ملخص
اختصاصي في علوم السياسة يذكر في كتاب حديث أن حرب يوم الغفران في 1973 وصلت إلى الحافة النووية ويستعيد جهود السلام ووقف الحرب
حدث ذلك قبل 50 سنة، في 6 أكتوبر (تشرين الأول)، وكنت صبياً في التاسعة من عمري أركض في كنيس "نيو هيفن" بمدينة "كونيكتيكت" حيث يعمل والدي الحاخام، حينما صادفت مجموعة من الرجال متجمعين في زاوية. ليس من المتوقع أن يصوم الأطفال في يوم الغفران، لكن هذا لم يقلل من إحراجي العام آنذاك حينما ضُبِطتُ وأنا أتناول آيس كريم. تساءل عقلي الطفولي عما إذا كان السادة يتشاركون أيضاً مخالفات غذائية سرية مماثلة.
لكن، حينما اقتربتُ منهم، استطعت أن أرى مدى جدية وجوههم أثناء تجمعهم حول راديو ترانزستور. سادتهم حالة ذهول وصدمة أثناء استماعهم إلى أخبار تتعلق بهجوم مفاجئ على إسرائيل من قبل جيشي مصر وسوريا معاً. شن العرب الحرب في العيد اليهودي بهدف استعادة الأراضي التي فقدوها في حرب الأيام الستة عام 1967.
كذلك قُدِّر للعالم أن يراقب في رعب طيلة 18 يوماً فيما التحمت الأطراف المتحاربة في بعض من أكبر معارك الدبابات في التاريخ. ومع حلول الوقت الذي انتهى فيه النزاع، المعروف الآن باسم حرب يوم الغفران، قُتِل ما يُقدَّر بحوالى 20 ألف رجل. اهتز الاقتصاد العالمي من أساسه بسبب حظر النفط، بينما دُفِعت القوى العظمى إلى حافة حرب عالمية ثالثة.
لم يكن كثر من الناس قد سمعوا عن حوادث أكتوبر 1973 إلا يوم السبت من الأسبوع الماضي، حينما غزت "حماس" إسرائيل في الذكرى الـ50 للهجوم، ما أسفر عن مقتل أكثر من ألف مدني واختطاف أكثر من 100 رهينة إلى غزة. ونراقب الآن عواقب تلك الأعمال الإرهابية، وتستعد كتب التاريخ في المستقبل لإدراج الفصل التالي من قصة المنطقة المعقدة.
استغرقت عشرين سنة لفهم حوادث حرب أكتوبر 1973، مع فريق من الباحثين من أنحاء العالم كله. وتجاوزت التقلبات والمنعطفات التي تكشفت وقتذاك أي شيء يمكن أن يبتدعه روائي. إذ برز الجنرال الإسرائيلي المتهور، أرييل شارون، الذي فاز في المعركة الرئيسة في الحرب من خلال شن هجوم غير مصرح به في انتهاك مباشر للأوامر المعطاة له. وكذلك ظهر وزير الدفاع صاحب العين الواحدة موشيه ديان، ذو الشخصية المتقلبة الثنائية القطبية، الذي عانى من انهيار جزئي في الأيام الأولى اليائسة ونصح بتجهيز الأسلحة النووية. وبرزت أيضاً رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير التي وقفت إلى جانب الوزراء الأكثر حذراً، وطلبت من ديان أن ينسى الأسلحة النووية وقادت بلدها إلى نصر غير محتمل. ولا تزال الحرب تلقي بظلالها على المنطقة والعالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نجم الهجومان اللذان يفصل بينهما نصف قرن، عن إخفاقات استخبارية كارثية. اليوم، يتعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى انتقادات بسبب تجاهله تحذيرات الاستخبارات المصرية بأن "شيئاً غير عادي، عملية رهيبة" يوشك أن يحدث. قبل 50 سنة، تجاهلت مائير أيضاً تحذيراً، صدر وقتذاك من الملك حسين عاهل الأردن الذي أخبرها بأن حرباً مع مصر وسوريا باتت وشيكة. وبينما واصلتْ مائير العمل كي تكسب الحرب، أدى هذا الخطأ الفادح إلى استقالتها في نهاية المطاف.
إذاً، ما الذي أدى إلى فشل استخباري كهذا عام 1973؟ نعلم الآن أن المخططين العسكريين الإسرائيليين استرشدوا بشيء يُسمَّى "كونسبتزيا " conceptzia، أو ببساطة "المفهوم". أفاد "المفهوم" في أبسط أشكاله بأن سوريا لن تذهب إلى الحرب من دون مصر التي لن تذهب إلى الحرب حتى تتلقى أسطولاً من المقاتلات السوفياتية المتقدمة التي عرف المصريون أنها تستطيع تحييد سلاح الجو الإسرائيلي. ولأن تلك المقاتلات تقرر تأخير تسليمها حتى عام 1974، اعتقد الإسرائيليون بأنهم في أمان عام 1973.
اكتشفوا بالطريقة الصعبة أن أنور السادات، رئيس مصر، امتلك "كونسبتزيات" خاصة به. قدمت صواريخ أرض-جو سوفياتية الصنع حلاً جزئياً لمشكلة سلاح الجو الإسرائيلي. وفي ظل محاولة انقلاب فاشلة، واقتصاد مفلس، وضباط مضطربين يتألمون توقاً للانتقام من الخسارة المهينة لعام 1967، خلص السادات عام 1973 إلى أن الذهاب إلى الحرب مع ما توافر له من جيش وأسلحة، بات أمراً ملزماً له.
وبهدف خداع الإسرائيليين، أجرى المصريون مناورات حربية على طول قناة السويس، وتدربوا على كل جوانب غزو يستهدف سيناء. لم تكن المناورات المستمرة تُجرَى للحفاظ على التأهب فحسب، بل لإخفاء النوايا. لقد تعلّم المصريون ذلك التكتيك من السوفيات الذين خدعوا وكالات الاستخبارات الغربية من خلال التدريب المنتظم على طول الحدود. في معظم الأوقات، سُرِّحَ الجنود بعد التدريب وأُعيدوا إلى منازلهم. وفي المقابل، تحولت التدريبات أحياناً إلى هجمات مفاجئة.
يكمن ذكاء ذلك التكتيك في أن حفنة ضئيلة من القياديين احتاجوا إلى معرفة أن غزواً يجري التحضير له على قدم وساق. وبالمثل، بمجرد أن حشدت مصر قواتها على طول قناة السويس، صار من المستحيل على إسرائيل تحديد إذا ما وُضِعَتْ تلك القوات هناك للتدريب أو للهجوم. في عام 1973، بين 1 يناير (كانون الثاني) و 1 أكتوبر، استُدعِي جنود الاحتياط المصريين وأُعِيدوا إلى ديارهم ما لا يقل عن 22 مرة. في المرة الـ23، أُمِروا بعبور القناة. لم يكن سوى عدد قليل من كبار الضباط في أعلى الهرم يعرفون أن حرباً تلوح في الأفق. ومن بين الثمانية آلاف عسكري مصري الذين قبضت عليهم إسرائيل في الحرب، لم يعرف سوى شخص واحد بالهجوم المخطط له، وأُخبِرَ بذلك في الثالث من أكتوبر. عملياً، اكتشف الآخرون جميعاً أمر الهجوم صباح السادس من أكتوبر، اليوم الذي بدأت فيه الحرب.
في الساعات الأولى من الحرب، جاءت صدمة إسرائيل كاملة. احتاجت إلى 48 ساعة كي تعبئ جيش مواطنيها من جنود الاحتياط. وانهار خط الدفاع الضعيف الحماية في غيابهم. تقدم المصريون لأميال قليلة في شبه جزيرة سيناء، لكن السوريين هددوا شمال إسرائيل المكتظ بالسكان. في اليوم الأول، فقد الإسرائيليون أكثر من 200 دبابة، أو أكثر من 10 في المئة من ترسانتهم بأكملها. وحدثت خسارة بالسوء نفسه تقريباً للمقاتلات الجوية. وبهذا المعدل من الخسائر، كان الجيش الإسرائيلي سيخسر كل عتاده في أقل من أسبوعين.
نصح ديان بالانسحاب لـ30 ميلاً بعيداً من قناة السويس، إلى ممري "متلا" و"جيدي" اللذين يسهل الدفاع عنهما. رفضت مائير النصيحة، وأمرت الجيش بالصمود والقتال. وأثبتت الحوادث أنها محقة. خفت الخسائر، واستقر الخط على بعد أميال قليلة من قناة السويس، ما مهد الطريق أمام هجوم مضاد لاحق. في هذه الأثناء، توجّب على مائير أن تقرر ما يجب فعله بفرقتها الاحتياطية الوحيدة التي كُلِّفت بالدفاع عن القدس في مواجهة هجوم محتمل من قِبَل الأردن.
راهنت مائير على أن الملك حسين سيبقى على الهامش، وأمرت الدبابات بالتوجه شمالاً إلى مرتفعات الجولان. وطيلة أسبوعين مثيرين للأعصاب، كانت عاصمة البلاد [تل أبيب] عرضة إلى هجوم. لكن، أبقى الأردنيون الحدود هادئة، خوفاً من أن يدمر سلاح الجو الإسرائيلي المملكة إذا ساروا خطوة واحدة. ودفعت الفرقة المرسلة إلى الشمال السوريين إلى خطوطهم الأصلية.
تُرِكت أصعب القرارات إلى المرحلة الأخيرة. بحلول 16 أكتوبر 1973، لم يتبق لدى الإسرائيليين سوى 650 دبابة على طول قناة السويس. أمرت مائير 400 منها بعبورها. حذّر ديان من أن عزل القوة المتمركزة في غرب القناة في حال حصوله سيعني أن الإسرائيليين سيجدون أنفسهم يقاتلون في ضواحي تل أبيب. لكن الإسرائيليين عبروا القناة وتوجهوا جنوباً إلى قلب مصر. تمثّل الهدف في قطع ثلاث طرق لنقل الإمدادات الضرورية إلى 30 ألف رجل في الجيش الثالث المصري المتمركز شرق القناة.
ومع تقليص خطوط إمداد الجيش الثالث طريقاً تلو أخرى، أُصِيب السادات بالذعر وناشد حلفاءه السوفيات فرض وقف لإطلاق النار. سُرَّتْ واشنطن، راعية إسرائيل وموردها الوحيد للأسلحة، للغاية حينما التزم السوفيات بذلك [فرض وقف إطلاق النار] وبالتالي المساعدة في إنقاذ الجيش المصري. حينها، عانت أميركا في ظل حظر نفطي. إذ أُخبِرَ وزير الخارجية هنري كيسنجر إن التقنين خلال الحرب العالمية الثانية خفض الطلب المحلي الأميركي بما لم يتجاوز الستة في المئة، لكن الحظر الجاري وقتذاك هدد بخفض الإمدادات بـ18 في المئة. خلال "الحرب الباردة"، استغرق التفاوض على اتفاقات وقف إطلاق النار سنوات عادة، لكن [وزير الخارجية الأميركي] هنري كيسنجر شعر بأنه يواجه حالة طارئة. وسافر إلى موسكو. وجرت الموافقة على وقف إطلاق النار في أربع ساعات.
لم تقبل مائير بذلك. وأمرت رجالها بتحدي واشنطن والاستمرار في التقدم. وحاصروا الجيش المصري الثالث بعد يوم من أمر مجلس الأمن الدولي للجيش الإسرائيلي بالتوقف. غضب السوفيات. طوال "الحرب الباردة"، لم يكن الخوف يتعلق بتكرار الحرب العالمية الثانية، بمعنى أن تغزو قوة كبرى نظيرتها الأخرى بوقاحة. بالأحرى، تعلق الخوف بسيناريو الحرب العالمية الأولى حينما عملت التحالفات المعقدة على تحويل نزاع إقليمي [في أوروبا الوسطى ودول البلقان] إلى نزاع عالمي.
وأثناء ترقّب التطورات [خلال الحرب الباردة]، حدد المخططون العسكريون الشرق الأوسط قبل فترة طويلة من حرب أكتوبر، باعتباره النسخة الحديثة من البلقان. لحسن الحظ، لم ترغب واشنطن ولا موسكو في خوض حرب عالمية ثالثة حول مصر. وتنازل الجانبان. وخفت حدة الأزمة. وواصل الجيش الإسرائيلي حصاره للجيش المصري الثالث. رفض الإسرائيليون إرخاء قبضتهم الخانقة على الجيش الثالث حتى وافقت القاهرة على إنشاء مناطق واسعة منزوعة السلاح جعلت من المستحيل شن هجمات مفاجئة من جيشها في المستقبل. واجه المصريون والسوريون خياراً قاسياً بين تحقيق السلام مع فقدان أراضٍ عام 1967 أو تحقيق السلام مع إسرائيل. لقد انتصر الإسرائيليون في حرب يوم الغفران.
انتهت الحرب رسمياً حينما اقترحت الأمم المتحدة اتفاقاً ثانياً لوقف إطلاق النار وتوسطت في تطبيقه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في 24 أكتوبر 1973. ومهد ذلك المسار لاتفاقات جرى التفاوض عليها على مدى سنوات عدّة بين إسرائيل ومصر. لقد حقق السادات السلام عام 1979 وتسلّم شبه جزيرة سيناء. ورفضت سوريا تحقيق السلام، ولم تتسلم مرتفعات الجولان على الإطلاق.
قولوا لعرب العام 1973 إنهم خسروا الحرب، لكنهم استعادوا شرفهم. في تذكره للشجاعة التي تحلت بها الأطراف الثلاثة، إسرائيل ومصر وسوريا، أطلق أرييل شارون على الحرب تسمية "حرب الجندي". ما حدث في إسرائيل بعد 50 سنة ويوم واحد لم يكن حرب جندي. كانت مجزرة إرهابية.
لقد فاجأت حركة "حماس" الإسرائيليين بالطريقة التي فاجأهم بها المصريون عام 1973، إذ تدربوا على طول السياج الحدودي وتراجعوا مرات عدة. وأخيراً، ذكر مسؤول كبير في "حماس" يُدعى علي بركة على التلفزيون الروسي إن حفنة ضئيلة من كبار قادة "حماس" عرفوا أنهم سيُؤمَرون في 7 أكتوبر 2023 باختراق السياج والمضي قدماً في فورة مجرمة. لم يعتقد أحد بأن "حماس" ستقطع عمداً شريان حياتها الاقتصادي الوحيد.
إذاً، لماذا فعلت ذلك؟ لأنها على غرار أنور السادات، امتلكت "كونسبتزيات" خاصة بها. إن يحيى السنوار البالغ من العمر 60 سنة، الزعيم السياسي لـ"حماس" والعضو المؤسس لجناحها العسكري، قاتل جماعي أنزلت به محكمة إسرائيلية أربعة أحكام متتالية بالسجن المؤبد لقتله خمسة فلسطينيين يشتبه في تعاملهم مع إسرائيل. لقد بدا محتماً أنه سيقضي بقية حياته في السجن، لكن جرى إطلاق سراحه في تبادل للأسرى عام 2011. وشهد ذلك التبادل إطلاق إسرائيل سراح ألف و27 سجيناً فلسطينياً في مقابل حرية إسرائيلي واحد يُدعَى جلعاد شاليط، وهو جندي مختطف كان محتجزاً منذ خمس سنوات.
لم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وافق على تلك الصفقة سوى بنيامين نتنياهو. إذاً، من شأن نتنياهو أن يفرج عن أكثر من ألف سجين فلسطيني لإطلاق سراح رهينة واحدة، بحسب ما قد يكون السنوار قد أدرك جيداً، فتخيلوا ماذا سيفعل إذا احتجزت "حماس" أكثر من 100 رهينة؟
قد يوشك السنوار على تلقي درس حول ما يحدث حينما يتبين خطأ الـ"كونسبتزيا" التي يتبناها المرء. إذ إن الإسرائيليين مصممون الآن على محو "حماس" في شكل حاسم، ومن المستحيل أن نحسم في هذه المرحلة المبكرة من سيتولى السيطرة على غزة في نهاية المطاف. وعلى رغم أن إحدى الأفكار التي يجري طرحها تتعلق باستخدام قوة عربية متعددة الجنسيات لإعادة تثبيت السلطة الفلسطينية، الهيئة الحاكمة تحت قيادة الرئيس محمود عباس، وتتحكم الآن بالضفة الغربية من رام الله. أياً جاءت النتيجة، فلقد انتهى النظام القديم. ومن المرجح أن تصبح غزة تحت وصاية المجتمع الدولي، وتعيش، مثل سكان إدلب في شمال سوريا، على المساعدات الإنسانية.
وكخلاصة، لقد كتبت مائير في مذكراتها أن الظروف التي أدت إلى حرب يوم الغفران "لن تتكرر أبداً". بدت على حق طيلة 50 سنة. في المقابل، يبقى لنا اليوم أن نراقب كيف ستتكشف تتمة حرب يوم الغفران بعد نصف قرن، ونتابع الخطوط التي ربطت ساحات القتال بالأمس كي نرى إلى أين يمكن أن تؤدي في الغد.
"ثمانية عشر يوماً في أكتوبر: حرب يوم الغفران وكيف خلقت الشرق الأوسط الحديث" بقلم يوري كوفمان، صدر الآن ، من منشورات دار "ماكميلان"
© The Independent