ملخص
خلافات واسعة بين أوكرانيا ودول شرق أوروبا تقف خلفها حرب زراعية أثارت انقساماً داخل الاتحاد الأوروبي
يبدو أن القيادات الأوكرانية تجاوزت "ما فوق حدودها"، بما يدفع أصدقاء الأمس إلى "وقفة للمراجعة" بحسب القول العربي المأثور. فبعد سلسلة التجاوزات اللفظية التي دأب نائب وزير الخارجية الأوكراني والسفير السابق لبلاده لدى برلين أندريه ميلنيك على توجيهها في حق القيادات الألمانية بمن فيهم المستشار أولاف شولتز، الذي وصفه بأقذع الأوصاف، ثم إعلان الرئيس الأوكراني التراجع عن دعوة نظيره الألماني فرانك فالتر شتاينماير إلى كييف، عاد فلاديمير زيلينسكي ليعلن في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن اتهامه وارسو بحظر واردات الحبوب الأوكرانية إلى الاتحاد الأوروبي.
اتهامات زيلينسكي لبولندا جاءت على رغم كل ما قدمته وارسو من دعم إلى بلاده بالأسلحة منذ بدء "العملية العسكرية الروسية" ضد كييف في فبراير (شباط) 2022، إلى جانب استضافتها نحو مليون لاجئ أوكراني استفادوا من مختلف أنواع المساعدات الحكومية، فضلاً عن توقيع كثير من المعاهدات والاتفاقات ذات الطابع "التكاملي" مع أوكرانيا.
المجر وسلوفاكيا
تزايدت حدة الخلافات بين أوكرانيا وعدد من بلدان شرق أوروبا منها بولندا والمجر وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا، إلى الدرجة التي بلغت حد إعلان رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي وقف إمداد كييف بالأسلحة "سعياً وراء التركيز على تعزيز القوى الدفاعية الخاصة ببلاده".
حدث ذلك بعد سويعات قليلة من استدعاء بولندا السفير الأوكراني في وارسو، فاسيل زفاريتش، وسط خلاف بين البلدين بسبب الحظر الذي فرضته بولندا على واردات الحبوب الأوكرانية لحماية مصلحة مزارعيها.
رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان بدوره سبق واتخذ موقفاً مماثلاً تجاه إمداد أوكرانيا بالأسلحة، بل ورفض عبور أية أسلحة إليها عبر الأراضي المجرية، فضلاً عن اتخاذ الموقف ذاته بالنسبة إلى الحبوب من أجل حماية مصلحة المزارعين المجريين.
وبالعودة إلى رئيس الحكومة البولندية فحذر من أنه سيوسع قائمة المنتجات الأوكرانية المحظور استيرادها، إذا صعدت كييف النزاع في شأن الحبوب. وقالت وزارة الخارجية البولندية، في بيان أصدرته في هذا الشأن، إن "الضغط على وارسو في المحافل المتعددة الأطراف أو إرسال شكاوى إلى المحاكم الدولية، ليس من الأساليب المناسبة لحل الخلافات بين البلدين".
كانت الحكومة البولندية أعلنت "أنها من المرجح أن تقطع الدعم المالي الذي تقدمه لمليون لاجئ أوكراني تستضيفهم لديها"، في خطوة قد تؤدي إلى مزيد من تعقيد العلاقات التي تربطها بجارتها التي سبق ووقعت معها عديداً من اتفاقات التكامل.
وفي وقت سابق أجرت بولندا استطلاعاً للرأي أجاب 70.4 في المئة من المشاركين فيه أنه "على الأوكرانيين أن يجدوا وظيفة من أجل البقاء في البلاد". وأحدثت الخلافات حول هذه القضية "صدعاً" في العلاقات بين كييف ووارسو، أحد أقوى حلفاء زيلينسكي منذ بداية "العملية العسكرية الروسية الخاصة" ضد بلاده، بعد أن هددت أوكرانيا باتخاذ إجراءات قانونية والاحتكام إلى منظمة التجارة العالمية للحصول على تعويضات.
وأسهم اقتراب موعد الانتخابات في بولندا في تعقيد المفاوضات، إذ أطلقت قيادات حزب "القانون والعدالة" الحاكم حملة مكثفة في المناطق والأقاليم، لحماية المزارعين البولنديين المتضررين من تدفق الحبوب الأوكرانية، بعد الانسحاب الأخير لروسيا من اتفاق تصدير الحبوب.
ومن جانبها، قررت المجر تشديد قيودها على واردات الحبوب الأوكرانية بشكل أحادي، في واحد من أكبر تحدياتها لقرار المفوضية الأوروبية التي أعلنت في وقت سابق إلغاء القيود التي فرضتها خمس دول في الاتحاد الأوروبي على هذه الواردات.
وكتب وزير الزراعة المجري إيفان ناجي، على "فيسبوك"، "ستغلق المجر حدودها أمام 24 منتجاً أوكرانياً" بعد ما كانت تحظر أربعة فقط، بهدف "حماية مصلحة المزارعين".
ومن المقرر كذلك أن تتجه سلوفاكيا إلى صناديق الاقتراع في نهاية سبتمبر (أيلول) الجاري، في الوقت الذي تشير استطلاعات الرأي إلى تزايد احتمالات عودة رئيس الوزراء السابق روبرت فيكو إلى الحكومة، الذي شن حملة ضد العقوبات الغربية على روسيا.
وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء السلوفاكي، بيتر ماغر، إن بلاده ستفرض كذلك حظراً على الحبوب، وعلى ثلاثة منتجات زراعية أخرى.
يذكر أن الاتحاد الأوروبي وقع في نهاية أبريل (نيسان) الماضي اتفاقاً مع كل من بولندا والمجر وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا يتيح لهذه البلدان الخمسة وقف شحنات الحبوب الأوكرانية من دخول أراضيها، شرط ألا تحول دون عبورها إلى دول أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشهدت هذه الدول تدفقاً للحبوب الأوكرانية بأسعار مخفضة، لكنها بقيت ضمن أراضيها بسبب مشكلات لوجيستية إثر إلغاء الرسوم الجمركية في الاتحاد الأوروبي، مايو (أيار) 2022.
وكانت المفوضية الأوروبية قررت أخيراً عدم مد فترة القيود المفروضة على استيراد أربعة أنواع من المنتجات الزراعية الأوكرانية إلى دول عدة حدودية في الاتحاد الأوروبي، لكنها ألزمت كييف إدخال إجراءات مراقبة الصادرات.
وبعد فترة وجيزة فرضت بولندا وسلوفاكيا والمجر من جانب واحد حظراً على الحبوب، ومددت بودابست الحظر، فتم إدراج 24 منتجاً في قائمة الواردات المحظورة. وتضمنت إضافة إلى الحبوب أنواعاً مختلفة من اللحوم والدواجن والبيض والعسل والخضراوات والنبيذ.
دودا يلغي اجتماعه مع زيلينسكي
لم يقتصر الأمر على حظر الحبوب الأوكرانية فقط، إذ عاد زيلينسكي إلى انتقاد، بل واتهام من سبق وتبادل بالأمس معه القبلات والأحضان. وها هو ذا الرئيس الأوكراني ومن على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة يعود إلى انتقاد "الصديق العزيز" نظيره البولندي أندريه دودا، واتهامه بالتقصير في حق بلاده، والانزلاق إلى "دعم روسيا"، مما دفع الرئيس البولندي إلى الرد عليه بمقارنته بالغريق الذي "يكاد في حال محاولتك إنقاذه من الغرق أن يجرك إلى الأعماق".
قال الرئيس البولندي ذلك، واتخذ قراره بإلغاء اللقاء الذي كان مقرراً مع زيلينسكي على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت بولندا وأوكرانيا سبق وانزلقتا إلى نزاع جرى تسميته بالحرب الزراعية في ما بينهما، بسبب فرض وارسو الحظر على تصدير المنتجات الزراعية الأوكرانية في ربيع عام 2023، وأعلن المزارعون البولنديون بعده الإضراب بسبب انخفاض أسعار الحبوب بمقدار النصف تقريباً بسبب استيراد المنتجات الزراعية الأرخص من أوكرانيا.
وبعد انضمام وارسو إلى كل من براتيسلافا وبودابست في رفع الحظر المخالف لقرار المفوضية الأوروبية، رفعت كييف دعوى قضائية في منظمة التجارة العالمية ضد هذه البلدان، وأبلغت عن سلسلة من التدابير الانتقامية ضد استيراد عدد من المنتجات الزراعية البولندية مثل البصل والكرنب والتفاح والطماطم.
هنا وصف عضو مجلس الاتحاد الروسي ألكسي بوشكوف هذا الموقف بقوله "إن بولندا تضع مصلحة مواطنيها فوق حاجات أوكرانيا"، وهو موقف سبق واتخذه رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان بقوله "إنه يضع مصلحة المجر فوق مصلحة أي امرئ آخر"، وهو ما لا يتفق مع توجهات زيلينسكي. وقد كشف مثل هذا الموقف عن بعض حقائق الأشياء، ومنها ما يقول "إن البولنديين يكرهون الأوكرانيين أكثر من كراهيتهم الروس".
ولمزيد من التفسير ثمة من يقول إن لدى البولنديين مطالب إقليمية في غرب أوكرانيا وتتمثل في الأراضي التي سبق أن ضمها الاتحاد السوفياتي السابق إلى أوكرانيا من أراضي شرق بولندا بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، وذلك فضلاً عما يساورهم من سخط وغضب بسبب ما يعيشونه من مشكلات تسبب فيها ما يزيد على مليون من اللاجئين الأوكرانيين ممن تدفقوا على بولندا منذ بداية العمليات القتالية في فبراير 2022.
وها هم أولاء السياسيون البولنديون يكشفون عما يبطنون، ومنه ما يتبادلونه من أحاديث حول "مدى جحود زيلينسكي ورفاقه تجاه كل ما قدمته بولندا خلال العام ونصف العام الماضيين من معونات عسكرية بلغت في مجملها ما يجعلها أكبر مورد للأسلحة بعد واشنطن ولندن، فضلاً عن كونها الملجأ الذي لطالما لجأ إليه الأوكرانيون طوال تلك الفترة".
وفي هذا الصدد لا ينسي البولنديون محاولة القيادة الأوكرانية تأليب بولندا ضد روسيا واتهامها القوات الروسية بمسؤولية إطلاق الصاروخ الذي سقط في الأراضي البولندية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، على رغم توفر كل الأدلة على مسؤولية كييف، وهو ما أكده الرئيس الأميركي جو بايدن في اجتماعه الذي عقده على هامش قمة الـ20 في إندونيسيا في نوفمبر 2022.
قبل وقوع الكارثة
ونقل الموقع الإلكتروني NEWS.ru عن العالم السياسي الروسي فلاديمير كورنيلوف قوله "إن غالبية القوى السياسية في بولندا لديها إجماع معين على المواجهة بين أوكرانيا وروسيا".
وأضاف "إنهم لن يتخلوا عن الخطة التي يحلمون بتنفيذها، وتتلخص في ضمان موت أكبر عدد ممكن من الأوكرانيين في الحرب ضد الروس، لضمان تنفيذ حلم استعادة ما جرى ضمه من أراضي شرق بولندا"، بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية.
وفي الوقت الذي يتوقع فيه بعض البولنديين احتمال وقف وارسو المساعدة المالية للاجئين الأوكرانيين، ينتظر آخرون احتدام مشاعر السخط تجاه الأوكرانيين لدى البولنديين مع حلول موعد الانتخابات البرلمانية التي ستعقد في البلاد، 15 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فضلاً عن احتدام الصراع من أجل أصوات المزارعين وسكان المناطق الريفية النائية، الذين دائماً ما كانوا يشكلون قوام الناخبين الأساسيين لحزب "القانون والعدالة" الحاكم في إطار الصراع بين جميع القوى السياسية من أجل هذه الأصوات.
وكان السياسي الفرنسي فلوريان فيليبو زعيم حزب "الوطنيين" تناول سلوك الرئيس الأوكراني في تغريدة على منصة "إكس" يقول فيها "يجب إيقاف زيلينسكي قبل أن تؤدي أفعاله إلى كارثة". وأضاف "بولندا استدعت بشكل عاجل السفير الأوكراني إلى مبنى الخارجية، بعد أن اتهم زيلينسكي سلطات وارسو بدعم روسيا (يدرك كل من يعرف بولندا مدى هذيان مثل هذا الاتهام!)".
وإذ أشار السياسي الفرنسي إلى "أن بولندا قدمت إلى أوكرانيا ما هو أكثر من الآخرين، فضلاً عن قبولها كثيراً من اللاجئين الأوكرانيين، بما يؤكد مرة أخرى ومجدداً مدى تهور وجنون شخص زيلينسكي ومدى تقلب مزاجه، فهو لن يرغب بالسلام أبداً وستؤدي تصرفاته إلى كارثة إذا لم يتم إيقافه!".