Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدول أيضا "تغضب" لكنها لا تنسى الدبلوماسية

من الخطاب شديد اللهجة إلى طرد السفراء قد يؤدي الأمر إلى تدهور العلاقات وزيادة التوترات واحتمالية حدوث صراعات عسكرية

السياسة الخارجية للدول لها طرقها المتعددة للتعبير عن الغضب (أ ف ب)

ملخص

يحدث الغضب الدبلوماسي عادة في المسائل التي تتعلق بالسيادة والأمن وحقوق الإنسان والتجارة.

في كتابه "الوجيز في الدبلوماسية والبروتوكول" يعرف المؤلف العراقي صباح طلعت البروتوكول بأنه مجموعة من المراسم التي تهدف إلى تنظيم مختلف الاتصالات الدبلوماسية والمعاملات وتستند إلى التقاليد وقواعد العرف الدولي، بهدف خلق جو الصداقة ونشر مشاعر الود في التعامل الدبلوماسي بغية تقريب وجهات النظر المتباينة وتذليل الصعوبات ومراعاة الآخرين والتوصل إلى اتفاق يرضي الأطراف المعنية أكثر مما يفعل جو التباغض والشك والحذر.

لكن التعامل بين الدول لا يكون دائماً "سمناً على عسل" ووفقاً لما تتطلبه علوم الدبلوماسية وفنها وأخلاقها، فحين تسوء الأمور ولا تنفع الكياسة والرقة واللطف، لا بد من اللجوء إلى إجراءات أكثر حزماً مع الالتزام بمعايير الآداب والتحكم بالأعصاب والذكاء.

يحدث الغضب الدبلوماسي عادة في المسائل التي تتعلق بالسيادة، والأمن وحقوق الإنسان والتجارة، ويمكن أن تكون هذه الأشكال من السخط رداً على سلوك دولة معينة، كانتهاكها حقوق أو سيادة دولة أخرى أو تهديد أمنها القومي، وتستخدم هذه الأصناف من الاستياء لإبداء اعتراض رسمي على ممارسات تلك الدولة أو لإظهار التضامن مع دول أخرى، ولإبراز المواقف السياسية.

أشكال الغضب الدبلوماسي

وفقاً للأعراف والتقاليد الدبلوماسية تتراوح أشكال الغضب الدبلوماسي بحسب درجة الرسالة المراد إيصالها للدولة المعنية، وتشمل الإجراءات خفيفة اللهجة نوعاً ما "المذكرة المقيدة بشرط الاستشارة" التي تتضمن إبلاغ دولة ما بالقرارات المتخذة وإعطاءها فرصة لإبداء رأيها وملاحظاتها قبل إقرار الموقف النهائي. وتثير المسائل المتعلقة بالسيادة والأمن هذه الخطوة كما هي الحال أيضاً مع "توجيه إنذار" بهدف إعلام الدولة بأن سلوكها يشكل تهديداً للأمن أو المصالح الوطنية للدولة المعترضة.

في بعض الأحيان تكون هناك حاجة إلى زيادة درجة الشدة واستعمال لغة قاسية وصريحة ومباشرة في الخطاب، وهنا يتم توجيه ما يعرف بـ "الرسائل شديدة اللهجة" التي يشيع استخدامها في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان أو المسائل التجارية أو العسكرية. وفي عام 2022، سلمت وزارة الخارجية العراقية السفير التركي في العراق رسالة شديدة اللهجة على خلفية ما وصفته بالخروقات والانتهاكات المستمرة للجيش التركي عقب العمليات العسكرية واسعة النطاق التي استهدفت شمال العراق حينها، ودعت إلى الكف عما وصفته بالأفعال الاستفزازية والخروقات المرفوضة. وفي بعض الحالات يكون محتوى الرسائل احتجاجياً لإبداء اعتراض رسمي على سلوك الدولة المقصودة، ويستعان بـ "رسائل الاحتجاج" في المسائل المرتبطة بالسيادة والكرامة ووضع الدولة في المحافل الدولية، وقد تشمل مطالبات بالتغيير والتعبير عن القلق والتحذير من التداعيات المحتملة لسياسة بعينها، مثلما ورد في الرسالة التي سلمتها وزارة الخارجية السعودية في عام 2021 للسفير اللبناني لدى المملكة احتجاجاً على تصريحات أطلقها وزير الخارجية اللبنانية آنذاك شربل وهبة، خلال حوار تلفزيوني، وإعراباً عن تنديدها واستنكارها الشديدين لما تضمنته تلك التصريحات من إساءات.

عندما لا تجدي الكلمات والإخطارات والرسائل نفعاً، تعبر الدولة عن عدم رضاها من خلال إما إنقاص عدد مبعوثيها الدبلوماسيين في الدولة المستهدفة أو ما يعرف بـ "تخفيض درجة التمثيل" على ألا يصل الأمر إلى التخلي تماماً عن البعثات الدبلوماسية الدائمة ولا إعادة موظفيها جميعاً إلى بلدهم، وهي خطوة تثيرها عادة المسائل المتعلقة بالأمن والسيادة. وتنص "اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية" الموقعة عام 1961 على أنه يحق للدولة المرسِلة من دون أن يتعين عليها تقديم تبرير أو شرح لقرارها سحب رئيس البعثة أو نقص عدد أعضائها، على سبيل المثال، قررت واشطن في عام 2020 خفض تمثيلها الدبلوماسي في العراق خوفاً من الفوضى وحفاظاً على سلامة رعاياها وموظفيها، في ظل الظروف التي كانت تشهدها البلاد إثر تصاعد الغضب الجماهيري الشعبي في ساحات التظاهر والمحاولات العنيفة لاحتوائه.

ومع أن قانون "العين بالعين والسن بالسن" يبدو أبعد ما يمكن عن الحصافة الدبلوماسية، لكن يتم اللجوء إليه للرد على تصرفات قامت بها إحدى الدول، ويشيع اعتماد مبدأ "المعاملة بالمثل" في المسائل التجارية وحالات التخفيض الدبلوماسي وسحب السفراء. وفي عام 2018 مثلاً، فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية على الصلب والألومنيوم المستوردين من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، فردت هذه الدول بفرض رسوم جمركية على المنتجات الأميركية، وفي عام 2020، فرضت الصين رسوماً جمركية على المزارعين الأستراليين، بعد أن طالبت أستراليا بإجراء تحقيق دولي في أصل فيروس كورونا.

من درجات السخط الدولي الأشد حدة "وقف وسحب البعثات" الذي يشير إلى إغلاق دولة ما سفاراتها أو قنصلياتها في بلد معين، ويستعان بهذا الإجراء عادة في مسائل الأمن والسيادة، على غرار إغلاق الولايات المتحدة في عام 2019 سفارتها في فنزويلا، بعد أن اعترفت بزعامة خوان غوايدو رئيساً موقتاً للبلاد، أما الإجراء المقابل ولكن الذي يصدر هذا المرة عن الدولة المستضيفة فينقسم إلى شقين أو مرحلتين ويبدأ عادة بـ "استدعاء السفير" الذي يتم استجابة لاحتجاجات أو لإجراء محادثات، وقد تكون هناك أسباب متنوعة تدفع باتجاه هذه الخطوة، مثل استدعاء الصين السفير الأميركي في بكين عام 2021 بعد إجراء الولايات المتحدة اتصالات مع مسؤولين تايوانيين، أو استدعاء تركيا السفير الأميركي في أنقرة عام 2019 عقب فرض الولايات المتحدة عقوبات على وزير الدفاع التركي، وفي عام 2018، استدعت روسيا السفير الأميركي في موسكو بسبب طرد الولايات المتحدة 60 دبلوماسياً روسياً.

قد يصل التصعيد إلى أقصى درجاته المتمثلة في "طرد الدبلوماسيين"، وهي خطوة نادرة الحدوث بين الدول، وقد تثيرها أسباب متنوعة، سياسية وتجارية وأمنية، وتتمثل في إنهاء وجود الممثلين الدبلوماسيين للدولة المعنية على أرض الدولة الغاضبة وإخطارها، بلغة دمثة طبعاً، بأنهم أشخاص غير مرغوب فيهم أو non grata وفقاً لكتاب "قاموس الدبلوماسية" لـ جي آر بيريدج وآلان جيمس. يذكر الكتاب أن الدبلوماسيين يمنحون عادة 48 ساعة للمغادرة، ومن الأمثلة على هذا الإجراء ما حدث في مايو (أيار) الماضي لما طردت كندا دبلوماسياً صينياً بتهمة السعي لترهيب نائب كندي وعائلته على خلفية انتقادات وجهها إلى الصين. وقد تشمل هذه الخطوة دولاً عدة في آن معاً، مثلما فعلت روسيا حينما طردت دبلوماسيين من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا بعد أن اتهمتهم بالتجسس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عندما يصل الخلاف إلى درجات لا تستطيع الدبلوماسية احتواءه كما في حالات الانتهاكات الخطرة للأعراف الدولية أو لحقوق الإنسان أو للسيادة الوطنية لدولة معينة، بما في ذلك الحروب والتدخل في الشؤون الداخلية للدولة والتجسس والتهديدات الأمنية والتجارية والاختلافات الدينية والثقافية، يتم اللجوء إلى "قطع العلاقات" الذي يشير إلى إنهاء الروابط الرسمية بين دولتين، وتشمل هذه الخطوة سحب السفراء والدبلوماسيين، وإغلاق السفارات والقنصليات، وتعليق التجارة والتعاون الثقافي والأكاديمي، ومن أقدم الأمثلة على ذلك قيام كوبا في عام 1961 بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، بسبب التحول إلى نظام شيوعي، وفي عام 2019، قطعت كوريا الجنوبية علاقاتها الدبلوماسية مع اليابان، بسبب خلاف تاريخي حول اضطرابات جزيرة دوكدو بحسب التسمية الكورية أو تاكيشيما وفقاً للتسمية اليابانية.

في بعض الحالات تلجأ دول عدة إلى الإجراء الأخير ضد دولة واحدة، وهذا ما يعرف بـ "القطع الجماعي للعلاقات"، مثلما فعل عدد من دول مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات والبحرين) في عام 2017 عندما قامت بسحب سفرائها من دولة قطر وإغلاق سفاراتها في الدوحة وتعليق التجارة بينها وبين قطر.

غضب غير رسمي

قد تستعين بعض الدول بأشكال غير رسمية من الاحتجاجات الدبلوماسية، مثل  استخدام دبلوماسيين لغة قاسية أو مباشرة في التعامل مع دولة معينة، أو توظيف القواعد البروتوكولية بطريقة غير مهذبة، أو تجاهل دبلوماسيين من دولة معينة في المؤتمرات والفعاليات الدولية. على كل حال، فإن هذه الأشكال من الغضب تظل غير رسمية وغير مقبولة في التقاليد الدبلوماسية التي تقتضي بأن يحظى الموفدون بأفضل معاملة واستقبال ومنحهم حصانة وحماية.

في بعض الأحيان، قد يحدث صراع بين الدبلوماسية والسيادة، فالدبلوماسية تشير إلى العلاقات الرسمية بين الدول، وتتضمن التفاهم والتعاون بينها وتحديد المصالح المشتركة وإبرام الاتفاقيات، أما السيادة، فهي تشير إلى حق الدولة في تحديد سياساتها واتخاذ القرارات المستقلة من دون تدخل من دول أخرى، وفي أحيان أخرى، يمكن أن تتعارض مصالح دول مع بعضها بعضاً، ما يفضي إلى صراع بين الدبلوماسية والسيادة.

عودة المياه إلى مجاريها

تتعامل الدول التي لا توجد بينها علاقات دبلوماسية عادة من خلال الاتصالات غير الرسمية، مثل الاتصالات الشخصية والتجارية والثقافية. وتستخدم هذه الاتصالات لتعزيز التفاهم والتعاون بين الدولتين المختلفتين ولتحقيق مصالحهما المشتركة، وفي أوقات أخرى، قد تتمكن هذه الاتصالات من إعادة المياه إلى مجاريها على المستوى الرسمي، كما يمكن أن يعاد بناء العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاعها من خلال المؤتمرات والقمم الدولية، حين يجتمع مسؤولون من دول مختلفة لبحث المسائل العالقة وإبرام اتفاقيات جديدة.

قد يؤدي الغضب الدبلوماسي إلى تدهور العلاقات بين الدول، وزيادة التوترات، وارتفاع احتمالية حدوث صراعات عسكرية، ما يعوق تحسين التفاهم بين الدول لبلوغ الأهداف ورعاية المصالح وتحسين التجارة بينها وزيادة التعاون في المجالات الثقافية والأكاديمية، في حين أن التفاهم السيادي يساعد على تحقيق الأمان والاستقرار في المجتمعات، وخدمة أهداف جماعية في مجالات مثل حقوق الإنسان والبيئة.

لا يقتصر أثر التوترات السياسية على حكومات الدول، بل تتأثر الشعوب بها على مستويات عدة، فإلى جانب خطر الصراعات العسكرية، يعاني السكان على مستوى شخصي في ظل تدهور العلاقات المجتمعية بين البلدين، إضافة إلى الأثر السلبي في التجارة، ما يتسبب في ارتفاع الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين في كلا البلدين وتوقف حركة السياحة وتراخيص العمل والإقامة وفرص التحصيل الأكاديمي لمواطني البلدين.

تدفع الحكومات والشعوب على حد سواء، ثمناً قد يستمر لأجيال للقرارات المبنية على التعنت والتحجر، وهي أدوات لا تجدي نفعاً في إنهاء الصراعات بطرق مستدامة وإحداث تغيير إيجابي في المجتمعات مثلما يفعل الحوار والتفاوض والصلح الذي يظل غالباً سيد الأحكام.

المزيد من تقارير