Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بلد العميان"... أن نرى بوضوح حين ينعدم الضوء

كتاب جديد لا يقول إن المكفوفين وحدهم هم المعزولون ولكن من يغمضون أعينهم إلا عن الهواتف أيضاً يؤثرون العمى

لوحة "أمثولة العميان" لبروغل الأكبر (غاليريا ناسيانالي دي كابوديمونتي ـ نابولي)

ملخص

في "بلد العميان" يقيم كل منا عزلته وينسج حول نفسه شرنقته مقصياً من عداه.

"فيما أكتب هذه الكلمات يصيبني العمي"، هكذا يبدأ كتاب "بلد العميان.. سيرة نهاية البصر" الصادر حديثاً للكاتب الأميركي أندرو ليلاند عن دار "بنغوين" في قرابة 370 صفحة. لكنه سرعان ما يستدرك بالقول إن "الأمر أقل دراماتيكية مما يبدو".

على رغم ذلك، يكتب ليلاند في مقتطف طويل نشرته "ذي نيويوركر" في الثامن من يوليو (تموز) 2023، "انتبهت للمرة الأولى إلى خطب في عيني وأنا في نيو مكسيكو. كنت التحقت بالمدرسة الثانوية لتوي في منتصف التسعينيات، وقبلتني ثلة شباب أكبر سناً كنت أكن لهم إعجاباً، وكانوا مجموعة بوهيمية يتعاطون المخدرات في مدرسة (سانتا في) الإعدادية. كنا في بيت هانك زعيمنا الكاريزمي. ولما حل الظلام تسلقنا تلاً خلف البيت لننظر إلى المدينة من هناك. كان القمر ساطعاً، لكنني وجدت نفسي أنحرف عن الدرب إلى العشب والحجارة حتى اصطدمت بشجرة شائكة الغصون، وضحك أصدقائي ظانين أن المخدرات تمكنت مني، فجاريتهم، لكن ونحن راجعون وضعت يدي في هدوء على كتف هانك".

سيمضي هذا الولد، بعينيه الكليلتين إلى أن يصبح محرراً لسنين طويلة في مجلة "ذي بليفر"، كما يصبح أيضاً مذيعاً (بودكاستر) غزير الإنتاج، وأخيراً مؤلف كتاب يوشك ألكسندر جاكوبس وهو يستعرضه – "نيويورك تايمز"، الـ23 من يوليو 2023 - أن يحسده عليه، إذ يقول إنه على رغم التحديات الكبيرة التي يفرضها العمى على ليلاند "فهو يعطيه ما يتوق إليه أغلب كتاب الأعمال غير الخيالية: موضوعاً ضخماً". والحق أن ليلاند لا يفلت الفرصة، فكتابه هذا ليس سيرة ذاتية فحسب، ولكنه أقرب إلى موسوعة للعمى، أو تاريخ ثقافي له.

روح الدعابة الهستيرية

تكتب ميشيل كيتشير – "سان فرانسيسكو كرونيكل"، الـ25 من يوليو 2023 - أن ليلاند "عند تشخيص حاله بالتهاب الشبكية الصباغي قبل 20 سنة، لم يكن يعرف بدقة متى ستتدهور قدرته على الإبصار"، وتذكر أن هذا المرض الوراثي النادر يتسبب في انهيار خلايا الشبكية ويفضي إلى ضعف النظر البالغ، وأخيراً إلى العمى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بدأ ليلاند تأليف الكتاب قبل سنين ليزداد فهماً لتجربته الشخصية مع العمى، وليشجع القراء، بحسب ما يكتب، على "استكشاف أرض العمى الخفية عنهم إلى حد كبير"، متأملاً في تجارب استعمال العصا والقارئ اللوحي وتعلم طريقة "برايل".

في مستهل حواره مع "سان فرانسيسكو كرونيكل" عبر تطبيق "زوم"، اعتذر ليلاند عن وجود جرو تحت قدميه قد يلهيه، وعندما سألته محاورته إن كان من الكلاب المساعدة للمكفوفين، وعن فكرة اعتماد أحدهما على الآخر بدلاً من اعتماد الكلب عليه، ضحك ليلاند قائلاً "لا، هو ليس كذلك. ولكنه ظريف للغاية. اشتريت له عشوائياً رسناً برتقالياً، والناس يرونني أسير بالعصا وبهذا الجرو فيفترضون أنه مدرب. وهنا تكمن هستيرية الموقف، لأنه النقيض للكلب المرشد. فهو يجذبني إلى أنهار وأشجار وينزل بي عن الرصيف. هو ضائع تماماً".

بمثل روح الدعابة هذه يمضي ليلاند في كتابة حياته، لكن الدعابة تعجز عن التهوين من مشهد يظهر فيه ليلاند متردداً أمام دعوته إلى قطع الحبل السري لابنه الوليد.

الذين ينعدم لديهم الضوء

عنوان "بلد العميان" مأخوذ من قصة بالعنوان نفسه لرائد الخيال العلمي إتش جي ويلز. لكن "خلافاً لعالم العميان العاجزين عن الرؤية تماماً في قصة ويلز"، بحسب ما تكتب أستاذة علم النفس كيت وومرسلي في عرضها للكتاب – "غارديان" الـ17 من يوليو 2023 – إذ "يكشف ليلاند عن (ألوان) كثيرة من العمى. فأبناء بلد العميان الأصليون، أي من يولدون مكفوفين، أقلية، كما يندر أيضاً أولئك الذين ينعدم استقبالهم للضوء (فلا يتجاوزون 15 في المئة)، وبالمقارنة مع هؤلاء يشعر ليلاند أحياناً أنه محتال (لأنه لم يزل قادراً على الرؤية بنسبة ستة في المئة). أما (المجنسون) فأكثر كثيراً، وهم الذين يجدون أنفسهم في البلد بسبب حادثة مفاجئة أو تدهور بطيء، ويضرب ليلاند أمثلة قاسية فيقول "لويس برايل أصيب بالعمى وهو في الثالثة بسبب منجل. وأطفال تضررت أعينهم بسبب البلوط السام، أو بسبب جار مجنون ألقى على أحدهم حمض الكبريتيك".

 

 

ليلاند، على أية حال، من هؤلاء المجنسين. تتدهور قدرته على الإبصار بمرور السنين، ولا يتوقف عن التردد على أطباء العيون "ذوي الإحساس المتدني بالتجربة الحياتية لمتدهوري البصر الذين يشخصون حالاتهم". ولعل الرغبة في محو أمية المبصرين في موضوع العمى كانت من دوافع تأليفه هذا الكتاب الموجه بالأساس إلى المجتمع الأكبر المحيط بالعميان.

تكتب وومرسلي أنه "شأن تعدد أنواع العمى، تختلف آراء المكفوفين حول الطريقة التي يجب أن يستوعبهم بها المجتمع. فالاتحاد الوطني الأميركي للمكفوفين صارم في مطالبته بالنظر إلى العمى باعتباره إعاقة، مع إصراره أنه لا يجب فرض أي سقف للنجاح على المعاقين بصرياً. فسواء أكانوا فنانين أم مهندسين لا يجب أن يتعرضوا لأي تمييز، وهذا هو الموقف الذي يعززه (بلد العميان) ببراعة".

لا يخفي ليلاند أن وضعه المادي المميز يسر عليه وقع فقدان البصر، فهو قادر مادياً على الحصول على التقنيات المساعدة، ولم يضطر إلى إلزام نفسه بـ"مهن المكفوفين". و"ليلاند لا يخفي مزاياه" بل يتخذها فرصة لـ"يسرد تفصيلياً تجارب مكفوفين آخرين، مشيراً إلى أن فقدان البصر يضاعف احتمال الفقر مرتين، والبطالة 14 مرة. ويكشف عن أن المكفوفات عند تعرضهن للاغتصاب يواجهن تكذيباً كبيراً، أما المكفوفون المتهمون بالاعتداء الجنسي فيتجاسرون على اتخاذ إعاقتهم وسيلة لاستدرار التعاطف، أو دليلاً على أنهم غير مؤذين".

أن تشاهد بوضوح وسط الظلام

يلفت استعراض ألكسندر جاكوبس النظر إلى ما في "بلد العميان" من إحالات أدبية ليس عنوانه إلا الأول منها، فالعمى في ما يبدو استعارة كلاسيكية قديمة قدم الأدب ينقب عنها ليلاند في "أوديب ملكاً" لسوفوكليس، و"نهاية اللعبة" لصمويل بيكيت، و"الملك لير" لوليم شكسبير، ويكاد يخلص إلى أن العمى "على مدار التاريخ" كان "سمة تضفي هالة على المؤلفين والفنانين. فمن المعتقد أن هوميروس كان أعمى، ومن المقطوع به أن جون ميلتون كان كذلك. ومثلهما خورخي لويس بورخيس، وإن جاء عماه تدريجاً. وجيمس جويس اضطر إلى إملاء (صحوة فينيغن) على صديقه بيكيت فجاءت رواية سماعية (وشفاهية) رائعة".

يتعقب ليلاند الأدب والتاريخ بحثاً عن العمى والعميان كمن يوسع دائرة معارفه، ويأتنس بأمثال له ولو في الخيال، وربما أيضاً كمن يبرز فضل المكفوفين على المبصرين، أو على الإنسانية بعامة. ويجد ليلاند العمى في كل شيء، ولا يستثني من ذلك اللغة نفسها. فهو يشير مثلاً إلى أنه التقى زوجته في ما يعرف بـ"الموعد الأعمى"، وذلك تعبير يعني اللقاء غير المرتب بين اثنين لا تجمع بينهما سابق معرفة، ويشير إلى أن اسم عائلتها هو ووشتر (Wachter) الذي يلزمه بلعبة لغوية، وهي أن يكون ووتشر (Watcher) وهو اسم الفاعل من (Watch) أي يشاهد. فلا عجب أن يتعرض ليلاند أحياناً لاتهام أصدقائه له بـ"الإفراط في التنظير" للعمى.

 

 

ولا يقتصر حضور زوجته في كتابه - وهو كتاب حياته - على ذلك. يقول ألكسندر جاكوبس إن ليلاند "يتحرى الصراحة في ما يتعلق بخلافاتهما، ويعرب عن امتنانه لها حينما تعترض جهاراً على التمييز ضد المعاقين كما حدث عندما ألقى حاخام في المعبد الذي يقصدانه قصيدة تدعو المصلين إلى أن (اجثوا على ركبكم شاكرين الرب على نعمة أبصاركم)".

غير أن "بلد العميان" بعيد كل البعد من أن يكون سرداً لسعادة أسرية. فليلاند لا يتورع عن ارتياد أشق زوايا الإعاقة، كما أنه "ذهنياً وجسدياً رحالة لا يهدأ ولا يتوقف عن الاستكشاف، فهو يسافر لحضور مؤتمرات تتحول فيها نقرات عصي المكفوفين إلى سيمفونية جماعية متصاعدة، وينقد التقنيات المختلفة، ويخصص فصولاً في الكتاب لكيفية مفاقمة العمى للعنصرية أو التمييز على أساس الجنس أو تخفيفه لذلك".

ومن أعمق جوانب الكتاب، بحسب تقدير ألكسندر جاكوبس، أنه "يدعو القراء إلى النظر في ما لو أن الإبصار جدير بـ(المكانة المرموقة التي نوليها له على قمة هيراركية الحواس). فقد ذكرنا (كوفيد 19) بنفاسة وأساسية الشم والتذوق. كما أن أولى النصوص والصور المولدة من خلال الذكاء الاصطناعي تتحدى بلا شك التفوق البصري".

مبصرون يؤثرون العمى

في حواره مع ميشيل كيتشير يقول ليلاند "لقد كان أمراً مثيراً ومهماً لي بحق أن أكتب هذه السيرة فتميل بعض الميل إلى الصحافة وإلى التاريخ وإلى النقد"، ويقول إنه كان ليخيب رجاؤه في كتابه كثيراً لو جاء محض سيرة إعاقة، و"الكتاب، بلا شك، سيرة إعاقة لكنه أيضاً سردية غير أدبية للعمى. وهذا هو المثير حقاً بالنسبة إلي".

ويضيف "إن أغلب سير العمى المنشورة في رأيي تميل، لأسباب وجيهة، إلى أن تكون سيراً لأشخاص فقدوا أبصارهم ويحكون عما يعنيه أن يكونوا مكفوفين. أما كتابي فشعرت فيه أن من المهم بحق أن أنقب في التجربة عن البيني، أي تجربة العمى لدى الأغلبية الساحقة من العميان"، وليس النسبة الصغيرة إلى من لا يستقبلون أي قدر من الضوء.

غير أن "بلد العميان"، فضلاً عن غوصه في حياة مؤلفه، وكشفه حقائق غير معروفة بالقدر الكافي عن المكفوفين، يمثل نقداً عاماً لما نعيشه كلنا الآن، مبصرين ومكفوفين على السواء.

في الخامس من أغسطس (آب) الجاري نشرت "نيويورك تايمز" لأندرو ليلاند مقالة كتب فيها عن تجربة ذهابه مع أسرته إلى مطعم مكسيكي حيث استطاع أن يستعرض العناوين الكبرى في قائمة الطعام المعلقة وراء المحاسبين من دون تفاصيلها. موضحاً "كان بوسعي أن أتبين العناوين، أي ما أعرفه بالفعل. أما جميع النصوص التالية لهذه العناوين فلا سبيل إلى فك شيفراتها. في تلك اللحظة كان لدي الخيار: إما أن أستعين بمكبر الصور في هاتفي، أو أحاول استعمال إمكان تحويل النص إلى صوت فأعرف قائمة الطعام، أو أطلب مساعدة أسرتي. ثمة توتر قوي بين الاستقلال الذي توفره التقنيات المساعدة، وإمكان الاعتماد على الغير الذي يمكن أن ينشأ عن التواصل بين المعاقين وغير المعاقين. وهذا التوتر لم يكن قط أوضح مما هو اليوم، إذ تقف التطورات التكنولوجية على عتبة حقبة غير مسبوقة من الاستقلال للمعاقين".

يعرض ليلاند في مقالته قائمة مثيرة للإعجاب حقاً وجديرة بالتشجيع من التطبيقات المساعدة للعميان على قراءة النصوص، والتعرف على المعروضات في واجهات المتاجر فور الإشارة إليها بكاميرا الهاتف، وتقدير حجم الوجبة المجمدة في ثلاجة المتجر.

يقول ليلاند إن حجم الجزء البصري من المعرفة اليوم، أي الجزء الذي لا يمكن أن يدركه العميان من دون ما مساعدة، بات هائلاً، سواء ما هو قائم على الإنترنت أو في العالم الواقعي، وهو ما يجعل الاستعانة بالتكنولوجيا أمراً حتمياً لا غنى عنه. "لكن على رغم قدرة التكنولوجيا الموثقة على تغيير حياة أصحاب الإعاقات، فإنها لا يمكن أن تكون الحل الوحيد، فوصف التطبيقات لصورة قد يقول إنها تحتوي ثماراً، أما إذا كتب الناس أوصاف صورهم فإنني أحصل على إحساس أوضح بما يجري فيها وقدر أكبر من السياق".

يكتب ليلاند "وأنا واقف في طابور المطعم وجدت في نفسي عزوفاً عن استعمال هاتفي طلبا لحل من الحلول السيبرانية المتاحة للمساعدة على فك شيفرة قائمة الطعام. فقررت ببساطة أن أطلب من زوجتي ليلي أن تخبرني بخيارات التاكو. فإذا بابننا أوسكار، البالغ من العمر 10 سنوات، يقاطعها قائلاً (أنا سأفعل هذا). ومضى في اعتزاز يقرأ أوصاف التاكو المختلفة، وأخذنا نتناقش في ما بدا منها جيداً. ولم يبد الاعتماد على قراءة أوسكار لقائمة الطعام شبيهاً من قريب أو بعيد بفقدان الاستقلال. لقد كان أمراً طريفاً وحواراً عاطفياً وتجربة مشتركة مع حبيب، وذلك بجانب تناول الطعام كان السبب الأساس لوجودنا في المطعم أصلاً".

الحقيقة أن ذلك ربما يكون سبباً أساسياً لوجودنا في العالم، لولا أننا ننسى ذلك أو نتعامى عنه، فيقيم كل منا عزلته وينسج حول نفسه شرنقته مقصياً من عداه. وفي حين أنه لا شك في أن الاستقلال حق لكل شخص، وحاجة يجب على الجميع السعي إلى تحقيقها، لكن الاستقلال الكامل، فضلاً عن أنه وهم، لا ينبغي أن يلوث قيمة التكافل والتكامل بيننا، ولا ينبغي أن يحرمنا لذة التواصل البسيط بين البشر.

"بلد العميان" لا يقول إن المكفوفين وحدهم هم المعزولون وحسب، ولكنه يقول أيضاً إن المعزولين بمعنى ما عميان، ومن يغمضون أعينهم إلا عن الشاشات التي بين أيديهم هم بمعنى من المعاني مبصرون يؤثرون العمى.

العنوان: The Country of the Blind: A Memoir at the End of Sight 

تأليف: Andrew Leland 

الناشر: Penguin

اقرأ المزيد

المزيد من كتب