Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كلنا من أكلة لحوم البشر" كتاب مرعب لم يؤلفه ليفي ستروس

ما الذي تفعله الأميرة ديانا في الكتابات المتأخرة لعالم الإناسة الفرنسي المرموق؟

كلود ليفي ستروس من مواليد 1908 وتوفي عام 2009 (غيتي)

ملخص

عن الأميرة ديانا وآكلي لحوم البشر في عقل ليفي ستروس

مهما حاول المرء أن يبحث ويدقق في المتن العلمي الذي أصدره عالم الإناسة الفرنسي كلود ليفي ستروس خلال حياته ويمتد لألوف الصفحات في أكثر من 25 كتاباً صدرت خلال ثلاثة أرباع القرن، لن يكون في مقدوره العثور على أي ذكر لدى هذا العالم الإنساني الكبير والإنساني على كثير من الصعد، أولها اهتمامه بدرس الإنسان إلى درجة تولى معها رئاسة متحف الإنسان في باريس آخر عقود حياته، لتلك الأميرة البريطانية التي اهتم مئات الملايين بتتبع فصول حياتها ثم ذهلوا أمام موتها المأسوي في حادثة السيارة الشهيرة في باريس، الأميرة ديانا المعروفة بـ "ليدي دي".

ومع ذلك ها هو وفي كتاب صدر له بعد موته يتحدث عنها ولو بشكل موارب أو في الأقل غير متوقع، وتحديداً من خلال الخطبة التأبينية التي ألقاها عند رحيلها خالها لورد سبنسر، وقد لا يبدو هذا الاهتمام من ناحية ما غريباً بالمقارنة مع عنوان الكتاب وهو "كلنا من أكلة لحوم البشر"، الذي أصلاً لم يؤلفه العالم المفكر الفرنسي الكبير، وربما لم يخطر في باله أنه سيصدر بعد أعوام من رحيله وهو الذي عاش أكثر من 100 عام.

وهنا كي لا يبدو أننا نتعمد إحاطة الأمر بجو من الألغاز فسنحكي على الفور حكاية هذا الكتاب الذي صدر للمرة الأولى عام 2013.

 

نشاط في إيطاليا

بداية لا بد من أن نوضح أن ليفي ستروس لم يؤلف هذا الكتاب، لكنه كتب فصوله ونشرت في حياته بالتأكيد، وما عنوانه سوى عنوان مستعار من واحد من تلك الفصول، والحكاية أنه في عام 1989 وكان ليفي ستروس قد تقاعد من عمله التدريسي البارز في الـ "كوليج دي فرانس" منصرفاً إلى كتبه وبحوثه، فأسرعت مجلة "لاريبوبليكا" اليسارية الإيطالية على عادتها في استقطاب كبار الكتاب والعلماء والمفكرين وبخاصة من دول الجوار الأوروبية، بالإتصال به للتعاقد معه على نشر زاوية خاصة به تم الاتفاق على أن يطل من خلالها بصورة منتظمة عبر مقالات تدخل في صلب تخصصه العلمي الأنثروبولوجي، ولكن من خلال تعليقه على أحداث ومواقف راهنة توحي إليه بتلك الإطلالة.

والحال أن ممارسة ليفي ستروس لذلك النوع من الكتابة ستمتد طوال نحو دزينة من الأعوام، لكن المقالات التي كتبها لم تكن كثيرة، ومن هنا حين توجه الباحث الفرنسي موريس أولاندر إلى أرشيف المجلة الإيطالية منقباً لجمع ما أسفر عنه ذلك التعاون الذي لم يطلع القراء الفرنسيون عليه كما ينبغي، مع أن المفكر كان يكتب مقالاته بالفرنسية وتتولى المجلة ترجمتها إلى لغة دانتي وبوكاشيو، وجد 16 مقالة متفاوتة الطول لكنها بالغة الأهمية، فحصل على أصولها وعلى إذن من المجلة بنشرها فكانت النتيجة ذلك الكتاب الذي، على سبيل الإثارة كما يبدو، أعطي عنواناً ما كان من شأن صاحب العلاقة أن يرفضه، وهو عنوان واحد من أهم مقالات الكتاب على أية حال.

والآن لابد من طرح السؤال الذي أشرنا إلى محتواه أعلاه، "أين هي الليدي ديانا في هذه الحكاية"؟

علاقات القرابة

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ببساطة جاء موت الأميرة الفجائعي خلال اهتمام ليفي ستروس بكتابة تعليقات على الأحداث الراهنة كما أشرنا، وصحيح حينها أن ذلك الحدث كان على الصعيد العالمي واحداً من أكثر أحداث العالم إثارة للانتباه وحثاً للكتاب على التحليل والتعليق والاستنتاج، لكن اللافت هنا حقاً أن عالم الإناسة الفرنسي الكبير لم يبتعد في تعليقه ولو قيد أنملة من اختصاصه، ومن هنا ما إن استمع أو قرأ، أي اطلع بصورة عامة على خطاب التأبين الذي ألقاه اللورد سبنسر عن حياة ابنة أخته التي باتت تلقب بـ "أميرة الشعب"، نكاية بالملكة إليزابيث بالتأكيد، حتى أمسك بقلمه وكتب تلك الدراسة التي استعاد فيها زاوية من زوايا القرابة العائلية كانت منسية منذ زمن، دور الخال في حياة أولاد أخته، ولا سيما الإناث منهم.

والغريب في الأمر هنا هو أن صاحب "مدارات حزينة" و"روابط القرابة" إنما انطلق في نصه، إضافة إلى انطلاقه من الخطاب التأبيني العائلي المذكور، من سجال كان يخوضه في ذلك الحين بالذات مع زميله الإثنولوجي الصيني كاي هوا، حول دور الخال في شتى المجتمعات ولا سيما البدائية منها، ومن هنا نجد العالم المقترب حينها من مئويته الأولى يدخل في صلب اهتماماته من دون أن يبذل جهوداً مضنية لتطويع الأحداث الخارجية الراهنة لتفكيره أو حتى لتطويع أفكاره كي تلائم تلك الأحداث، وحسبنا أن نستعرض بعض عناوين تلك المقالات الـ 16 لنكتشف هذه الحقيقة اللافتة، ولنبدأ هنا من عنوان المتن الذي تحول لاحقاً إلى عنوان الكتاب.

 

"جنون البقر"

هنا نجد أن عنوان "كلنا من أكلة لحوم البشر" إنما جاء من تلك المقالة التي نشرت حينها على حدة وأثارت لغطاً وسجالات، بخاصة أن الظرف العام كان ملائماً لاهتمام عريض بها، ففي عام 1996 كان العالم بأسره يعيش في رعب داء "جنون البقر"، ومن هنا كان من الطبيعي لليفي ستروس، الذي كان في عز شبابه قد وضع رباعيته الشهيرة "أسطوريات" تحت شعار الطعام وعلاقة الإنسان به، "النيء والمطبوخ" و "من العسل إلى الرماد" و "أصول عادات المائدة" وأخيراً "الرجل العاري"، أن يلفته الموضوع ليعيد التفكير في ما كتبه أستاذه النهضوي ومواطنه مونتاني بصدد "بدائيي البرازيل الذين كان يدعوهم أكلة لحوم البشر خاصتي، والذين كانوا يطرحون بالنسبة إليه معضلة الحد الأدنى المطلوب في مجال الشروط الغذائية كي تكون الحياة الاجتماعية ممكنة"، ولقد انطلق ليفي ستروس في مقالته حينها من تساؤل خلاق وهو "إذا كان جنون البقر قد فرض طرح المسألة المتعلقة بأكل اللحوم وسط المجتمعات المتحضرة الأوروبية المعاصرة، فما الذي سيكون من شأننا أن نستخلصه في ما يتعلق بالسياق نفسه حول العلاقة بين البشر والكائنات الحية الأخرى في هذا العالم؟".

والواقع أن هذا التساؤل دفع بالمفكر إلى استعادة أفكار تعود لديه لأعوام سابقة وشغلته لمناسبة ما يتناقله الإعلام عما يتعلق بهرمونات يتم حقن أطفال ونساء عقيمات بها، ولنذكر هنا أن السجال ذكّر حينها بذاك الذي اندلع عام 1991 بصدد استخدام دم مصاب بالسيدا وما إلى ذلك. ومن الواضح أن هذه المواضيع المترابطة قد شغلت العالم الفرنسي طويلاً لتوصله إلى ذلك النص الذي يرى كثر أنه كان من أهم ما كتبه خلال أعوامه الأخيرة.

اهتمامات باكرة

والحقيقة أن مقالة "لاريبوبليكا" حول هذا الموضوع لم يكن الوحيد الذي دنا فيه كلود ليفي ستروس من هذه القضية التي شغلت العالم عند نهايات القرن السابق، بل إنه تناول القضية كلها في دراسات ومقالات منها واحد كان نشره في "بريد اليونيسكو" باكراً منذ عام 1961، وقد ركز منذ تلك الأوقات الباكرة وقبل عقود من ظهور "جنون البقر" و"حمى الدجاج" على ما يمارس في التصنيع الغذائي من حقن الحيوانات التي تربى لتؤكل بهورمونات تنتمي إلى نوعها الحيواني نفسه، وهو ما من شأنه أن يخلق بيئة تعمم فيها النتائج التي لا تكون بعيدة مما يتعلق بأكل البشر للحم البشر، مذكراً ببعض القبائل البدائية في مناطق الأمازون في البرازيل وغيرها، حيث تنتج وحشية مؤكدة لدى المقاتلين الذين اعتادوا هناك على أكل لحوم أعدائهم الذين يقتلون في المعارك معهم.

ومن هنا فعلى أية حال استعار العالم الكبير تلك العبارة المرعبة التي عنون بها ما جدده في مقالته لمناسبة "جنون البقر"، فاختاره الباحث أولاندر عنواناً "موفقاً" لكتاب أضيف إلى بيبليوغرافيا كلود ليفي ستروس (1908 – 2009) الغزيرة، علماً هنا أن هذا المؤلف المفكر كان اعتاد خلال العقود الأخيرة من حياته أن يجمع ما يكتبه من دراسات متفرقة في كتب يصدرها لتضاف إلى تلك البيبليوغرافيا ويتحول صدور كل منها إلى حدث ثقافي كبير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة