ملخص
بيروت فقدت هويتها بعد الحرب والأيديولوجيا الحزبية شوهت معنى لبنان
بعد غياب خمس سنوات عن النشر، يطل الشاعر بول شاوول بديوان جديد هو عبارة عن قصيدة طويلة بعنوان" القصيدة المتوحشة (منشورات المتوسط 2023). مجموعة شعرية-قصيدة أقرب ما تكون إلى القبسات المتتالية التي تتواصل وتتهادى وتتواتر. قراءتها والتبحر في عوالمها وتموجاتها يفتحان العين على رؤية شعرية مختلفة، رؤية يخال القارئ أمامها أنه أمام أكثر من تجربة أو أكثر من شاعر، يجمع بين كل واحد منهم الحالة الشعرية الظاهرة والنسيج الشعري الحاضن لأبعاد التجربة.
المجموعة خاصة جداً في تجربة الشاعر لا سيما أنها تصدر في بيروت في وقت ترزح المدينة تحت ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، تأتي لتشكل استمراراً ورافداً لما بدأه شاوول منذ نصف قرن. حول "القصيدة المتوحشة"، والأصوات الشعرية الجديدة، التراث وأحوال المثقف العربي وعن جدوى الشعر في زمن الموت والخراب، كان لنا معه هذا اللقاء.
يعود بول شاوول اليوم إلى الشعر بديوان-قصيدة جديدة وقعها بـ"القصيدة المتوحشة"، بعد غياب خمس سنوات عن النشر، وهذه عادته في التمهل بالنشر. كيف يصف هذه القصيدة؟ وماذا يريد من خلالها؟ يقول: "أعود اليوم بإصدارات عدة تنشر تباعاً. (القصيدة المتوحشة) وأيضاً (ذلك الجسد) وأيضاً مختارات شعرية ضخمة ترجمتها للشاعر الفرنسي بول إيلوار. (القصيدة المتوحشة) أتعبتني كثيراً. اشتغلت فيها كثيراً، عدت فيها إلى ينابيع اللغة واشتقاقاتها، وكلماتها القديمة وإيقاعاتها، وقد يشعر القارئ أن (القصيدة المتوحشة) تلتقي مع (كشهر طويل من العشق) بالاشتقاقات فقط، وهذا صحيح. ببساطة هذه القصيدة إما أن تنجح وإما أن تسقط، ليس لها من فرصة لتكون في المنتصف. لقد لعبت من خلالها بالفوضى. قصيدة تشبه الكون الذي نعيش فيه اليوم. تحوي بين جنباتها وفي دواخلها كثيراً من الفوضى المنظمة، لا أقصد الفوضى السوريالية أو العبث، إنما هي محاولة لتنظيم هذه الفوضى بالقصيدة قدر المستطاع. كتبتها على مدى ثلاث سنوات. راجعتها لسنتين، ولا أخفيك أنني حتى اللحظة لا يزال يخالجني شعور بعدم الرضا والخوف".
الخوف الشعري
الخوف، أسأله، هل يظل الخوف حاضراً حتى بعد نشر القصيدة؟ يجيب: "نعم خوف. أنا خائف من هذا الكتاب، ويمكنني أن أقولها. حاولت تنفيذ رؤيتي للشعر. حاولت أن أنحت. أنحت الكلمات والجسد والماء. أحياناً هذا النحت قد يصيب القصيدة، وبإمكانه أن يعطبها، لو لم يكن الشاعر صاحب دربة و(معلماً). من هنا أقول إنني خائف، وهذه هي المرة الأولى التي أخاف. لقد وضعت كل لعبتي الشعرية فيها، ومن ذلك المحل القصي يأتي خوفي".
أسأله عن العنوان، من أين أتى وماذا يريد أن يقول؟ يجيب: "كإجابة أولى أقول لك لا أعرف، ولكن لو فكرت وتمهلت، لوجدت أنه جاء من هذا الكون، وأنه ابن هذه القصيدة. هذه القصيدة لا يمكنني أن أتخيلها موقعة بعنوان آخر. نعيش اليوم في العالم أكبر فوضى مرت على البشرية. فوضى في كل شيء، في الإنترنت وفي الجهل. أنا أشعر أن هذا الزمن هو زمن محاولة قتل الكتاب. قد يبدو لك كلامي غريباً أو سخيفاً، الكتاب اليوم ضحية. قد تستغرب لو قلت لك هذا: رقمنة الكتاب الشعري هي محاولة لإلغائه، غدا الكتاب سلعة إلكترونية. الكتاب لما ظهر في القرون الوسطى كان من أعظم الاختراعات التقنية. الكتاب هو الذي صنع الثورات والفلسفة وصار هو أداة تواصل ثقافي سياسي فكري فلسفي. وهو ثانياً قطعة فنية: الغلاف والكلمات ونوع الورق. جزء صغير من هذه اللوحة هي الكلمات والبقية لا تقل أهمية عن الكلمات. لذلك أقول لك إنني لا يمكنني أن أقرأ شعراً على شاشة زجاجية أو معدنية".
ويضيف: "الكتابة الإلكترونية غير الكتابة بالقلم، جسمك حين تكتب باليد يتحرك بينما الكتابة الإلكترونية هي الضربة ذاتها التي تتكرر، النقرة ذاتها. المسودات التي كنا نراها لدى كبار الشعراء اختفت. تصحيحات هؤلاء الشعراء لوحة سوريالية رائعة، التصحيحات هي جزء من الكتابة. مراحل لا بد منها تعيننا على قراءة الشاعر، وقراءة مراحل اكتمال هذه القصيدة واستكشاف سرها وسبر أغوارها وبواطنها. أما الكتاب الإلكتروني فهو أشبه بالضرب على باب أصم. هذه الهواجس التي قدمتها لك الآن هي واحدة من إرهاصات ومحفزات وجود وصدور هذه القصيدة".
يعود شاوول إلى الشعر في الوقت الذي ترتفع أصوات تقول بموت الشعر اليوم واضمحلاله وضموره. ماذا يقول؟ يوضح قائلاً: "الذين يعلنون موت الشعر، أقول لهم إن شعرهم هو الذي مات وعفا عليه الزمن. نعيش اليوم في المرحلة الذهبية للشعر في العالم العربي، وفي العالم أيضاً. يعود هذا لانتهاء زمن المدارس الفنية، السوريالية والدادائية والرمزية وغيرها. اليوم صار الشاعر حراً وغير مربوط بأيديولوجيا كتابية. مثلاً أندريه بروتون لديه سبع بيانات سوريالية، كاتب هذا النمط من الشعر يجب عليه أن يكتب وفق هذه البيانات وفي إطارها، هذا يسمى تأطيراً وأدلجة للشعر. اليوم أصبحت المدارس الفنية لزوم ما لا يلزم وتحرر العالم كله من ثقل هذه المدارس وصار حراً".
ويستطرد: "زمن بروتون وأراغون، وصولاً إلى زمن أدونيس وزمن أنسي الحاج في العربية انتهى. كل هؤلاء لهم تجاربهم ولكن من الطبيعي والمنطقي أننا لا يمكن التوقف عند تجاربهم. انتهى زمن الريادات اليوم، وأشدد على كلمة ريادات لأن الشاعر حين يصبح مكرساً ينتهي. ما أريد أن أقوله إن المدارس الفنية والشعرية في مرحلة ما صار لها قواعدها، عليك أن تكتب وفق هذه القواعد. أفكار جاهزة وقوالب جاهزة، هذا مفهوم بحد ذاته ضد الشعر، لا يمكنني أن أتخيل الشعر من دون حالة ومن دون ذات يخرج منها ويفيض إلى الخارج. الشعر لا يخرج لأننا نريد تطبيق نظرية لشخص وضعها ونحن لا نعرفه. وما يهمني اليوم بالتحديد، هو ما يكتبه الشعراء الشباب في العالم وخصوصاً العالم العربي. يوماً بعد يوم أكتشف شعراء شباباً جدداً، لكل منهم لغته ولكل منهم خاصيته وعالمه. لا يوجد أي وجه للشبه بين واحد وآخر. الشعراء اليوم مثل حديقة فيها مليون زهرة ولكل زهرة اسم ولون ورائحة وموعد تفتح ونضج وإيناع".
الشعر اليوم
أسأله: من خلال كلامك أستشف أنك مطمئن على الشعر العربي اليوم؟ يقول: "أنا مطمئن بسبب وجود شعر الشباب، وبسبب قراءتي واطلاعي على ما يكتبونه اليوم في المغرب وتونس وسوريا وبعض دول الخليج والعراق أيضاً. ذهب عصر الرواد، والشعراء اليوم يبحثون عن لغتهم، لا أنكر أن هناك تعثرات، أن هناك تفاوتاً، وهذا طبيعي، ولكن ما يهم أنهم يكتبون أنفسهم وعلاقتهم بالعالم ورؤيتهم له. علاقتهم بالشعر ذاته، بالحب، بالقسوة، بالطبيعة، بالمدينة، بالوحدة... ما يلفتني ويهمني أنهم لا يكتبون ضمن منظومات مقولبة تحدد لهم ما ينبغي كتابته وما هو ممنوع، هذا الكلام لا ينطبق على العالم العربي فقط، وإنما ينسحب على فرنسا ودول الغرب، إنني أتابع أصوات الشعراء هناك أيضاً وأراهم يسيرون على المنوال نفسه".
ويضيف: "الريادات الشعرية هي أسوأ مراحل الشعر. الشعر حرية فردية تتناول قضايا اجتماعية وليس العكس. ما يفهمه الناس عن الشعر أنه لغة جماعية، هو الخطأ. الشاعر يكتب حاله ونفسه، وليست النظرية التي تكتبه. نحن نعيش الزمن الذهبي للشعر اليوم بكل تشظياته واختلافاته وتنوع أصواته، لذا أنا مطمئن".
أقول له: أريد أن أعود إلى "القصيدة المتوحشة". قراءتها تفتح الباب على فكرة الديوان- الكتاب، هل نستطيع القول إننا أمام شعر مدروس أو شعر مفكر به؟ يقول شاوول: "أوافقك وأختلف معك. هناك حالات تحتمل وأخرى لا تحتمل. لديَّ كتب هي عبارة عن مجموعة قصائد صغيرة. القصيدة ليست لقطة نكتبها وننشرها بعد أسبوع، إنما هي مكابدة تخرج منا، ومكابدة أكبر حين نتحضر ونشتغل عليها لنشرها وإخراجها. المسألة ليست بهده البساطة. يتملكني خوف من وقوع الشعر في الفوضى. وعادة يظهر ذلك في القصائد الطويلة، لذلك أجدني أتمهل في المجموعات التي تحوي قصائد طويلة تجنباً للفوضى. القصيدة الطويلة أعمل عليها لسنوات، بينما مجموعة مثل (عندما كانت الأرض صلبة) هي عبارة عن مقاطع شعرية مستوحاة من المقهى، من الشارع، من امرأة أحببتها... هكذا بطريقة الفلاش. وهذا التنوع في المناسبة هو دأب كل شاعر".
ويوضح: "الموضوع يتعدى فكرة الشعر المدروس إلى مفهوم الكتاب الصعب، صعب لأنه يأخذ منا وقتاً. الوقت هذا هو عبارة عن زمن، وهذا الزمن تتغير فيه أحوالك ونظرتك إلى الشعر والقصيدة والحياة بعينها، من هنا تغدو الأمور أعقد وأكثر إخافة وحرصاً".
لكن بول شاوول في قصيدة "هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم" لم يعتمد هذا الأسلوب. كتب القصيدة ونشرها بعد أيام. يوضح: "(هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم) هي القصيدة الوحيدة التي كتبتها ونشرتها مباشرة. عادة أنا أكتب قصيدة تمتد فترة كتابتها أربع سنوات أو ستاً وربما أكثر. هذه القصيدة خرجت مني في رأس السنة. أقول (خرجت) ولا أقول كتبتها لأنها القصيدة الوحيدة التي أملت نفسها عليَّ إملاءً. كنت سهران وحدي، وهذه عادتي، وأمامي التلفاز ومشاهد قتل الفلسطينيين والغزاويين. يشنع الجيش الإسرائيلي في القتل ويتفنن بالجريمة. لم تبصر عيني وحشية كالتي أبصرتها في تلك الليلة. لم يكن أمامي من خيار، فكرت أن أضرب رأسي بالجدار، أو أن أكسر صحون المطبخ. مشاهد فظيعة تتالت على رأسي وأنا في لحظات الغضب والحنق والتعاسة واليأس. دخلت إلى غرفتي قرابة منتصف الليل، وبدأت أكتب قصيدة، شعرت بعد ذلك أنها طالعة من قلبي ومن جسمي ومن دمعي ومن يأسي. خرجت عند الرابعة فجراً وبيدي هذه القصيدة. نشرتها في جريدة (المستقبل) حينذاك، في الصفحة الأولى مباشرة بعد كتابتها بيومين. إنها القصيدة الأولى والأخيرة التي لم أعد إليها، لم أصححها ولم أعط لنفسي فرصة للنظر فيها. خرجت مني هكذا وكأنها نقطة دم، دمعة كبيرة، كانت تعويضاً لي عن كسر الجدار أو تخريب المنزل كي أفش غلي من كل ما رأته عيناي. ولاحقاً نشرتها في كراس بعد أسابيع من كتابتها وتم توزيعها مجاناً مع الصحف اللبنانية وفي المعارض العربية".
ضد الأسلوبية
أسأله: هل يمكن الكلام هنا عن عفوية في الكتابة؟ يجيب: "الكتابة عندي أنا ضد الأسلوبية. هناك شعراء لديهم أسلوب يكتبون فيه ومنه طوال حياتهم وفي كل تجربتهم. لا أنفي أن ذلك محط احترام عندي، ولكنني صدقاً لا أتفق مع الأسلوبية. هناك شعراء كبار اعتنقوا هذه المدرسة، بيكيت في المسرح، ونزار قباني، وسعيد عقل وسواهم. الأسلوبية موجودة في الفن أيضاً، تقف أمام عمل لدالي فتشعر أنك شاهدت جميع أعماله. على عكس بيكاسو الذي هو مفجر مراحل. سأعترف لك، أنا كشاعر لا أثق بالدفقة الأولى، الدفقة الأولى في الكتابة لا تكون نهائية. الشاعر يأخذ الدفقة الأولى ويحولها إلى شكل. الدفقة الأولى هي اللاشكل. الدفقة الأولى يضاف إليها التنقيح والحذف والاشتغال والإلغاء. أنا من هذا الاتجاه، كل كتاب هو مرحلة ومشروع، ربما أمشي عكس السائد وربما أنا مخطئ. الشاعر حين يكتب قصيدة تسهل عنده عملية الكتابة وهنا يقع في المحظور".
أتقصد أن الشاعر حين يمتلك أدواته يبدأ باجترار نفسه؟ يقول: "لا أريد استعمال هده الكلمة، فلنتفق على (يستسهل) أو (يكرر). أحياناً أكتب قصيدة. تمر عليها سنتان، وأكتشف أنها قصيدة رديئة، فأرميها ببساطة وبلا أي تردد. أنا أفضل أن أقلد الآخرين على أن أقلد نفسي، هذا تدريب وهكذا دربت نفسي. هذه طريقتي، وقد تكون مجرد اقتراح، كل ذلك يعود إلى فكرة أساسية أرددها دائماً: الشعر هو فن الحذف".
ويضيف: "الشعر هو فن الحذف والإلغاء. لا يمكن لشاعر أن يصبح شاعراً إذا لم يكن لديه هذه القدرة على الحذف والتمزيق والنفض والتدوير والقص وإعادة الكتابة وحتى التلف، هذا هو ديدن الشعر الحقيقي. لا تولد القصيدة جاهزة. القصيدة توجد على مراحل، المرحلة التي نراها في كتاب هي التي ستبقى، ولك أن تختار على أي شاكلة تريد أن يخلد الزمن قصيدتك في كتاب. لا يمكنك بعد خروج القصيدة في كتاب أن تعود إليها أو تشذبها أو تغير في قوامها، صارت ثابتة، وهذا الثابت يعبر عنك. لذلك عليك أن تختار، وبعناية، شكل القصيدة النهائي، وشكل الديوان والمجموعة، وهكذا دواليك".
شاعر لغة
من المعروف أن بول شاوول شاعر لغة، خصوصاً في بعض قصائده الطويلة، ومنها "القصيدة المتوحشة"، يشتغل على اللغة، ويعود إلى المراجع القديمة والكتب التراثية، وكتب الاشتقاقات. فما موقفه اليوم من التراث؟ يقول: "لا يوجد شاعر كتب شعراً وازناً من دون تراث. لا يوجد شاعر مهم يجهل تراثه الشعري والنثري. الشعر الجاهلي فيه شعراء كبار، وأقول كبار جداً، طرفة بن العبد وزهير ابن أبي سلمى، نقرأ شعر هؤلاء وكأنه شعر اليوم. أبو تمام في ما بعد مثلاً، كان أول من ابتدأ بالغموض، مفاهيم الغموض ظهرت عند أبي تمام. الغموض أساس الشعر الحديث، الذي يختزن معنى. أعود إلى التراث العربي لأقول إنه من أعظم التراثات في العالم بالنثر وبالشعر أيضاً. التراث بتوصيف أدق، هو كأنك ولدت مع أنابيب موصولة إلى أصولك الأولى. لننظر إلى (القصيدة المتوحشة) يمكن لقارئها أن يرى كلمة قديمة وكلمة جديدة. لا توجد كلمة قديمة وكلمة جديدة، الكلمة هي ذاتها ولكن الشاعر هو الذي يجعلها قديمة أو جديدة، الكلمة ليست فقط معنى وإنما هناك أثرها الفيزيكي في القصيدة، أثرها الإيحائي. الشعر ليس مباشراً. من هنا أقول لك التراث هو الخزان الداخلي للشاعر، إذا لم يكن هناك تراث لا يوجد قصيدة فعلية ولا يوجد أصل أو مرجعية للقصيدة، وإذا ولدت فهي تولد يتيمة. أنا ترجمت آلاف القصائد من الشعر الغربي، ولكن حين أريد أن أعود وأقرأ، أعود إلى تراثي الشعري أو النثري العربي، هذا هو تراثي أنا، وهده لغتي أنا، أحتاجها وأتفاعل معها وأعود إليها وأستقي منها كلمات وأحولها وأشتق منها. أبو تمام اتهم بالخروج على الثابت الشعري، وبتخريب البلاغة العربية، ولكن أين أبو تمام اليوم؟ لا أريد أن أحصر كلامي وأمثلتي في الشعر، لأن النثر العربي لا يقل شأناً عن شعرنا العربي. أبو حيان التوحيدي وابن سينا والجاحظ، وآخرون كثر من أساطين التراث العربي. لا يمكنني ببساطة أن أقرأ شكسبير وأفوت كل هؤلاء. أقرأ وأعرف شرط أن لا يتحول التراث إلى أيديولوجيا وقوالب. الحداثة ليست أن تكتب ضد التراث، الحداثة أن تكتب انطلاقاً منه وبناءً عليه ومجدداً فيه".
أريد أن أعود إلى "بوصلة الدم"، قصيدة شاوول التي تحاكي هذا الزمن بجميع تفاصيله وتشنجاته وأزماته المتلاحقة. كيف ينظر إليها اليوم بعد ما يفوق 40 سنة على صدورها؟ يقول بصراحة: "أنا أعتذر منك، لا أعرف كيف أتحدث عن شعري. القارئ هو الذي يتحدث عنه. يمكنني أن أتحدث عن كل الشعر الموجود في العالم، ولكنني أخجل من الحديث عن شعري، ولو شئت أكثر أخجل من أن أسمي نفسي شاعراً، وهذا ليس تواضعاً إنما يعود الأمر لقناعتي أن الشعر شيء عظيم جداً جداً جداً. أشعر أنني دائماً أصغر من الشعر، أخجل وأكتفي بأن الشعر هو أعظم شيء في الكون".
كيف يفسر شاوول علاقته بالمدينة ، كشاعر يعيش في شارع الحمراء في بيروت منذ نحو 50 عاماً، ويجلس في مقاهي هذا الشارع الذي يعد ذاكرة بيروت؟هل الشعر هو ابن المدينة؟ يقول "الشعر ليس ابن مدينة، ومن الظلم نسبه إلى المدينة. المدينة جزء من أمكنة الشعر والشاعر، وليست هي المكان الوحيد. لديك شعراء في الماضي واليوم، عاشوا ويعيشون في القرى والأرياف وهم شعراء كبار. لا يمكننا أن ننسى أن الرومنطيقية هي مدرسة في الشعر قوامها الطبيعة والورد والسهول والجبال والوعورة. بدأ الشعر في المدينة حينما بدأ ينحو نحو الأيديولوجيا، من المدينة خرجت المدارس الشعرية. الطبيعة هي الشيء الحقيقي الموجود فعلياً في القصيدة. الشعر لا يحد بمكان، له كل الأمكنة. المسرح خرج من المدينة نعم، وانتشر في كل الأمكنة. أما الشعر فقد وجد في المدن والطبيعة والكهوف والأرياف القديمة".
مدينة الأمس والأمل
بالعودة إلى المدينة كيف يرى شاوول بيروت اليوم؟ يقول: "بيروت اليوم هي نتيجة للأمس. المدينة التي تعيش مند 50 عاماً تحت حكم الميليشيات، الميليشيات التي دمرت ساحة البرج ولم تترك لنا من بيروت شيئاً. المدينة كانت هناك، دمروها، وصرنا بلا عاصمة. صرنا في مدينة بشوارع وبلا عاصمة. بيروت الآن صارت تشبه جمهور الأحزاب الموجودة فيها. شارع الحمرا كان رمزاً للثقافة الجديدة في لبنان، الحداثة الجديدة في هذا البلد. شارع الحمرا كان المكان الذي يحتضن الشعراء والكتاب الهاربين إلى بيروت. بيروت ممثلة بشارع الحمرا صارت اليوم سوقاً. الرمزية التي كانت لها خفت، صارت مدينة بلا هوية، أو لو شئت هوية مشتتة مضروبة بسبب الحرب والميليشيات. الحمرا اليوم بلا سينما، في الوقت الذي كانت تحتضن سابقاً 15 سينما، الحمرا اليوم بلا مكتبات، كان فيها 60 غاليرياً لعرض الفن المعاصر. المدينة حزينة، وتشهد تراجعاً ثقافياً، لا مثيل له. لكنني على رغم ذلك على أمل في عودتها. فهي ما زالت على رغم كل شيء متمسكة بألوان من أيامها الجميلة، كما تقول الأغنية الفرنسية (كنت جميلة سيدتي)، هذا ما أقوله لبيروت أنا اليوم. تبقى وتعود وهذا ليس حلماً أو هذياناً. قد لا تعود في أيامي لكنها ستعود على يد شبابها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعود إلى "قصيدة البياض" هل ما زال شاوول مؤمناً بهذه القصيدة وأين أصبحت؟ يقول: "أنا تأثرت بمالارميه في قصيدة البياض، ولكن لغتي ليست كلغة مالارميه. تعلمت منه أن أرى القصيدة كأنها سينوغرافيا مسرحية. الرمزية نقلت القصيدة من الآلة إلى العين. تأثرت به وكتبت قصيدتي التي تخصني وتشبهني. البياض بالنسبة إليَّ جزء من الكلام ومن الصورة. والبياض، أو لو شئت الصمت، هو الذي يكمل النص، يكون هامشه. لا أخفيك أنني نسيت قصائدي فعلياً في هذا المجال.
ألا تعود إلى شعرك وتعيد قراءته؟ يقول: "أبداً. لا أقرأ شعري. حاولت مرة أن أعود إلى قصائدي وأقرأها ولكنني ضجرت. مند ذلك الوقت، وأنا بعيد من شعري. كل مجموعة تصدر أتركها وأنساها وكأنها لم تعد لي".
ولكن هناك شعراء يعودون لشعرهم ويتبرؤون منه، أقول له، فيوضح: "لا أعلم صراحة، المنطقي أن يتبرأ الشاعر من أعماله لحظة كتابتها وليس بعد صدورها. لا أحد يتبرأ من جريمة افتعلها. أحياناً أشك بنفسي أن هناك مجموعة مثلاً من بين كل مجموعاتي التي صدرت كان من الممكن تلافيها، ولكن حين أتذكر كمية المخطوطات التي أتلفتها والقصائد التي شذبتها أصمت. أذكر جيداً حين كنت في الرابعة عشرة من عمري واقتنيت كتاب تعليم بحور الشعر العربي، تعلمت الوزن وكتبت الوزن نحو 20 سنة لكنني لم أنشر منها نصاً ولا حتى قصيدة. كتبت قصيدتين (مناجاة عجوز) و(حبيبتي جاء الخريف) وأرسلتها إلى مجلة (الحكمة) وكان رئيس تحريرها آنذاك جميل جبر. قصيدتان وأنا في الرابعة عشرة. وتوقفت بعدها عن النشر، ثم أصدرت أول ديوان في الثلاثين. كان لديَّ كيس من القصائد أصدرت منها ست قصائد بعنوان "أيها الطاعن في الموت". كان لديَّ هذا الشك. الشك هو شيء شعري، ولا تكتمل شعرية شاعر من دون هده الزعزعة في النفس والشكوك حيال النص وما فيه".
يختم بول شاوول حواره متحدثاً عن الشعر الذي هو صورته ومآله قائلاً: "الشعر بالنسبة إليَّ هو الحياة، فن لا يخرج من شخص ميت. كاتبه يتألم ويتكلم ويحس ويتفاعل وينتصر، يحزن يتكسر ويبكي. الشعر هو الشيء الوحيد الذي لم يتعولم. المسرح تعولم، السينما تعولمت، الرواية أيضاً. الشعر ذلك الكائن الهلامي الكبير لا يعولم، لا يمكنك عولمة جبران ولا فاليري ولا المتنبي. الشعر الحقيقي وحده بقي حتى اللحظة عصياً على العولمة وأظنه سيبقى".