Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

كريستوف كلارو يتأمل في العلاقة الملتبسة بالموت

كتب تكشف عبوره من الرواية إلى الشعر الأكثر استجابة للكارثة العصرية

الكاتب الفرنسي كريستوف كلارو (دار سوي)

في عام 2020، قرّر الكاتب والروائي الفرنسي كريستوف كلارو التوقف عن كتابة الروايات ل"ولوج أراضي الشعر". لماذا؟ "أسعى إلى تقليل عدد قرائي"، صرّح مازحاً في حوار أجري معه حول كتابه الشعري الأول، "سنعود بأشكال أخرى"، الذي صدر مطلع هذا العام عن دار "سوي"، واستتبعه هذا الكاتب الكبير بكتابين صدرا، الأول عن دار "فلاماريون" بعنوان "حيوان تائه، عودة من المسلخ"، والآخر عن دار "نو" بعنوان "شيء آخر تماماً".

الأسباب الحقيقة التي تقف خلف قرار كلارو هي أولاً قناعته بأن "الشعر أكثر قدرة على الاستجابة، أدبياً، للكارثة المحدّقة بنا"، ولكن أيضاً لأن الكتابة، كما مارسها منذ البداية، "عملٌ (...) لا نأتي إليه هكذا، كما لو أن كل شيء قد تم بناؤه مسبقاً"، بل "يتطلب الهدم وإعادة البناء". وثمة سبب آخر لهذا القرار، يعود إلى ضيق كلارو من "واجب السرد" في الكتابة الروائية، كما أشار إلى ذلك في الحوار المذكور، في حين أن الكتابة الشعرية تقتضي "العمل على اللغة نفسها، لا السعي إلى سرد قصة ما". وعلى سؤال: "ماذا يعني أن تكون شاعراً اليوم؟"، أجاب محاوره مازحاً: "يعني العمل أكثر لكسبٍ أقل"، قبل أن يوضح أنه يرغب في مواصلة العمل على أشكال كتابية ابتكرها وانكب عليها كتّاب كبار سبقوه، وتوسيع نطاقها: "بالنسبة إليّ، الشعر مهنة يدوية، ربما أكثر من الرواية".

وفي الحقيقة، منذ كتابه "كيف نبقى جامدين حين نكون طعمة للنيران؟" (2016)، تظهر تلك الحاجة الماسّة إلى الشعر التي لطالما ظللت كتابات كلارو النقدية العديدة وألهبت نثره السردي، كما تشهد على ذلك رواياته الرائعة "كوسموز" (2010)، "كل نجوم السماء" (2012) و"حوادث اختبارية" (2015).

حدثان مختلفان

نقطة انطلاق هذا الكتاب حدثان وقعا في اليوم نفسه، في السابع من فبراير(شباط) 1497: المحرقة التي أشعلها الراهب سافونارولا في فلورانسا وألقيت فيها أعمال فنية كثيرة وقطع ثمينة مختلفة؛ والمعزوفة الرثائية التي ألّفها جوسكين دي بري في ذكرى وفاة الـ "كابيلميستر" يوهانس أوكيغيم. من جهة، لُهُب النيران الحارقة، ومن جهة أخرى، الماء الحي للرثاء. انطلاقاً من هذين الحدثين، يكرّ كلارو خيطاً يمتد من الإقرار بفراغ داخلنا إلى علاقتنا الملتبسة بالموت. فسواء تعلّق الأمر بسكان بومبي الذين طمرتهم حمم بركان "فيزوف"، أو بالجنين الشهير الذي بقي متحجّراً في رحم أمه 28 سنة، أو بلوحات فلمكنية حول موضوع الـ "فانيتاس" (Vanités)، أو بفيلم "المومياء" لكارل فروند، أو بأحداث شخصية حميمة، مثل موت الأب، يسائل كلارو الشعر في ذلك الرابط بين الكتابة والقول اللاتيني الشهير: "تذكّر أنك ستموت".

كتاب معتِم، لكن مليء بالإشراقات، كما تشهد على ذلك قصيدة "ما تقوله الجثة المسلّية"، التي تبدأ بالمقطع التالي: "بحبر الأخطبوط/ لا تكتب الأخطبوط/ خذه من رأسه/ واجعله يشرب حبره/ بالقوة/ كما لو أنه صديق"، وتنتهي بالمقطع الآتي: "بزوايا صوتك/ انصب مسانِد كبرى/ من صراخ على شاطئ القرية/ ثم انتظر/ انهيار كل شيء/ بصمت".

"حيوان تائه، عودة من المسلخ" ليس أقل قتامة، إذ يحضر الشعر فيه كأرضية للعنف، وكغرفة أصداء حميمة للصراخ، كما يتجلى ذلك منذ الصفحات الأولى: "على العتبة، نسمع طرقاً. مَن هنا؟ (أفتحُ الباب) عنفي/ عنفي يطفو على السطح (أُغلِقُ الباب)". ديوان مكوَّن من جزئين، ومكتوب كبورتريه ذاتي منفَّذ بسكين، نتجوّل فيه داخل مملكة طفولة مسكونة، مصغين إلى ذلك الشخص "المسلوخ المختبئ تحت طبقة جلده" وهو يعدِّد ما يتعفّن (أو يتخمّر) حوله: الماضي، السعادة، الحب، الجثث، الدم. شخصٌ يخرج كل ما يسحقه تحت رحى "مطحنته المبهِجة"، أكثر حدّة وجمالاً.

ولا عجب في ذلك، فالعمل الجسدي الذي يقوده كلارو في قلب اللغة غايته العثور على كنوز مطمورة خلف الآليات اللغوية التي تُقدَّم داخل الأدب للقراء كحساء يومي. برنامج شعري خلاصي ينفّذه الشاعر بألمعية نادرة، من منطلق اقتناعه بضرورة الحفر عميقاً للإفلات من أفخاخ اللغة وأعرافها وعاداتها، وخلق أو إعادة خلق فرصة انعتاق. وفي هذا السياق، لا تحضر من باب المصادفة أو العبث ــ على مر أبياته الحرّة، لكن المليئة بالإيقاعات الساحرة ــ أسماء شعراء مثل أنتونان أرتو وفرانك فوناي وأليخاندرا بيزارنيك وسيدريك دومانجو. فمع أن هؤلاء نشطوا، أو ما زالوا ناشطين، وفقاً لوسائل وممارسات شعرية مختلفة، لكنهم وضعوا دائماً مسألة تحرير اللغة في قلب اهتماماتهم، مثله.

"ما دمنا نعمل بمفردات اللغة، فنحن مضطرون إلى العمل بأجسادنا. ثمة بالضرورة بعد جسدي في الشعر"، يقول الشاعر، مضيفاً: "كسر القوالب اللغوية الجاهزة مهنة يدوية" لا بد من ممارستها لبلوغ اللغة التي سرقتها العادات المفروضة، عن وعي أو من دون وعي، أو لإعادة تخيّلها في شكلٍ مختلف. وهل من برنامج أجمل وأسمى للشعر، والكتابة عموماً؟ برنامج لطالما التزمه كلارو في رواياته السابقة التي لا نقع فيها أبداً على صورة مطروقة أو جملة تقليدية في صياغتها، مما يفسّر صعوبة قراءتها لدى معظم قرّاء اليوم الذين اعتادوا سهولة في الكتابة، يمقتها.

إمتلاك الشعر

وفي "حيوان تائه، عودة من المسلخ"، يذهب إلى أبعد حد في تطبيق هذا البرنامج، مانحاً القارئ كمّاً من الأمثلة على امتلاك الشعر، في حال جهد كما يجب في كتابته، قوة فكرية وتأملية ــ من خلال اللغة ولأجلها ــ لن يجد مثيلاً لها في أي نص فكري منثور، مهما علت قيمته وشًحِذت لغته، وعلى امتلاكه أيضاً أدوات قادرة أكثر من غيرها على اختراق القشرة السميكة للأفكار والأقوال الجاهزة سلفاً.

وهذا ما ينتظرنا أيضاً في كتابه الشعري الأخير، "شيءٌ آخر تماماً"، وإن اختلف بموضوعه ومحرّكات كتابته عن كتابيه السابقين، مما كان يمكن أن يفسّر عنوانه، لولا أن كلارو لم يقصد به "شيئاً آخر تماماً" يلخّص مضمونه ومسعاه على أفضل وجه، بمعزل عن أي مقارنة بما سبقه. كتاب يتوقف فيه عند أشياء مادية، عادية، تحيط بالإنسان في حياته اليومية (سكين، وسادة، لمبة، مسمار، مفتاح...)، راصداً لها نصوصاً قصيرة، مكتوبة بلغة معتمة ودقيقة، تعبّر عن قلق تجاهها، وتمدّها بالحياة، وبحضور غريب، ملغّز.

طبيعة هذه النصوص، التي تسيّر نظرة مهيبة، مروعة، على الاشياء المتأمَّل فيها، وهلوسات، تستحضر عوالم كافكا. وحول مسعاه فيها، أشار كلارو: "بدلاً من عزل الشيء واستثمار طبيعته الدقيقة، أحاول استنطاقه، قولبته بنزواتنا، مقاربته كشيء حيّ، حيواني". بعبارة أخرى، لا يرى الشاعر في الشيء، "المادة أو الشكل، بل إمكانات وتصورات مستحيلة"، معاملاً إياه بلا مراعاة، ودافعاً إياه إلى الانقلاب على القارئ.

اقرأ المزيد

هكذا، ومن خلال 52 قصيدة نثر، يستكشف كلارو مستقبل الأشياء برصانة لا تخلو من فكاهة أحياناً، الأمر الذي يستحضر أيضاً عمل فرنسيس بونج. لكن كلارو يتميّز عن مواطنه في فكرة أن "هذا الواقع الذي يحيط بنا هو دائماً على وشك ملامسة التوحش"، مما يخلق فوراً علاقة مبلبِلة مع أشيائه، تفضي أحياناً إلى انقلابات فجائية تعرّي هشاشتنا وارتهاننا لهذه الأشياء: "لسنا نحن من يرتّب السرير، بل السرير هو مَن يرتّبنا". بالتالي، يختلف مسعى كلارو في "شيء آخر تماماً" عن مسعى بونج في "الإنحياز للأشياء" (1942)، في عدم احتفائه بأشياء متواضعة، مألوفة ومنسية، أو سجينة نظرتنا المنمّطة عليها، بغية ردّ جوهرها وكرامتها إليها. فغايته القبض على الواقع انطلاقاً من أشياء دالّة فيه تقود إلى "مركز الزلزال الحيوي" لكتابته. أشياء تؤدي فقط دور المرآة الكاشفة لحقيقة مختلفة تماماً.

وفعلاً، تمنحنا هذه النصوص الانطباع، لدى مطالعتها، بالغوص في قلب أحلامٍ غريبة، مقلقِة، وأحياناً كابوسية، تنقلب فيها أشياء واقعنا اليومي علينا، بينما تمسك كلمات النصوص بنا وتعنّفنا، مبددةً أمامنا أي فرصة للإفلات من تسلسلها، مما يجعل من قراءتها تجربة فريدة من نوعها. نصوص تلقي نظرة شعرية، فلسفية، على هذه الأشياء، تحوّلها كلياً تحت أنظارنا، وذلك بدءاً بعناوينها الدالّة: "سرّ السكين"، "تماس الظل"، "استبداد الحطبة"، "النشأة الكونية للمبة"، "عنف الباب"، "فينومينولوجيا الصابون"... نظرة، بتشريحها الغريب والعميق لهذه الأشياء، تسائل ببصيرة قاسية وساخرة تلك العلاقة المنحرفة التي نقيمها مع أنفسنا ومع العالم. ولأن صاحبها لا يثق بالعين "التي لا تتقن سوى رؤية نطاق الأشياء"، يفضّل الاستسلام لهلوساته التي تمنحه، على نحو مفارق، إدراكاً أكثر دقة للواقع.

ولأننا "كائنات خوف"، نغشّ ونكذب للمضي قدماً في الحياة، ونسيان زوالنا المقلِق، وتجنُّب التفكير في عنف الموت، يطرح الشاعر علينا في واحد من نصوصه سؤالين يلخّصان مسعاه العميق في هذا الكتاب، وفي جميع كتبه السابقة: "ماذا سيحدث إن توقّفنا عن التظاهر، إن أسقطنا الأقنعة، إن لم نعد نبذل عناء التكاذب، المضني ولكن المبهج؟ كيف ستكون هذه الحياة، مجرَّدة من المظاهر والادعاءات والمخاتلات؟".

كاتب رفض منذ البداية راحة الوهم، يتحاور كلارو في هذا الديوان، بألمعية فكرية مصبوعة بفكاهة سوداء ساخرة، مع ذلك الظل "الذي يدفعك إلى الأمام، ولكن نحو مكانٍ لا تتعرّف إليه إلا بعد فوات الأوان".

المزيد من ثقافة