ملخص
أدوس أو لا أدوس؟! تلك هي المعضلة. فكم من "دوسة" بدت بسيطة لكنها قطعت صلة الأرحام وبعثرت ذكريات الطفولة وعصفت بتاريخ مشترك وعرضت العلاقات الاجتماعية والعاطفية والأسرية لمخاطر غير قابلة للإصلاح.
القرار صعب. تجلس وحدك، تحملق أمامك، تمرر ما مضى من ذكريات وأحاديث إلى أعلى، تعاود التمرير وتستحضر ما كتبوه من كلمات كانت أشبه بطعنة في القلب إلى أسفل، تغمض عينيك دقيقة حتى لا تقع أسير الماضي أو تأثير الحاضر، تحرك يدك ببطء، وتتخذ القرار، وتدوس.
أدوس أو لا أدوس؟! تلك هي المسألة والمعضلة والورطة. فكم من "دوسة" بدت بسيطة لكنها قطعت صلة الأرحام، وبعثرت ذكريات الطفولة، وعصفت بتاريخ مشترك، وضربت عرض الحائط بقواعد العلاقات الاجتماعية والعاطفية والأسرية لتعرض السلم الاجتماعي والأمن النفسي والصحة العقلية لمخاطر غير قابلة للإصلاح.
جردة للأصدقاء
وعلى رغم ذلك يقول خالد أحمد (60 سنة) أن حاله انصلح وحياته استقرت وصحته العقلية والنفسية تحسنت حين اتخذ القرار وأنجز جردة شاملة لقائمة الأصدقاء على "فيسبوك". يقول، "ظللت متردداً طيلة سنوات، وتحديداً منذ أحداث يونيو 2013 حين فوجئت بأفراد من أسرتي داعمين للجماعة الإرهابية (الإخوان المسلمين). حذرتهم مراراً وتكراراً، وطلبت منهم عدم التعليق على ما أكتب دعماً للجيش والقرار الشعبي بالتخلص من حكم الإخوان، وإلا سأقوم بحظرهم من على صفحتي. أيام كثيرة، ارتفع فيها ضغطي، وانخفض فيها سكري ووصل الأمر لدرجة مروري بأعراض ذبحة صدرية إلى أن أجريت حملة شاملة على قائمة الأصدقاء، وحجبت وأنهيت صداقة العشرات حتى أصبحت صفحتي متناغمة متجانسة لا تحوي إلا من هم يفكرون بالطريقة التي أفكر بها، ويعتنقون الأيديولوجيا التي أعتنقها. وأنا الآن أسعد حالاً".
حال البلوك جدير بالتفكر والتدبر. قبل سنوات قليلة مضت، كان أقصى ما يمكن حدوثه بين دوائر المعارف والأصدقاء حال وقوع مشكلة أو سوء تفاهم هو الخصام. منه ما كان يطول، ومنه ما كان يقتصر على بضعة أيام أو حتى ساعات حتى تصفو النفوس ويعود الوصال في جلسة عائلية أو لقاء في مقهى.
أما البلوك، فهو خصام عنكبوتي له قواعد مختلفة ويتبع إجراءات لم تكن على بال البشرية حتى بزوغ شمس الـ"سوشيال ميديا" قبل نحو عقدين. حين تذكر كلمة "خصام" في العالم العربي، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو وقوع مشكلة أو خلاف أو نزاع أو جدال بين شخصين يحدث على أثرها جفاء وبعاد، قد ينتهي بالمصالحة، وقد يطول أمده ويصبح هو الواقع الجديد، أو يتصالح الطرفان لكن يبقى شيء ما في النفوس يحول دون عودة المياه إلى مجاريها.
مياه الـ"سوشيال ميديا"
لكن المياه على أثير الـ"سوشيال ميديا" مختلفة. فمصدر المياه يتحكم فيه طرف واحد فقط هو صاحب الصفحة أو الحساب. وأسباب الخلاف أو الخصام موثقة بالصوت أو الصورة أو كليهما. وعادة يقع الخلاف على مسمع ومرأى من "المارة" جميعاً، أي الأصدقاء والمتابعين حيث وقائع الخصام يشترك فيها أطراف كثر. ومنهم من يشارك بإشعال مزيد من النيران، أو يطفئها عبر تعليقات وآراء. والنتيجة عادة تكون مزيداً من النيران المؤدية إلى "البلوك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العصر الرقمي، وغرق الملايين في أغوار الـ"سوشيال ميديا" وما يصاحب ذلك من هجرة قدر غير قليل من العلاقات الإنسانية من أرض الواقع إلى الأثير الافتراضي، شهد ظواهر جديدة في قواعد الخلاف والخصام، والتي كثيراً ما تؤدي إلى قرار الـ"بلوك" أو الحظر أو المنع لأحدهم.
شعور القوة المصحوب بالراحة الناجم عن إلغاء صداقة أحدهم أو حتى أخذ إجازة من صداقته لفترة محددة لحين تدبر أمرك واتخاذ قرارك النهائي يجذب كثيرين، لكن "البلوك" ليس مجرد ضغط زر. إنه منظومة نفسية وعصبية تعني كثيراً لمن يتخذ قرار الحظر وتحمل كثيراً أيضاً لمن يقع عليه القرار.
قرار الـ"بلوك"
قرار الـ"بلوك" الذي اتخذه خالد أحمد لخلافات أيديولوجية واختلافات في وجهات النظر جعله يشعر أن الأشخاص الذين تم حظرهم لم يعودوا موجودين في الحياة. يقول: "أشعر وأنا أدق على (إلغاء صداقة) فلان أن هذا الشخص الذي ضايقني بتعليقاته أو اتهمني بالجهل والسطحية أو اعتبرته خائناً للوطن لم يعد موجوداً وأن السخافات والمخاطر الناجمة عن وجوده ونشاطه وآرائه قد انتهت للأبد".
البلوك ليس نهاية أبدية لرأي أو توجه أو حتى معلومات مفبركة يروجها أحدهم. إنه نهاية للضغط النفسي والعصبي الذي يتعرض له المستخدم صاحب الصفحة أو الحساب الذي يجد نفسه مضطراً لقراءة أو مشاهدة أو متابعة ما يكتبه أو يحمله "صديق". هي نهاية رقمية وليست حقيقية.
"هل فعل البلوك يتعلق بالذات؟" سؤال تطرحه دراسة عنوانها "سيكولوجية حظر الآخرين" أجراها "معهد فيشر الأميركي للصحة النفسية والجسدية. تصف الدراسة الـ"بلوك" بـ"لعبة قوة يغذيها الغرور". وعلى رغم أن أرض الواقع هي المكان الأنسب لإنهاء العلاقات وليس أثير الـ"سوشايل ميديا"، إلا أن الدراسة تشير إلى أنه في حال كان الشخص قد وصل إلى درجة من الغضب أو الألم أو عدم الراحة أو الضغط النفسي ما يعرضه لخطر المرض أو فقدان الشعور بجمال الحياة، أو تحولت حياته إلى رغبة في الانتقام أو تعجل الاستيقاظ من أجل الرد على أحد أصدقاء "فيسبوك" أو الدخول في معركة كلامية مع أحد معارف "تويتر" ما يصيب ساعات نومه بالاضطراب وصحته بالاعتلال، فإن الحظر يكون الخيار الأمثل، حيث الصحة النفسية والعصبية والجسدية لها الأولوية.
وتشير الدراسة إلى أنه ينبغي على المتضرر بشدة من منشورات أو رسائل غير مرغوب فيها أن يحظرها تماماً بهدف عدم رؤيتها من الأصل. وعلى رغم ذلك تبقى إنهاء الخلافات وجهاً لوجه لأن دقة الزر لا تنهي خلافاً، بل تخفيه.
الحاظر والمحظور
الخلاف الذي "يختفي" افتراضياً بالحجب أو الحظر له أثر نفسي على كل من الحاظر والمحظور. فالحاظر يشعر براحة نفسية وإحساس بالقوة. أما المحظور فقد يشعر بالغضب العارم أو الحزن حتى لو كان يبادل الحاظر شعور الكراهية أو القرف أو الحنق نفسه، لكن شعوراً بالضعف والرفض يعتريه لأنه الطرف الذي وقع عليه فعل الحظر.
لماذا يحظر المستخدمون أصدقاءهم ومعارفهم، وربما شركاء حياتهم وأبنائهم؟ تأتي الإجابات متنوعة. "لا أحظر أحداً إلا إذا وصلت إلى درجة عدم رغبتي في رؤيته أو معرفة أخباره أو الاطلاع على آرائه أبداً"، "أشعر بأنني وأبنائي في خطر حين أطلع على ما يدور في فكر أشخاص يعيشون حولنا"، "أحظر من يكتفي بالتعليق على ما أكتب بتعليقات ساخرة أو سلبية أو يسودها التشاؤم فقط"، "ألغي صداقة من أكتشف أنه عنصري أو رافض للآخر أو طبقي"، "أحظر من يسخر من ديني أو يطرح أسئلة لا ينبغي طرحها مثل: ما المنطق من فرض كذا؟ أو لماذا تؤمن بهذا ولا تؤمن بذاك؟"، "أحظر من ينتمي أو يتعاطف أو لا يمانع في أن تكون جماعة الإخوان الإرهابية جزءاً من الحياة السياسية أو حتى الاجتماعية"، "أحظر من يصادق النساء"، "أحظر من يعتبر النساء كائنات درجة ثانية"، "أحظر من يؤيد بوتين وحرب روسيا في أوكرانيا"، "أحظر من ينتقد الحجاب" "أحظر من يعتبر النقاب فضيلة" وقائمة أسباب الحظر لا تنتهي.
شؤون الحظر وقواعده
قائمة أخرى موازية تقدمها منصات الـ"سوشيال ميديا" لكن تحوي شؤون الحظر وقواعده. فمثلاً، إن انتهت علاقة المستخدم العاطفية بشخص ما وكلاهما أصدقاء على "فيسبوك" يمكن لأحدهما أن يغير صورة البروفايل لو كانت مشتركة، وتحويل الرسائل التي تحتوي على مشاعر وعواطف إلى الأرشيف، وتغيير كلمة المرور، وتفعيل خاصية شرط السماح بـ"التاج" أو ذكر الاسم في الصور والتدوينات، و"بلوك" شريكك السابق أو الغ صداقته.
صداقة الأشخاص قد تلغى على صفحات التواصل الاجتماعي، لكن وجودهم الحقيقي لا يلغى. وقد لوحظ في سنوات ما بعد ما عرف بـ"الربيع العربي"، وهو الربيع الذي أزاح الستار عن تيار الإسلام السياسي وكشف حجم التعاطف الشعبي معه ولو من باب "نولي من يحكم باسم الله"، أن جانباً غير قليل من الخلاف والحجب والحظر والطرد من الصفحات والتنابز بالكلمات والاتهامات مصدره خلافات تمزيج الدين بالسياسية بالحياة بالأولويات. هذه الخلافات لم تترك أسرة ممتدة إلا وطرقت بابها، لذلك لم يعد غريباً أن يشتبك أبناء وبنات الأخوال والأعمام على صفحات التواصل الاجتماعي لأسباب تتعلق بالمجريات السياسية والنتائج الانتخابية. هذه الخلافات كثيراً ما تؤدي إلى شقاق أسري عميق يؤدي إلى القطيعة.
القطيعة الافتراضية
القطيعة الافتراضية عبر تفعيل الـ"بلوك" من الأمور المطروحة بقوة في المنطقة العربية، لا سيما بين المستخدمين من الأجيال الأكبر سناً، وتحديداً من الأربعينيات وما فوق. أولوية الإبقاء على صلة الرحم والتواصل الأسري على رغم أنف الخلافات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية واضحة لدى قطاع عريض من مستخدمي الـ"سوشيال ميديا" العرب.
فلان حظر ابنة خالته حفاظاً على العلاقات الأسرية. وفلانة ألغت صداقة عمها ترجيحاً لكفة صلة الرحم على التناحر السياسي، وهلم جرا، هذا البعد الأسري الاجتماعي في قواعد الـ"بلوك" ليس شائعاً في الغرب حيث الأولوية للصحة النفسية والعقلية، لا للعلاقات الأسرية ومصير الأسرة الممتدة.
أسباب استخدام الـ"سوشيال ميديا" كذلك تختلف من مكان إلى آخر. منصات التواصل الاجتماعي منذ شيوع استخدامها في المنطقة العربية وهي تملأ فراغات عديدة. الفراغ الناتج عن قلة ساعات العمل، أو خواء الفضاء السياسي، أو عدم الثقة في الإعلام التقليدي، أو الكبت الجنسي، أو ضغوط الحياة اليومية وغيرها أمور تجعل من منصات الـ"سوشيال ميديا" منافذ عربية تأخذ أحياناً أكبر من حجمها وتؤثر سلباً أو إيجاباً على حياة المستخدمين الغارقين فيها.
الـ"سوشيال ميديا" شيب وشباب
وعلى رغم أن بدايات الـ"سوشيال ميديا" في العالم العربي جعلت منها وجهاً آخر للأجيال الشابة والمراهقة، في مقابل الأجيال الأكبر سناً التي دب الشيب في شعرها، المتمسكة بصحفها الورقية وقنواتها التلفزيونية والإذاعية، إلا أن واقع الحال العربي الآني يشير إلى انغماس الكبار بشكل واضح في منصات التواصل الاجتماعي واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية، هذا الانغماس يأتي ضمن حزمة متكاملة حيث الكتابة والتدوين اليومي أمر بالغ الحيوية، ومعرفة من علق بماذا؟ ومن اعترض لماذا؟ ومن راقب في صمت، تحتل جزءاً كبيراً من التفكير. كما تتضمن التعامل مع الحظر وإلغاء الصداقة ورفض قبولها والتعليق عند الصديق فلان أكثر وكأنها مسألة حياة أو موت.
الطريف أن مؤسسات اجتماعية وصحية عديدة باتت تنشر علامات شائعة تساعد الناس على معرفة إن كانوا يتعاملون مع الـ"سوشيال ميديا" بقدر مبالغ فيه من الجدية أم لا. وضمن هذه العلامات: البحث المفرط عمن علق على تدوينة أو شارك تغريدة وسن قوائم بالأصدقاء الذين يستحقون الصداقة بحسب مقدار التعليق والمشاركة والإعجاب، واعتبار الـ"بلوك" والحظر والحجب أسلحة ثقيلة في حرب حقيقية تستخدمها للانتقام من الآخرين، ويتم استخدامها ضدك للنيل منك والقضاء عليك وتشويه سمعتك وهز ثقتك في نفسك وقدراتك.