كثيرة هي إشارات الركود التي تراقبها الأسواق وتتفاعل معها وفق المقاربات التاريخية لسلوكها وتفاعلها مع هذه الإشارات، ومن الضروري ربط هذه الإشارات مع أساسيات الاقتصاد ومؤشراته، وعندما تنبئنا سوق السندات بذلك علينا أن نستعد ونتعامل مع هذه الإشارات بجدية.
خلال الـ 60 عاما الماضية بأميركا حدث الكساد ثماني مرات، قبل كل أزمة كانت أسواق السندات تعطي إشارة مبكرة قبل 12 شهرا، وهذه الإشارة حدثت في الفصل الثاني من 2019، وهي منحنى العائد المعكوس بين سندات الخزانة لأجل ثلاثة أشهر وسندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات، بحيث ارتفع العائد على سندات الثلاثة أشهر فوق العائد على سندات الـ10 سنوات للمرة الأولى منذ 2007.
في 14 أغسطس (آب) 2019 انخفض العائد على سندات الـ10 سنوات دون مستوى العائد على سندات العامين للمرة الأولى منذ 2006، أيضا هناك مؤشر آخر جدير بالمتابعة وهو إجمالي القيمة السوقية للأسهم مقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي TMC-GDP هذا المؤشر اليوم 20 أغسطس 2019 هو 140٪ ويعني أن إجمالي القيمة السوقية للأسهم الأميركية تعادل 140٪ من نمو الناتج المحلي الإجمالي، وهذا المعدل خلال الـ50 عاما الماضية اقترب من الـ150٪ مرتين؛ الأولى قبل أزمة الدوت كوم في 2001 ، والثانية الآن تتزامن مع انعكاس منحنى العائد.
منحنى العائد الأميركي والإشارات المزعجة
في 2 يوليو (تموز) 2019 نشر السيد توبياس أدريان، مدير إدارة أسواق النقد والأسواق المالية بصندوق النقد الدولي IMF ، مقالا يشير فيه إلى انعكاس منحنى عائد السندات الأميركية، وقال "إن هناك احتمالا نسبته 5٪ يفيد بانكماش الاقتصاد الأميركي بأكثر من 4٪ بعد عام من الآن".
وركز السيد توبياس على السبريد بين العائد على سندات الـ10 سنوات، الذي كان يبلغ 1.98٪، والعائد على سندات الثلاثة أشهر الذي كان يبلغ 2.20٪ والفرق بينهما كان (-22 نقطة أساس)، وهذا يعني أن العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل ثلاثة أشهر لا يزال أعلى من العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات، وهذه إشارة مزعجة مرتبطة بالتنبؤ باقتراب الركود.
البيانات الاقتصادية أخيراً أظهرت تباطؤ نمو الاقتصاد الأميركي خلال الربع الثاني من 2019 إلى أضعف وتيرة منذ الربع الأول من 2017، وسجل نمو بـ2.1٪ يأتي هذا التباطؤ بعد أن سجل الاقتصاد الأميركي أطول سلسلة نمو ونسبة البطالة عند أدنى مستوى لها خلال 2019، وسوق العمل الأميركية تستمر في خلق وظائف جديدة لـ106 أشهر متواصلة.
على الرغم من ذلك خفض الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة 25 نقطة أساس في نهاية شهر يوليو (تموز) 2019، وهو الخفض الأول لسعر الفائدة خلال 11 عاما، ويأتي هذا الخفض استجابة لمخاوف الفيدرالي من تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وأيضا استجابة لضغوط مستمرة يمارسها الرئيس ترمب على صناع السياسة النقدية بواشنطن، وارتفعت توقعات الأسواق بشأن خفض سعر الفائدة إلى 83٪ خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2019.
وعلى الصعيد ذاته صعّد الرئيس ترمب من ضغوطه على الفيدرالي في تغريدتين، قال إن على الفيدرالي أن يقوم بخفض الفائدة 100 نقطة أساس وأن يطرح برنامجا جديدا للتيسير النقدي في مسعى منه لزيادة الضغط على "جيروم باول" قبل خطاب مرتقب لرئيس الفيدرالي يوم الجمعة في الملتقى السنوي لمحافظي البنوك في جاكسون هول سيتحدث عن تحديات السياسة النقدية والأسواق تترقب اتجاه السياسة النقدية، وعادة ما يستخدم رؤساء الفيدرالي جاكسون هول كمنصة للإعلان عن اتجاهات السياسة النقدية.
الحرب التجارية تجعل الركود المقبل قريبا
الانسحاب من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ TPP كان هذا أول قرارات الرئيس ترمب بشأن التجارة في يناير (كانون الثاني) 2017 تنفيذا لوعوده الانتخابية، تبع ذلك تعديل اتفاقية التجارة بين أميركا وكندا والمكسيك NAFTA ثم أطلق شرارة حرب تجارية مع الصين منذ يناير (كانون الثاني) 2018، هذه التوترات التجارية كان لها التأثير الأكبر حيث سجل الاقتصاد الصيني في الفصل الرابع من العام الماضي أسوأ أداء خلال 29 عاما، ونتيجة لتداعيات هذه الحرب التجارية تباطؤ الاقتصاد الألماني واستمر قطاعه الصناعي منكمشا خلال الست أشهر حتى يونيو (حزيران) 2019، آخر قراءة فصلية لنمو الاقتصاد الألماني أظهرت انكماش بـ - 0.1٪ للفصل الثاني من 2019 متأثرا بالحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم حيث تمثل كل من أميركا والصين من أكبر الشركاء التجاريين لبرلين.
تراجع نمو الاقتصاد في كل أميركا والصين، وتأثر الشركاء التجاريين بهذه الحرب التجارية دفع الأسواق لتسعير مبكر للركود المقبل، بينما خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لهذا العام بـ0.1٪ إلى 3.2٪، وأشار الصندوق إلى تأثير التوترات التجارية على الاقتصاد العالمي، واشتعلت أيضا حرب تجارية بين اليابان وكوريا الجنوبية بشأن المواد الأولية الكيميائية التي تدخل في صناعة أشباه الموصلات التي ترتبط بها الهواتف الذكية ورقائق الذاكرة والشاشات المسطحة، بالإضافة إلى اتساع رقعة الحرب التجارية التي تجعل تأثيراتها على نمو الاقتصاد أكثر ضررا.
البنوك المركزية تسابق الزمن وتحفز اقتصاداتها
تغيير الفيدرالي الأميركي اتجاه سياسته النقدية على الرغم من المؤشرات الاقتصادية للاقتصاد الأميركي يجعلنا نبحث عن دوافع هذا التغيير، إذ رفع البنك سعر الفائدة 9 مرات في سلسلة من تشديد السياسة النقدية منذ ديسمبر (كانون الأول) 2015 وحتى ديسمبر 2018، واستطاع أن يرفع سعر الفائدة إلى 2.50٪، ولكنه سرعان ما غير هذه السياسة إلى التيسير، وبدأ في خفض سعر الفائدة ابتداء من يوليو (تموز) 2019 بخفض بـ25 نقطة أساس.
بعد أسبوعين من هذا القرار حدث أول انعكاس لمنحنى العائد بين عوائد الـ10 سنوات والعاملين، والمعضلة التي ستواجه الفيدرالي الأميركي هي "ضيق هامش المناورة بشأن خفض سعر الفائدة مقارنة بكساد 2001، الذي دعم فيه الفيدرالي الفائدة بخفض 550 نقطة أساس، وأزمة 2007 عندما خفض الفيدرالي الفائدة بـ500 نقطة أساس، هذا الركود يستطيع الفيدرالي أن يخفض الفائدة بـ200 نقطة أساس حتى يعود بها إلى المستوى الصفري، وربما يلجأ إلى فائدة سلبية.
وصرح رئيس بنك إنجلترا المركزي أنه لا يفضل أن ينخفض سعر الفائدة إلى ما دون الصفر وبلاده توجه تداعيات خروج غير منظم من الاتحاد الأوروبي في أقل من 70 يوما، ومع إشارات ركود الاقتصاد العالمي سيكون الوضع معقدا أمام بنك إنجلترا المركزي، على نفس الصعيد يستعد ماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، أن يخفض سعر الفائدة في اجتماع أكتوبر (تشرين أول) 2019 مع استمرار مخاوف تباطؤ الاقتصاد في منطقة اليورو واستمرار تداعيات الحرب التجارية على منطقة اليورو، ونفس ردة الفعل من بنك الاحتياط الأسترالي الذي خفض سعر الفائدة خلال شهري يونيو (حزيران) 2019 ويوليو (تموز) 2019، وخفّض بنك الاحتياط النيوزلندي سعر الفائدة بـ50 نقطة أساس في اجتماع واحد، أيضا على الخط بنوك الاقتصاديات الناشئة، كما خفض سعر الفائدة في الهند والفلبين وتايلند، هذا التدافع المحموم من قبل البنوك المركزية لتحفيز الاقتصاد لتجعله في وضع أفضل مما كان عليه في أوقات الكساد السابقة.