Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا تبقى من إرث ستالين في موطنه الأصلي؟

تجولت "اندبندنت عربية" في مدينة غوري لرؤية متحف ستالين العظيم ومعرفة ما تبقى من إرث الزعيم الشيوعي ومحاورة محبيه الذين ما زالوا يشربون نخبه

تمثال ستالين في مدينة غوري الجورجية (اندبندنت عربية)

ملخص

تمنت والدته أن يكون "قسيساً" حتى يطيعه أهل جورجيا فأخضع أوروبا الشرقية لسيطرته وما زال مؤيدوه يحتفون به على رغم مرور أكثر من 70 عاماً على وفاته

لم تكن مدينة غوري في جمهورية جورجيا الموجودة على بعد 76 كيلومتراً غرب العاصمة تبليسي، ستحظى بهذه المكانة والشهرة العالمية كوجهة سياحية لولا ولادة جوزيف ستالين فيها عام 1879، وهو الذي حكم الاتحاد السوفياتي لثلاثة عقود، نجح خلالها في نشر الفكر الشيوعي حول العالم، ونقل بلاده إلى دولة متقدمة اقتصادياً وعسكرياً يحتفى بها بالمحافل الدولية.

وفي العقد الأخير من حياته غير ستالين مجرى التاريخ بانتصاره في الحرب العالمية الثانية، محققاً بعدها بسنوات توازناً في مضمار التسلح مع تصنيع أول قنبلة نووية سوفياتية بعد سنوات من قنبلة أوبنهايمر الأميركية.

وعلى رغم أنه ابن الأرض الجورجية، إلا أن معتقداته الشيوعية لم توقف عبثه بوطنه الأم ومشاركة ثوار موسكو بقيادة صراع دام بلغ ذروته في عشرينيات القرن الماضي للاستيلاء على جورجيا وضمها تحت سيادة الكيان السوفياتي بعد قمع وحشي راح ضحيته آلاف من أبناء أرضه.

بعد قرابة أكثر من قرن على تلك الحادثة، تجولت "اندبندنت عربية" في قرية غوري لمعرفة ما تبقى من إرث الطاغية الشيوعي ومحاورة محبيه الذين ما زالوا يشربون نخبه في أنحاء المدينة، والنقاش مع آخرين سردوا تفاصيل عقود من حكمه المظلم والدامي.

متحف غوري

من وسط المدينة المتواضعة، مسقط رأس الزعيم الراحل، يوجد المتحف الضخم الذي لا يزال كما هو منذ افتتاحه في عام 1957 مبنى كبير بتصميم مبهر، وفي ساحته الخارجية الخضراء يوجد كوخ صغير الحجم من الخشب والطين، وهو المكان الذي ولد وعاش ستالين فيه أول سنوات طفولته.

ومن داخل المتحف تجمع السياح عند الباب في انتظار الجولة الخاصة بمتحدثي اللغة الإنجليزية، رجال ونساء من أنحاء العالم، وصلوا إلى غوري خصيصاً لمشاهدة ما تبقى من ذكرياته.

 

سألت "اندبندنت عربية" أحد السياح في بهو المتحف عن سبب حضوره، فكان جوابه بسيطاً "لأرى التاريخ"، واستكمل صديقه الإجابة "نحن نؤمن بالشيوعية لذلك أتينا من بولندا إلى جورجيا لرؤية مدينة العظيم ستالين".

وتساءلت إسبانية أثناء حديثنا معها "استغرب عدم هدم هذا المبنى، إنه دليل على الاحتلال السوفياتي لجمهورية جورجيا، لماذا ما زال مفتوحاً للجمهور؟".

نبوءة زعيم

وصلت مرشدة المتحف مرحبة بالجميع، وبدأت بالجولة مباشرة إلى الطابق الثاني، في القاعة الأولى وبصوت جوهري، أوضحت أن الصور الباهتة والمعلقة على الجدار تعود لوالدي ستالين الذين كانا ضمن الطبقة الكادحة، فوالده كان "إسكافي" (يصلح الأحذية)، ووالدته فلاحة متدينة كان أملها أن ترى ابنها قسيساً.

وتتابعت معلومات الصور توالياً، التي توضح ملامح الزعيم وهو صغير عندما كان طالباً في المدرسة، وصور أخرى توثق مراهقة الرفيق الشيوعي التي أمضاها في المدرسة الروسية للمسيحية الأرثودوكسية في تبليسي بناء على رغبة أمه، بحسب ما ذكرت مرشدة المتحف.

وتجلى تغير شخصية ستالين عبر ما وثقته الصور المعروضة، التي أظهرت تحولاته الفكرية والثورية، وانتقاله من صفحات الإنجيل إلى نظريات كارل ماركس ولينين، التي قادته إلى عراك ثوري في سنوات شبابه مضى منها سبعة أعوام في سجون الإمبراطورية القيصرية الروسية.

التلاعب بالصور

وخلال الجولة استوقفتنا المرشدة أمام إحدى صور ستالين مع القائد فلاديمير لينين، مؤسس الاتحاد السوفياتي، إذ قالت "هذه الصورة أخذت في بداية العشرينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد إصابة لينين برصاصة في صدره التي أثرت في صحته، وأدت إلى وفاته بعدها بسنتين".

 

واستكملت دليلة المتحف حديثها "الأمر المحير هنا، أن هذه الصورة تعد إحدى أولى الصور في العالم التي عدلت، واستخدمت فيها ألاعيب لتغيير حقيقتها بطريقة أو بأخرى"، واستطردت حديثها "كان ستالين يعاني قصراً في يده اليمنى، وكان واضحاً على وجهه آثار الجدري، ولكن في هذه الصورة ضخمت بنيته مقارنة مع لينين، وتعديل الصورة بمد يده اليسرى بشكل طبيعي وإخفاء ندبات الوجه".

وبحسب حديث الجورجية فإن ستالين نجح في الاستحواذ على الحكم السوفياتي، على رغم توصية مؤسس الاتحاد لينين بعدم اختياره سلفاً له بسبب قسوة قلبه.

درب الحكم

ويتضح درب ستالين في القاعة الضخمة التي تليها، إذ نجح في اكتساح السلطة السوفياتية بعد موت لينين عام 1924 والقضاء على أغلب أصدقائه الثوار عبر الإعدام والنفي، لتبدأ مرحلة القائد الأوحد بصور تظهر قوته وعزمه، ورسومات مشرقة لأطفال سعداء يتوسطهم ستالين الأب والمحب بابتسامة مرحة، مظهراً حنانه لصغار قومه، وهي دليل واضح لاهتمام القائد الراحل بالدعاية الرسمية أو "البروباغندا" الحكومية التي مارسها بذكاء، بحسب ما قالت المرشدة خلال الجولة.

يضم المتحف كثيراً من مقتنيات ستالين وصوره ووثائق خاصة به، ومجموعة من المقالات والكتابات الصحافية عنه، وبعض التماثيل التي نحتت لشخصه، إضافة إلى كرسيه ومكتب اجتماعات، ومجموعة من ملابسه الخاصة، كما يضم قناع الموت الخاص به، وهو يمثل أول حالة لوجهه عندما لفظ أنفاسه الأخيرة.

 

وفي ساحة المتحف يوجد تمثال ضخم للزعيم الراحل، وعربة قطار خضراء، وذكر عن هذه العربة الحديدية أن ستالين استخدمها للتنقل أثناء الحرب العالمية الثانية.

ردع وقمع

وعلى مدار ثلاثة عقود، حكم ستالين بلاده بقبضة من حديد، وأدت سياسته القمعية إلى مقتل ما لا يقل عن 20 مليون شخص ليصنف ضمن أكثر الشخصيات دموية في القرن الماضي، وهذا ما أقرته المرشدة الجورجية في نهاية الجولة.

ولمعرفة علاقة الحب والكراهية بين الجورجيين وابنهم الذي أصبح زعيم الكيان السوفيتي، نصحتنا مرشدة المتحف بالمرور إلى منزل سيدة حولت مسكنها إلى متحف صغير تجمع فيه كل ما له علاقة بستالين، لنسألها حول سبب ارتباطها بالقائد، فكان جوابها بلغة إنجليزية ركيكة "ستالين الظاهرة الجميع فخور به".

وأضافت السيدة الجورجية "يحزنني أن بعض أحفادي لا يحترمون الرفيق ستالين، بحجة قتله للخونة، لقد تأثروا بالأصوات الغربية وهذا يحزنني"، ورفضت تصوير متحفها المنزلي خلال زيارتنا لها.

في منطقة المتحف عديد من البائعين المتجولين يحملون ميداليات وتماثيل ستالين صغيرة الحجم، ومنتجات ملونة ومنوعة مرسوم عليها المطرقة الشيوعية الحمراء.

ولم تغب صور ستالين عن نوافذ أحد المباني، واستغل أحد المطاعم شهرة الزعيم مستخدماً اسمه الأول "جوزيف" كاسم له للفت نظر السياح القادمين، وفي الجانب الآخر يطل تمثاله على حديقة ورود، وساحة ضخمة الحجم تحمل اسم ابن مدينة غوري.

هذا الاعتزاز في أبناء قرية غوري، أكد أنه على رغم حصول جورجيا على استقلالها منذ ثلاثة عقود، وهدم معظم تماثيل القادة السوفيات، إلا أن ستالين ما زال في قلب معارك ذاكرة البلاد وتاريخها على رغم مرور أكثر من 70 عاماً على وفاته.

الابن العاق

وتقول مراسلة صحيفة "واشنطن بوست" إينا لازاريفا في جورجيا خلال تقرير نشرته عام 2021 "يتزايد الإعجاب والمحبة للقائد الراحل خصوصاً مع الجيل الأصغر سناً، الذي نشأ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في جورجيا، مطالبين بالاعتراف الكامل بستالين باعتباره الزعيم الذي ساعد الحلفاء في الفوز في الحرب العالمية الثانية"، مؤكدة أن غوري الصغيرة تعتبر ساحة معركة لمبارزة تفسيرات التاريخ وفهم العلاقة المتشابكة بين الجورجيين وابنهم سيئ السمعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العلاقة الشائكة دخلتها مشاعر الغضب في عام 2008 عندما خاضت روسيا حرباً قصيرة مع جورجيا، وانتزعت منها منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، واعترفت بهما كمناطق مستقلة، ومنحت الجنسية الروسية لسكان المنطقتين لاحقاً، وصدرت تصريحات عن مسؤولين حكوميين في تبليسي تتحدث عن النية بإزالة المتحف لكون معظم مكوناته تتعلق بالتاريخ الروسي، غير أن تلك النية لم تطبق على أرض الواقع، وأعيد افتتاح المتحف عام 2012.

رمز روسي

في عام 2010 وتحت جنح الليل، أزالت حكومة جورجيا الموالية للغرب أكبر تمثال لستالين في غوري، مما أثار رداً غاضباً من أهالي المدينة، بل وإلى يومنا هذا يحاول بعض البرلمانيين الموالين للحكومة تغيير أسماء الطرق والشوارع التي سميت باسم القائد السوفياتي، إذ يرى بعض المعارضين أن وجود ستالين في البلاد يذكر بأنه كان رمزاً لظل موسكو الغادر الذي لا يزال باقياً.

في المقابل يحتفل عشرات بعيد ميلاد ستالين في الـ21 من ديسمبر (كانون الأول) من كل عام، من خلال التجمع خارج متحف غوري المخصص له، إذ يلقون الخطب، ويمشون إلى الساحة حيث كان يقف تمثال برونزي يبلغ ارتفاعه ستة أمتار مطالبين بإعادته.

علاقة شائكة

حول ما قدمه ستالين لأبناء جورجيا يقول متخصص التاريخ في جامعة إيفان جافاخيشفيلي في العاصمة تبليسي ليري تافادزه "كان عصره الذي استمر قرابة 30 عاماً مثيراً للاهتمام من وجهات نظر عديدة، إذ مرت البلاد بعديد من التغييرات الجذرية منها إلغاء الملكية الخاصة وإنشاء اشتراكية الدولة، وكذلك التجميع والتصنيع السريع، ونمو معرفة القراءة والكتابة بين البروليتاريا والفلاحين، إضافة إلى مركزية جهاز الدولة وإنشاء بيروقراطية سوفياتية جديدة، وتغيرات في الزراعة، مع القمع وسيطرة الدولة على وسائل الإعلام والحياة الاجتماعية والاقتصاد".

 

وأضاف "أنشئت ملكية جماعية للمزارع والماشية التي كانت مملوكة في السابق لأصحاب القطاع الخاص، وكذلك بناء عدد من المصانع، وحصل العمال على شقق بالقرب من أماكن عملهم، وكان التعليم والرعاية الصحية مجانياً ومتاحاً للجميع، كما زاد عدد معرفة القراءة والكتابة بين السكان بشكل كبير".

سلام جورجي

وعن تاريخ جورجيا في عهد ستالين قال تافادزه "تمتعت بالسلام من الحروب حتى أن ألمانيا النازية لم تتمكن من اختراق الأراضي الجورجية خلال الحرب العالمية الثانية، وكما يعتقد كثيرون في ذلك الوقت، يرجع إلى حد كبير إلى قيادة ستالين الفعالة"، مستطرداً "أعتقد أنه كان زعيماً دولياً، وليس مؤيداً جورجيا أو روسيا أو أية دولة أخرى".

وتابع الأكاديمي الجورجي "كانت تدابيره الأولية موجهة نحو بناء النظام الاشتراكي العالمي، إذ نظر إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية على أنه مثال لبناء دولة اشتراكية مثالية، وتعامل مع جميع الجمهوريات الـ15 على قدم المساواة إلى حد ما، ومن هنا فإن كل ما حدث للبلاد يشبه ما فعله لجمهوريات الاتحاد السوفياتي الأخرى والعكس صحيح".

وحول علاقة الحب والكراهية بين ابن غوري وأبناء بلاده أشار ليري تافادز "يذكر ستالين كزعيم عظيم وشرير للاتحاد السوفياتي، لكن شعبيته في جورجيا ترجع إلى جنسيته"، لافتاً إلى سبب آخر وهو الانتصار في الحرب الوطنية العظمى، إذ يشيد كثير من الناس بالتزاماته في السياسة العالمية التي جعلت الاتحاد السوفياتي دولة رائدة في العالم"، منوهاً كذلك بتحسين نوعية الحياة التي عاشها معظم الأشخاص العاديين خلال الفترة اللاحقة من حكمه.

كراهية سياسية

وأرجع تافادز مشاعر الكراهية تجاه ستالين من بعض الجورجيين إلى توجه سياسي "ينكر أي شيء إيجابي للفترة السوفياتية التي ترتبط بشخصيته، وكذلك عمليات التطهير التي حدثت في الفترة من 1936 إلى 1938 التي تورط فيها، وبالتالي غالباً ما يرتبط اسمه بالعنف والديكتاتورية والقمع".

ولفت الأكاديمي الجورجي إلى أن أولئك الذين تعرضوا للقمع "لا تزال لديهم ذاكرة واضحة عن أقاربهم وأفراد أسرهم الذين نفوا أو عوقبوا خلال فترة حكمه، بل ومشاعر معادية لروسيا لدى جزء من السكان الذين يحاولون رفض كل ما يرتبط بالماضي السوفياتي حتى عندما كانت روسيا وجورجيا وبعض الدول الأخرى متحدة في كيان سياسي واحد".

وحول ما يتعلق بإشكال هدم التماثيل السوفياتية في جورجيا أفاد ليري تافادز بأن "السكان المحليين في غوري احتفظوا بتمثال ستالين باعتباره رمزاً لفخر المدينة التي أنجبت أحد أعظم قادة العالم الحديث، لكن لم يكن الموقف تجاه التمثال متساوياً خصوصاً بعد إعلان جورجيا استعادة استقلالها"، مشيراً إلى أنه بعضهم كان حريصاً على الحفاظ عليه كرمز للمدينة ومكان جذب سياحي، لكن آخرين رأوا فيه رمزاً للاستبدادية والغزو الروسي لبلادهم، مؤكداً أن "المشاعر السلبية زادت بعد الحرب الروسية - الجورجية عام 2008، وحينها قررت حكومة ميخائيل ساكاشفيلي أنها في حاجة إلى التخلص من الرموز السوفياتية وأزيل تمثال ستالين بالفعل من دون موافقة السكان المحليين في منتصف ليل الـ24 – الـ25 من يونيو (حزيران) من عام 2010".

وفسر الأكاديمي بجامعة إيفان جافاخيشفيلي إزالة التمثال بأنه "بعد هزيمة جورجيا في حرب 2008 تبنت حكومة ساكاشفيلي سياسة راديكالية لأنها كانت تعاني جزئياً حالة متلازمة الخاسر، وبالتالي كان مظهر هذا النوع من الظروف النفسية هو الحرب ضد التماثيل والرموز والصور، وكلها ربطت بالعدو، قبل أن تتخلى عنها وتتبع نهجاً أكثر توازناً ليتم الاحتفاظ بالنصب التذكاري في متحف جوزيف ستالين في غوري".

المزيد من تحقيقات ومطولات