ملخص
هل نستطيع في حروب اليوم أن نختار عدم المتابعة؟
لم تعد الحرب اليوم قضية البلدان المتحاربة فقط، فبوجود أدوات التكنولوجيا والـ"سوشيال ميديا"، يتسع النطاق الإخباري للنزاعات لتُنشر أحداثها وأخبارها وصورها ومقاطعها المصورة في كل مكان، إذ يمكن لأي متصفح مبتدئ لمواقع التواصل الاجتماعي، بغض النظر عن مدى اهتمامه بمتابعة أخبار الحروب ومستجداتها، أن تطالعه مشاهد من أماكن تتعرض للقصف أو لقطات لأطفال توثق أولى لحظات تعرضهم للصدمة مع آثار لجروح وإصابات بالغة وغيرها من المشاهد التي يمكن أن تؤلم أي إنسان وتعكر صفو أيامه.
الناس والحروب
والحقيقة أن الحروب تحدث دائماً وفي بعض المناطق قد تخف وطأتها لكنها لا تتوقف فعلياً، كما أن عشرات الحروب وقعت في وقت سابق ولم نعلم عنها إلا القليل وبعضهم لا يذكرها أصلاً، إذ لم توثّق إلا في أذهان من شهدوها، أما اليوم فالتوثيق مباشر والوصول إلى المستخدم فوري ويمكن أن يقفز الخبر من جهازه الشخصي في أي وقت، على عكس ما كان سابقاً عندما كانت متابعة الأخبار تتطلب الحضور أمام التلفزيون في وقت محدد من اليوم واختيار قنوات بعينها، أو أن يبتاع صحيفة ليتابع أو يتعرف من خلالها إلى تطور مجريات حدث معين أو للاطلاع سريعاً على الأحداث من حوله. أما اليوم فتطالعه المشاهد في أي وقت، بخاصة قبل النوم بدقائق أو عند الاستيقاظ مباشرة، وهي الدقائق التي يصنفها علماء النفس على أنها الأهم على الإطلاق والتي تحدد شكل اليوم ومدى جودة أحداثه، وتؤثر في ردود فعله.
لذا يمكن القول إن الـ"سوشيال ميديا" في زمن الحروب ربما يكون لها تأثير نفسي سلبي بالغ في الأشخاص الموجودين بكثرة على مواقعها وتطبيقاتها، فيتفاعلون مع أحداثها العاجلة، وقد يصل هذا التأثير إلى درجة تعرضهم لصدمات نفسية قوية أو يعيد تذكيرهم بصدمات سابقة، بغض النظر عن اهتمامهم بالحدث أو لا.
الحرب تعني الجميع
واليوم لا خيار فعلياً بانتقاء نوع محدد من المحتوى أو استبعاد بعضه، فنحن أمام خوارزميات غامضة بعض الشيء على رغم أنها قائمة أساساً على نشر وتكثيف اهتمامات المستخدِم وما يتابع بشكل دوري، إلا أنها توظَف للترويج لحدث أو موضوع ما وتنحاز وقت الأزمات السياسية والاجتماعية والصحية تبعاً إلى ميول أصحابها، فضلاً عن ميزة الإعلانات التي تمتلك أن تقحم أي حدث أمام المستخدم، لذا من المؤكد أنه سيظهر أمامه منشور ما متعلق بحدث دائر في المنطقة إما من خلال ترويج بعض الأشخاص له أو بطريقة شبه عشوائية أو لأن الأحداث تدخل في نطاق "الترند" أو تحظى بتفاعل كبير من قبل رواد هذه المنصة إضافة إلى أسباب أخرى متنوعة.
ومن المؤكد أن الشخص سيقوم تلقائياً بفتح هذا المنشور ومن هنا يبدأ شلال المنشورات المشابهة بالظهور في صفحه الأحداث الخاصة به، لذا يمكننا القول إن الحرب باتت اليوم تعني جميع الناس على اختلاف مناطقهم الجغرافية وبعدهم وقربهم من البلدان المتحاربة ولا يمكن أن يعيش أي فرد بعيداً من تأثيرات هذه الحرب بغض النظر عن مدى أهميتها بالنسبة إليه.
لوم المؤثرين
ووسط العيش المشترك في هذه القرية المعلوماتية الصغيرة، أصبح الجميع معنياً بفرح هنا وعزاء هناك وحرباً في منطقة ما، مما دفع بعضهم إلى اتهام أولئك الذين يعيشون حياتهم بشكل طبيعي بانعدام الإنسانية والتعاطف، وتجمد الإحساس بأوجاع البشرية وآلامها وصراعاتها، وصب جام الغضب بشكل خاص على الـ"بلوغرز" وأصحاب الصفحات الإعلانية.
وفي هذا الصدد تخرج رنا، وهي ناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، في فيديو لتعبر عن ألمها من اتهام بعضهم لها بأنها لم تحترم معاناة أهل غزة ولم تأخذ في الاعتبار الأحداث التي تجري في القطاع على رغم أنها تعيش في بلد آخر، وتحاول صارخة أن تبين للناس أن هذه المهنة هي مصدر رزقها وعلى رغم ذلك لم تتجاهل ما يلم بأشقائها العرب، فهي منذ الأيام الأولى للحرب كانت حريصة على أن تنشر وتدعم الناس المتضررين بالطرق المتاحة لها، وتتابع أن "الحياة يجب أن تستمر ونحن نريد أن نعيش واستمرارنا وحياتنا جزء من مساعدة الآخرين ومشاركة في استمرار الحياة".
وهنا يتناسى بعضهم أنه أصبح لكثيرين من رواد الـ"سوشيال ميديا" مهنة افتراضية يعتاشون منها، فكما تستمر الأعمال العادية لا بد من أن تستمر الأعمال التي ترتبط مباشرة بمواقع التواصل، إذ لا يمكن أن نطالب أشخاصاً لديهم مهن متعلقة بمنصات الـ"سوشيال ميديا" أن يعلنوا الحداد ويوقفوا عملهم، فالحياة يجب أن تستمر وهناك التزامات يجب التقيد بها على أرض الوقع.
وتعتقد فئة كبيرة بأن مجرد استئناف الأعمال والإسهام في استمرار العيش والدعم من خلال طرق أخرى متوافرة يكفي وقد يكون رد الفعل الصحيح على ما يجري عندما لا يكون بأيدينا أن نفعل شيئاً حيال ما يحدث على الأرض، بل ربما يكون أكبر دعم ألا نسمح لأي عدو بأن ينجح في إيقاف عجلة الحياة والعمل والإنتاج.
صراع المتناقضات
أما في ما يتعلق بنشر صور وفيديوهات توثق الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين والأطفال في غزة، فيعتقد بعضهم بأن أحد أهداف إسرائيل هو زيادة مشاعر الضعف وتكثيف صورة الجيش الذي يقاتل ويلحق الأضرار ولا يقهر، وبالتالي إن نشر هذه المشاهد يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، إضافة إلى تكثيف المشاعر المنخفضة من الذل والتأنيب والعار والحزن والأسى التي لا ينقص العالم العربي أياً منها أصلاً. أما البعض الآخر، فيجد أنه في نشر الفيديوهات والصور عن العنف الحاصل اليوم، يمكن أن يساعد على إيصال رسالة إلى العالم ليهب لنصرة الشعب الفلسطيني، لكن الحقيقة أنه، وفي حال افترضنا أنه يمكن أن تجد هذه الرسائل آذاناً مصغية لدى جهة ما، إلا أن هذه الرسائل لا تصل أصلاً إلى أي هدف محتمل، حتى إن بعضها يحذف تحت بند مخالفه المعايير والشروط الموضوعة من قبل المنصات الاجتماعية.
وأخيراً يجب أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن غالبية المؤثرين وكثيراً من الفنانين في العالم العربي ليست لديهم معلومات كافية عن السياسات والصراعات القائمة في العالم، تحديداً في العالم العربي، وبعضهم ظل لوقت طويل متخبطاً ومتردداً بخصوص التصريح بأي كلمة حول ما يحدث كي لا يعود عليه تصريحه باتهامات أكبر لعلمه المسبق أنه واقع بين فكي كماشة، فالحقيقة أننا في العالم العربي نعيش أزمة انتماءات وولاءات وتسميات وإسقاط دلالات ومعانٍ على كثير من المسميات، بالتالي يكفي أن يخطئ أحدهم في التعبير باستخدام مصطلح ما منبوذ لدى فئة محددة كي يتعرض لوابل من الاتهامات السياسية والدينية التي يصل بعضها إلى حد التخوين.