Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وفاة ويلموث تستدعي قصة أول ولادة غير جنسية

سبق إنجاز الخريطة الكاملة للجينوم وأطلق تغييراً علمياً ما زالت موجاته تتوالى

الراحل إيان ويلموث حينما أعلن عن استنساخ النعجة دوللي (معهد اسكتلندا الوطني)

ملخص

توفي العالم الاسكتلندي الشهير إيان ويلموث بعد معاناته باركنسون سنوات طويلة. وقد ذاع صيته في العالم بشكل مدو حينما أنجز استنساخ النعجة دوللي.

وداعاً بروفيسور إيان ويلموث. ربما لا يليق مهنياً كتابة تلك الجملة في مقال استعادي وغير خبري عن وفاة العالم الاسكتلندي الذي أحدث ضجة تفوق ما وصفه المتنبي بكلمات "وتركك في الدنيا دوياً كأنما/ تداول سمع المرء أنمله العشر"، لأن الأصابع كانت لتكل وتنهار أمام الإنجاز العلمي الذي ما زالت موجاته تتوالى. وقبل أيام قليلة، أنجز فريق علمي صيني عملية استيلاد كلى بشرية من أجنة خنازير استضافتها أرحام بديلة، بمعنى أنها ليست لأمهات تلك الأجنة. ومن سطور ذلك الخبر، انبعثت مجدداً أصداء الدوي الذي هز العالم بأبعد من الوصف، على غرار ما حدث من وقتها، وسيحدث في سنوات مديدة مقبلة، كلما حدث تقدم علمي يستند إلى إنجاز الراحل ويلموث.

في تلك الأيام التي ما زالت طرية في الذاكرة، بدت عناوين الصحف ووسائل الإعلام والمنصات الإخبارية المبكرة للإنترنت [لم تكن الشبكة قد تجاوزت بضع سنوات من الانتشار العالمي في مطالع تسعينيات القرن العشرين]، كأنها تستنسخ بعضها بعضاً، بل كأن يد الاستنساخ الذي استولد النعجة دوللي، قد ضربت الإعلام العالمي وأطلقت إعصاراً من خبر وحيد عن أول استنساخ في تاريخ الطب الحديث.

ولادة بالاستغناء عن الجنس وخلاياه

أبعد من الضجيج، شكل استنساخ النعجة دوللي أول تكاثر غير جنسي في تاريخ وجود الحيوانات الثديية على الأرض. بقول آخر، يجري التكاثر في الحيوانات الثديية عبر اندماج خليتين جنسيتين، تأتي إحداهما من أنثى والأخرى من ذكر. وتتميز الخلايا الجنسية في الثدييات، وكذلك أنواع كثيرة من الكائنات الحية، بأنها مختلفة عن بقية أنواع الخلايا، إذ لا تضم نواتها سوى نصف العدد من الجينات المطلوبة كي يتشكل الكائن الجديد. وقد حطم الاستنساخ ذلك القانون الطبيعي الحتمي الصارم.

وتذكيراً، تضم الثدييات كل الحيوانات الفقارية التي تتوالد من تلقيح بويضة أنثى بخلية جنسية من ذكر، وترضع صغارها من حليب الأم. ويندرج في ذلك التصنيف ما لا يحصى من أصناف الحيوانات كالمواشي والخيول والأيائل والقردة والنمور وصولاً إلى البشر.

وفي مختبر "معهد روزالين" بإدنبره، ولدت النعجة دوللي في عام 1996، من تكاثر لا جنسي، بمعنى أنه لم تستعمل فيه خلايا جنسية متخصصة في التكاثر.

وزيادة في تحدي القوانين الطبيعية الراسخة لآلاف الآلاف من السنين، ولدت دوللي من خلية بالغة، تحتوي نواتها كل عدد الجينات المطلوبة لتركيب الكائن المقبل.

وبالاستعادة، استخرج البروفيسور ويلموث خلية عادية من ثدي نعجة. [جاءت تسمية دوللي على سبيل الفكاهة نظراً إلى ما اشتهرت به المغنية الأميركية دوللي بارتون من جمال صدرها].

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أخذ الراحل ويلموث خلايا بالغة من ثدي نعجة ثم وضعها في طبق مختبر و"جوعها"، فتراجعت من حالة البلوغ والنضج إلى حالتها الأولية الجنينية، أي ما يسمى علمياً خلايا المنشأ الجذعية.

ماذا يعني ذلك؟

لنسر خطوة بخطوة. بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، مع التذكير أن كل طرف يحتوي على نصف العدد الموجود في الكائن، تنطلق عملية تكاثر. وبسرعة، تظهر أول مجموعة من الخلايا التي ستكون الجنين. وتجمع تلك الخلايا الأولية في كيس صغير، وتكون متشابهة تماماً. وبعد ذلك، تأخذ عملية تمايز مجراها في تلك الخلايا الجنينية الأولية [التي تسمى خلايا المنشأ الجذعية]، فتظهر أنواع الخلايا التي ستتركب منها أنسجة الجسم وأعضاؤه كلها كالدماغ والعظام واللحم والجلد وغيرها. ويعني ذلك أن خلايا المنشأ الجذعية تملك قدرة كامنة على التحول إلى أنواع الخلايا كلها التي يتألف منها جسد الجنين كله لاحقاً. وحينما تكتمل عمليات التمايز، بمعنى أن يتخصص كل نوع من الخلايا في النسيج والعضو الذي سيصنعه، تبدأ تلك الخلايا الجنينية مسارها نحو تحولها خلايا بالغة.

الجوع وتلاه الكهرباء ثم الولادة المتحدية

في مختبر "معهد روزالين" بإدنبره، تابع ويلموث تلك العملية وهي تسير بالاتجاه المعاكس تماماً، إذ أخذ الخلايا بالغة من نعجة معينة، بالأحرى أنوية تلك الخلايا، بعد أوصلها إلى حالة الخلايا الجنينية الأولية، ووضعها في بويضات جاء بها من نعجة أخرى، بعد أن أفرغ تلك البويضات من أنويتها، فصار كل منها كيساً بيولوجياً يصلح لاستضافة نواة جديدة. وبقول آخر، انتقلت خلايا الثدي من كونها خلايا بالغة متخصصة في تركيب عضو معين [الثدي في تلك الحالة]، إلى خلايا جنينية غير متخصصة هي خلايا المنشأ الجذعية.

في تلك النقطة، أطلق ويلموث تيار كهرباء خفيفاً على كيس خلايا المنشأ، ووفر لها ما يكفي الغذاء، فسارت في عملية تكاثر وتمايز. وبسرعة، نقل ويلموث كيس خلايا المنشأ الجذعية من طبق المختبر، إلى رحم نعجة أنثى. وفي رحم النعجة الأخيرة، نمت دوللي فصارت جنيناً.

لماذا سميت تلك العملية بالاستنساخ؟ يرجع ذلك إلى أن التركيب الجيني لدوللي ليس سوى تكاثر ذاتي من التركيب الوراثي الذي كان موجوداً في نواة ثدي "أمها" الأولى.

وإذ غابت عن استيلاد دوللي الخلايا الجنسية المتخصصة، فإنها وصفت بالولادة اللاجنسية. وكذلك جاءت من تكاثر تركيب جيني كامل موجود في خلايا بالغة، أخذ يولد نسخاً متكررة عن نفسه، ومن ثم، وصف الجنين الذي صار دوللي، بأنه استولد بالاستنساخ.

وقد عنى ذلك بداهة أن مجموعة من قوانين طبيعية طال الظن بالبشر أنها راسخة ومحتمة، قد تكسرت واختفت قوتها وسطوة نماذجها وحتميتها مع الاستنساخ.

بكل وضوح، لم تصف الكلمات السابقة استنساخ دوللي إلا باختصار لا يسعه الهرب من الخلل.

ولم يشمل مثلاً القول إن البويضة الفارغة التي استضافت خلايا الثدي، لم تكن فارغة تماماً، بل إن السائل الأساسي المحيط بالنواة يحتوي بعض التراكيب الوراثية التي تؤدي سهماً، ولو صغيراً، في عملية تكون الجنين.

ولم تعش دوللي طويلاً، بل بدت طوال الوقت مريضة ولأسباب طال النقاش في شأنها.

عودة اليوجينيا؟

وفي المقابل، إن كل النقاش العلمي حول الاستنساخ لم يساو النقاش الفكري والثقافي والأخلاقي والديني عن تلك العملية. ومثلاً، أعلن التعرف إلى التركيب للطاقم الجيني البشري الكامل عبر "مشروع الجينوم الإنساني" في ربيع عام 2003. وبدا كأنه صفيحة تكتونية تتلاقى تصادمياً مع الاستنساخ، فتولد منهما زلزال غير النظرة العلمية إلى البيولوجيا وكائناتها.

ومنذ الاستنساخ، تصاعد الكلام مثلاً عن يوجينيا جينية، بمعنى التدخل في انتقاء الأجنة كي تولد بمواصفات معينة مطلوبة. ومعروف أن ولادة أجيال بمواصفات معينة كانت ضمن أهداف النازية التي طالبت ومارست إبادة من رأت فيهم مواصفات مطلوب ألا تتكاثر!

وفي 2018، أعلن عالم صيني عن ولادة أولى لتوأمين معدلين جينياً، مما أثار ردود فعل ضخمة، وأدين ذلك العالم، لكن بات هذان التوأمان موجودين بالفعل، فكيف سيكون مستقبلهما؟

ثمة مفارقة مؤلمة. جرى الدفاع عن الاستنساخ والتقنيات الجينية المتصلة به تحت دعاوى متنوعة شملت أنه يفتح الباب أمام علاج أمراض مستعصية متنوعة. وقد توفي ويلموث بعد أن عانى طويلاً مرض باركنسون الذي طالما تردد أن بحوث الجينات ستجعله جزءاً من الماضي. ذهب ويلموث وصار من الماضي، لكن باركنسون يستمر في استعصائه، وتنعقد الآمال على الرقاقات الإلكترونية وتقنياتها في التوصل إلى علاجه. هل تتحقق الآمال والوعود أم ننتظر وفاة مؤلمة أخرى؟

المزيد من علوم