هذا قرار الحكومة البريطانية فسندعمه بحماس، وهذا ما أريد توصيله، إننا معكم، إننا معكم...".
ومن شأن ذلك الدعم الأميركي وإعلان بولتون من لندن عن استعداد الولايات المتحدة للتفاوض فورا مع بريطانيا بشأن اتفاقيات تجارية جديدة، أن يدعم موقف بوريس جونسون وحكومته في موقفها المتحمس لـ"بريكست" وإن من دون اتفاق، في موعده وفي مواجهة بعض المعارضة من مجلس العموم (البرلمان) البريطاني.
الموقف من إيران
ناقش بولتون مع المسؤولين البريطانيين القضية الأساسية التي يعد فيها من "الصقور" في الإدارة الأميركية، وهي الموقف من إيران، وأيا كان ما تم التفاهم بشأنه خلف الأبواب المغلقة فإن التصريحات العلنية والمواقف البريطانية لم تحمل أي جديد في هذا الصدد.
صحيح أن جون بولتون ثمّن موقف بريطانيا باعتبارها الطرف الوحيد الذي انضم للاقتراح الأميركي بشأن قوة بحرية دولية لحماية الملاحة التجارية في الخليج من التهديدات الإيرانية، لكن قرار بريطانيا هذا جاء بعد فشل محاولة تكوين قوة بحرية أوروبية لهذا الغرض، مع تردد فرنسا وألمانيا في قبوله.
يعد بولتون أقوى أعضاء إدارة ترمب في المطالبة بزيادة الضغط على إيران كي توقف نشاطاتها المعادية للمصالح الأميركية والمزعزعة لاستقرار الدول الصديقة والحليفة لواشنطن في المنطقة. لذا، توقع البعض أن تكون زيارته للندن مقدمة لموقف بريطاني أكثر تشددا من إيران قد يصل إلى حد الاقتراب من الموقف الأميركي، بخاصة مع زيادة التوتر بين لندن وطهران إثر احتجاز كل منهما ناقلة نفط للآخر الشهر الماضي.
وكان الرئيس ترمب انسحب من الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى في مايو من العام الماضي وأعاد العقوبات على إيران حتى تعود إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق أفضل يتضمن الحد من نشاط إيران الصاروخي ودعمها للإرهاب والتدخل في شؤون دول الجوار.
لكن بريطانيا ظلت ضمن الاتفاق الذي تم التوصل إليه عام 2015 بين إيران وكل من أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين. وشاركت بريطانيا نظيرتيها الأوروبيتين في الاتفاق في جهود الإبقاء على الاتفاق رغم التصعيد الإيراني المتمثل في التخلي عن بعض بنود الاتفاق، مثل زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم وكمية المخزون من الوقود النووي.
اختلاف السياسة الخارجية
تريد الولايات المتحدة أن تشاركها بريطانيا موقفها، سواء بالانسحاب من الاتفاق النووي أو حتى تجميد مشاركتها فيه وإعادة فرض كامل العقوبات على إيران حتى تعود للتفاوض على اتفاق جديد. لكن بوريس جونسون ليس مطلق اليد تماما في هذا الأمر، وتحكمه عوامل عدة تبرز الاختلاف في إدارة السياسة الخارجية بين بريطانيا وأميركا.
صحيح أن بوريس جونسون، الذي عارض سابقا انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، معروف عنه قدرته على تغيير مواقفه وأن حرصه على العلاقات مع واشنطن قد يجعله يتخذ موقفا من إيران أقرب من الموقف الأميركي عنه من الموقف الأوروبي، إلا أن بريطانيا ما زالت عضوا في الاتحاد الأوروبي في الأقل حتى 31 أكتوبر (تشرين الأول).
كما أن السياسة الخارجية البريطانية يتحكم فيها موظفو هوايتهول (مقر وزارات الحكومة في لندن) أكثر من السياسيين الذين يتغيرون مع كل انتخابات. وتلعب مراكز البحث والاستشارات المعاونة لعمل الوزارات والإدارات البريطانية دورا مهما في توجيه دفة تلك السياسة.
ومع أن تلك المراكز تلعب دورا مماثلا إلى حد ما في الولايات المتحدة، إلا أن تأثيرها على وزارة الخارجية الأميركية وليس البيت الأبيض. وفي طريقة الإدارة الأميركية فإن للبيت الأبيض القول الفصل في السياسة الخارجية، وغيرها أيضا، ما يجعل شخصا مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون أكبر أثرا على قرارات السياسة الخارجية، ربما من وزير الخارجية مايك بومبيو.
مع ذلك قد يتمكن بوريس جونسون، إذا تغلب على معضلات السياسة الداخلية في طريقه نحو "بريكست" خلال الشهرين المقبلين، من تغيير الدفة قليلا والاصطفاف بشكل ما مع واشنطن في الموقف من إيران، في الأقل في المفاوضات المحتملة على اتفاق جديد بين إيران والقوى الكبرى.
اتفاقات تجارية لدعم جونسون
لذلك ركّز جون بولتون خلال زيارته للندن على تأكيد رغبة واشنطن في عقد اتفاقات تجارية مع بريطانيا بأسرع ما يمكن، حتى أنه قال إن بلاده مستعدة للتفاوض من الآن رغم أن ذلك يعدّ غير قانوني لبريطانيا حتى تخرج من الاتحاد الأوروبي بعد شهرين.
كما أزال بولتون في تصريحاته عقبة مهمة للبريطانيين، وهي إشارته إلى التفاوض على اتفاق تجاري لكل قطاع على حدة، حيث يخشى البريطانيون من "تغوّل" أميركي في قطاعات معينة نتيجة حاجة بريطانيا للاتفاق بعد خروجها من أوروبا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع أن أغلب التعليقات أشارت إلى قطاع الخدمات المالية، الذي يعد حساسا جدا للبريطانيين الراغبين في الإبقاء على لندن مركزا ماليا عالميا للأعمال والاستشارات القانونية المرتبطة بها، إلا أن هناك قطاعات أخرى لا تقل حساسية عن الخدمات المالية.
من ذلك قطاع الصحة في بريطانيا، والذي تسعى شركات الخدمات الطبية الأميركية إلى الدخول فيه بقوة وسط معارضة واسعة من البريطانيين الذين يفاخرون بنظام الخدمة الصحية الوطنية "NHS"، ويخشون من أي محاولة لخصخصته.
كما أن بريطانيا تظل ملتزمة باللوائح الأوروبية في ترخيص الأدوية التي تنتجها الشركات الأميركية أو العالمية وتحصل على ترخيص في الولايات المتحدة من هيئة الغذاء والدواء. ولا يكفي الحصول على ترخيص هيئة الغذاء والدواء لطرح العقاقير في السوق البريطانية (أو الأوروبية عامة) إلا بعد عام أو عامين حتى يتم التأكد من أنه لا أضرار جانبية له. كما أن هناك هيئات رقابة دوائية أوروبية (وبريطانية) تتشدد في معاييرها عن الهيئة الأميركية.
وبالنسبة إلى الأميركيين، فإنهم يريدون أن تشمل الاتفاقيات التجارية المنتجات الزراعية أيضا، وهو ما لا تريده بريطانيا، كي لا يغرقها الإنتاج الأميركي ويحد من قدرتها على تطبيق معايير الجودة في استيراد الغذاء والمنتجات الزراعية.
الاتجاه غرباً
تلك التعهدات الأميركية التي حملتها زيارة جون بولتون للندن دعما لبوريس جونسون لن تؤتي أوكلها إلا بعد ترسيخ الحكومة البريطانية لوضعها وتمكنها من تنفيذ "بريكست" خلال شهرين. لكن من شبه المؤكد أن زيارة بولتون، والتصريحات الأميركية عامة، تدفع ببريطانيا للاتجاه غربا عبر الأطلسي وبعيدا عن الشرق الأوروبي.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي يظل الشريك التجاري الأكبر لبريطانيا، لكن الاتفاقيات التجارية مع أميركا وغيرها من دول العالم ومناطقه ستعوض بريطانيا عن تلك العلاقة الأوروبية وتعزز العلاقة الخاصة الأنغلوساكسونية.
كما أن بريطانيا تتوق لتحرر سياستها الخارجية تجاه قضايا العالم، وفي القلب منها قضايا الشرق الأوسط وتحديدا الآن الأزمة مع إيران، من الموقف الأوروبي التقليدي. وغالبا ما كانت بريطانيا تتخذ توجها مغايرا في كل قضية خارجية تتعامل معها أوروبا ككيان واحد، لكنها في الأخير كان عليها أن تلتزم بالموقف الأوروبي، سواء نجحت في تعديله أم لا.