Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من هو حنا دياب الحلبي مخترع بعض حكايات "الليالي"؟

سيرة جديدة وشاملة ووثائق تكشف سر ترجمة الفرنسي أنطوان غالان السباقة

بساط الريح بريشة فانستروف ساموليت (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

سيرة جديدة وشاملة ووثائق تكشف سر ترجمة الفرنسي أنطوان غالان السباقة

ليست المرة الأولى التي يُذكر فيها اسم حنّا دياب، مرتبطاً بحكايات "ألف ليلة وليلة"، وملهماً أنطوان غالان في ابتداع العديد من الحكايات التي لم تكن في أصل نسختها الأساسية. ولا نورد جديداً إذ نقول عن هذا الشخص، الحلبي المعروف باسم أنطون يوسف حنا الحلبي، صاحب الاسم ومأثرته التي تمّ إغفالها مدى ثلاثمئة عام. ليس اسماً مختلقاً أو شخصية خيالية ابتدعها أحد الروائيين وانطفأ ذكره وكأن لم يكن. إنّما حنّا دياب هذا، الذي راحت تلهج به المصادر التاريخية، والدراسات، ومن ثمّ المقالات تعريفاً به، بدءاً من نهاية القرن العشرين، حين وصلت إلى المكتبة الفاتيكانية نسخة من مذكّرات رجل يدعى حناّ دياب، كان أرسلها كاهن حلبيّ يدعى بولس سباط إليها عام 1924 وهي لا تزال مخطوطة، فصنّفت في حينه تحت رمز "سباط 254"، ولم يكشف النقاب عنها إلاّ عام 1993. ولمّا شاع خبرها لأهمّيتها صدرت مترجمة إلى الفرنسية، عن منشورات "أكت سود"، بعنوان "رحلات شابّ سوري زمن لويس الرابع عشر"، ومن ثمّ صدرت نسختها العربية عن منشورات الجمل، عام 2017، أي بالصيغة التي أعدّها بها كاتبها حنّا دياب، خليطاً بين العامية السورية والفصحى الرسمية، بعد أن عثر عليها محمد مصطفى الجاويش، وصفاء أبو شهلا جبران الباحثيْن في سرديات الأدب الأميركي اللاتيني.

أما الكتاب الصادر حديثاً عن دار الهالة، بيروت، بعنوان "حنّا الماروني"، والذي وضعه الكاتب والمؤرّخ سليم بدوي فيعيد حكاية سيرة حنا دياب بناء على مذكّراته التي صيغت بلغة وسطية بين الفصحى والعامية الشامية، ولكن في صياغة ثالثة عربية بليغة، يحيط فيها بمراحل هذه السيرة، ويوجز وقائعها في حدود 128 صفحة، ويدع مجالاً لتوطئة تاريخية مفيدة، بقلم المطران سمير مظلوم والباحث مروان أبي فاضل اللذين يضعان سيرة حنا دياب في سياقها الاجتماعي والثقافي والتربوي، ويعتبران بروز شخصية حنّا دياب، على صورته الثقافية المقبولة من الغرب، ثمرة للنهضة التربوية الشاملة التي شهدها جبل لبنان وحلب، على السواء، منذ القرن السابع عشر، بل منذ إنشاء المدرسة المارونية في روما عام 1584، وإعدادها أجيالاً من المتعلّمين والكهنة والباحثين ممن سوف يتولّون بدورهم إنشاء المدارس وتثقيف العقول حيثما حلّوا. 

أهمية سيرة حنا دياب

من المعروف أن حنا دياب كان قد التقى صدفة ببول لوكا، الموكل بجمع المخطوطات والتحف الشرقية من قبل وزير الشرق الكونت بونتشارترين، في مدينة طرابلس، وكان الأوّل يبحث خبطَ عشواء عن سبيل لمغادرة البلاد، بعد خروجه من الدير، وفشله في إيجاد عمل يقيه من الفاقة. ثم إنّ لوكا لمّا استوضح معارف الشاب حنّا، وأيقن من معرفته اللغات (الفرنسية، والإيطالية، والتركية، والسريانية، إضافة إلى العربية)، جعله مساعداً له في جولات بحثه، في طرابلس، وبيروت، وصيدا. ومن ثمّ جعله في عداد سفره بحراً إلى فرنسا، عبر مالطة وسردينيا، وميلانو، وصولاً إلى مارسيليا وانتهاء بباريس. وهناك انعقدت حلقة الوصل التي جمعت حنا دياب بأنطوان غالان الذي كان منكبّاً على ترجمة ألف ليلة وليلة، وكان يجد صعوبة في استكمال الليالي الناقصة والعمل على نقلها إلى الفرنسية. وعند هذا الحدّ تبقى سيرة حنّا دياب غير ذات شأن، وجديرة بأيّ مهاجر مشرقيّ تتسنّى له خدمة موظّفين كبار في المملكة الفرنسية أملاً في الحصول على وظيفة دائمة في المكتبة الملكية التي ربما سمع بها.  

 بيد أنّ سيرة دياب المذكورة لا تلبث أن تكتسي أهمية بالغة بنظر المعنيين بتاريخ الأدب، ودراسة تكوين الآثار الأدبية (ألف ليلة وليلة) ذات المؤلّف المجهول، حين تنبئهم مذكّرات الأخير بالخبر اليقين بأنّه كانت له يدٌ في ابتداع عدد من حكايات "ألف ليلة وليلة" بصيغتها العربية المبسّطة (مثل مصباح علاء الدين، ومغامرات السندباد، وعلي بابا والأربعين حرامياً، وغيرها، مما يأتي ذكرها لاحقاً) نقل بعضها شفاهة، والبعض الآخر كتابة بلغته العربية الوسيطة. وبالمقابل، أشار أنطوان غالان، الذي نقل هذه الحكايات الاستكمالية إلى الفرنسية، في مذكّراته إلى مساهمات "حنا الماروني" على مدار الأيام في شهر مايو (أيار) وبضعة أيام من يونيو (حزيران) من عام 1709، حتّى يمكن الجزم بأنّ حنّا روى للسيد غالان "خمس عشرة قصّة إضافية"، في جلسات حكواتية "لعب فيها الماروني الحلبيّ دور الملقّن فيما المستشرق يدوّن التفاصيل" (ص:81). ومن تلك القصص: قمر الدين وبدر البدور، وحكاية مصباح علاء الدين السحري، ومغامرات الخليفة الليلية، وبابا عبدالله الأعمى، وسيدي نعمان، والحصان المسحور، والمدينة الذهبية، وقصة الأمير أحمد والساحرة باري بانو، وحكاية سلطان سمرقند وأولاده الثلاثة، وقصة الشقيقتين الحسودتين، وكوجيا حسن الحبّال، وعلي كوجيا والتاجر البغدادي، وحسن بائع أعشاب الشاي، والمحفظة وقرن الدرويش والتين والقرون.

ثمّ إنّ بعضاً من الباحثين من أمثال أولريخ مارزولف، وكتّاباً من أمثال خورخي بورخيس الذي لم يتردد في تسمية بعض القصص المزيدة على حكايات ألف ليلة وليلة بـ"قصص حنا" لدى دراسته المعنونة "مترجمو ألف ليلة وليلة (ص:32)، ولا سيما قصص علاء الدين، وعلي بابا، والأمير أحمد والساحرة، وأبو حسن النائم واليقظان، وقصة الأختين الغيورتين، وغيرها، والتي يعود لها الفضل، برأي الكثيرين، في شهرة ألف ليلة وليلة العالمية، وفي اعتبارها أثراً أدبياً خالداً، شأن الشاهنامة، والإلياذة، والإنيادة ، ودون كيخوته، وملحمة كلكامش وغيرها.

سيرة دياب من مذكّراته

إذاً، تخبرنا الوثائق التاريخية، ولا سيّما المذكّرات التي تركها حنّا دياب، والمشار إليها أعلاه، أنّ أنطون يوسف حنّا دياب -المختصر بالاسم الثنائي حنا دياب- إنما كان شابّاً من مدينة حلب، مواليد عام 1689، من الطائفة المارونية، وبعد أن قضى فترة قصيرة في أحد الأديار شمال لبنان (دير أليشاع القديم)، حيث يعدّ راهباً في الرهبانية المارونية الحلبية، ويتلقّى تعليمه الأوّلي فيه، أي القراءة والكتابة ، إلى جانب تعلّم مبادئ السريانية والعربية والإيطالية، أصابه مرضٌ شديد ألزمه الفراش، وحال دون مواصلته الدراسة وسلوك درب الرهبانية. وعندئذ، يقرر العودة إلى حلب، منبته الأوّلي، على أن يعاود منها شقّ سبيله الخاص في الدنيا، على قولة المثل الحلبي "أعرج حلب وصل للهند". وبالفعل، أعانت الصدف حنّا الشاب، الخارج لتوّه من حلب، مطروداً من معلّمه السابق ريموزات التاجر الفرنسي بعيد تركه الرهبانية، بأن التقى، في طرابلس، برحّالة فرنسي يدعى بول لوكا (1664-1737)، والذي تبيّن لاحقاً أنه مفوّض من وزارة الشرق الفرنسية بمهمة جمع المخطوطات والتحف الشرقية بغية إثراء المكتبة الملكية الفرنسية بها.

وتروي السيرة كيف أنّ لوكا لما ثبت له، من إجابات الشاب حنّا دياب، أنّ الأخير يجيد التحدث بالفرنسية، والتركية والإيطالية، إلى العربية الوسيطة، رضيَ به مساعداً وجعله رفيقَ سفره عبر لارنكا، ونيقوسيا ومنها إلى مصر وليبيا وتونس فإلى جزيرة كورسيكا، وبعدها إلى ليفورنو وجنوى فمارسيليا، وصولاً إلى باريس، في أيلول من عام 1708. وكيف أنّه تعرّف إلى أنطوان غالان (1646-1715)، المترجم الشهير لحكايات ألف ليلة وليلة وأوّل من أدخلها إلى الغرب وترجمها من العربية إلى الفرنسية. ويروي كذلك وقائع دخوله إلى قصر فرساي الملكي، وذهوله من ضخامة الصرح وفخامة البناء وما انطوى عليه من مظاهر بذخ وثراء، وكيف أنه التقى بالملك لويس الرابع عشر شخصياً وأمسك بيده، عفوياً، وكيف تناقلت الألسن في البلاط خبر الشاب الشرقي، مترجم بول لوكا، وما كان يحمله في قفص من "وحوش غريبة الشكل والمنظر" (ص:65).

ولئن كانت تتمة الحكاية معروفة وسبقت روايتها، حول علاقة حنا دياب بأنطوان غالان وحول الليالي التي سكب فيها حنّا دياب إبداعه قصصاً وحكايات عجيبة ألهمت غالان لكتابة مجلّداته السبعة الباقية عن "ألف ليلة وليلة"، فإنّ الجديد فيها والصادم هو اتّضاح الخديعة التي قام بها كلا أنطوان غالان، وبول لوكا، من أجل إبعاد حنا عن دائرة المكتبة الملكية، وإيهامه بارتكاب معصية لم يرتكبْها، تحصيناً لمكانتهما وحفظاً لمصالحهما من التضارب؛ إذ أوهمه غالان بأنه كلّفه القيام بمهمة استطلاعية  في الشرق كالتي يقوم بها بول لوكا، وما عليه إلاّ انتظار الأذن الملكي. ومرّت الأيام والليالي وحنّا ينتظر إذناً لن يأتي. عندئذ، أدرك صفاقة الخديعة وقرر العودة إلى بلاده، طاوياً إقرار الآخرين بالفضل. وهكذا عاد إلى دياره، بعد ثلاث سنوات من الترحال، وعاود العمل في تجارة الأقمشة التي أتقنها في فتوّته، وقبيل رحيله، وتزوّج، ولم ينهض إلى كتابة مذكّراته إلاّ بعد بلوغه السبعين.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ربما يحسب البعض أنّ استعادة أثر من الماضي، أو معاودة النظر في إسهامات المثقفين والكتّاب في إثراء التراث السردي والشعري والفني من الأمور النافلة، وغير اللازمة في زمن الأزمات والمحن الكبرى. إلاّ أنّ عجلة الفعاليات الثقافية في الغرب، وفي العالم الحيّ كلّه، تنبئنا أنّ درس التراث وكاتبيه وملهميه ما كان ليخفت أو يتضاءل في إزاء دوّامة الإبداع الأدبي المعاصر، في كلّ ميدان. دليلنا على ذلك أنّ أغلب الدارسين الذين نبّهوا إلى أثر الملهمّ المنسي لـ"ألف ليلة وليلة"، ولا سيما الليالي الناقصة، إنما كانوا من قوميات ومن ألسنة غير اللسان العربي الذي صيغت به ألف ليلة وليلة.

وأياً يكن من أمر هذا المترجم، أو الملهم، أو خادم غالان، وبول لوكا، عنيتُ به أنطون يوسف حنّا دياب الحلبي الماروني، وكتابته العربية الوسيطة -غير المليحة- فإنّ سيرته تستحق أن تكون مجالاً لدراسات اجتماعية وأنثروبولوجية ولغوية وغيرها، لصدقيّة كاتبها، وصدوره عن بيئة اجتماعية منفتحة نوعاً ما.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة