ملخص
"سيرة المملوك عنطزة" يسرد وقائع مذبحة القلعة في فترة محمد علي باشا
لم يكن الشكل الأدبي وحده، مظهر التنوع في أعمال الكاتب المصري النوبي حجاج أدول، لا سيما وأنه كتب الرواية، والمسرحية، والقصة القصيرة، والنقد الفني، لكن تنوعاً آخر بدا في طبيعة سرده، الذي تنوع بين الواقعية، والعجائبية، فضلاً عن محاولاته العديدة لاستثمار التاريخ. وعلى رغم هذا الزخم والتنوع، ظل البعد الاجتماعي؛ الملمح الأبرز، والقاسم المشترك، الذي يجمع أعماله الأدبية. وروايته الأحدث "سيرة المملوك عنطزة" (دار كتوبيا – الإسكندرية)، تعد امتداداً لمشروعه السردي، الذي لم ينفك يطرح قضايا الفقر، والتفاوت الطبقي، والتمييز، والقهر، والاضطهاد. اختار الكاتب فترة حكم محمد علي باشا لمصر، فضاءً زمنياً للأحداث. واستثمر حادثة مذبحة القلعة، التي وقعت عام 1811. وقام خلالها الوالي الألباني -من خلال الحيلة- بقتل المئات من المماليك، لتكون هذه الحادثة، المحطة الأولى في الرحلة السردية، التي مزج فيها أدول بين الحقيقة والتخييل، فقدَّر لشخصيته المتخيَّلة "المملوك عنطزة"؛ النجاة من المذبحة.
صورة مغايرة للمملوك
كما يشي عنوان النص وعتبته الأولى، لعب المملوك عنطزة دور البطولة في الأحداث، لكن الكاتب منحه سمات تختلف عن الصورة النمطية للمماليك. فعلى رغم تشابه طفولته الأولى، وطريقة وصوله إلى الجيش، ثم تأهيله عبر تعليمه أصول الدين، وتدريبه على النزال؛ مع السائد والمتبع في ذلك الوقت، في جيوش المماليك، فإن عنطزة لم يكن جندياً قوياً ومحارباً، كما هو معهود في المملوك، وإنما كان جباناً، معطوب العقل. ولم يكن انضمامه إلى جنود قصر سيده "سومر بك"، سوى للتسلية والتسرية، من خلال السخرية منه، والتندر عليه. هذه الصورة غير النمطية، أبرزها الكاتب عبر تقنية الاسترجاع، الذي تخلل نسقه الأفقي في السرد، فكانت السيرة الأولى للمملوك، فاصلاً بين نجاته من المذبحة، وبين مواصلة رحلة الهروب، التي قادها حماره إلى واحدة من القرى الفقيرة في مصر، لتبدأ أحداث تكتسي بالأسى والطرافة في آن. وتبرز القضية الأساسية للنص، التي تتصل بالعلاقة التاريخية الشائكة، بين الحاكم المترف، والمحكوم المعدم. ويطرح عبر رحلة هروب عنطزة، ونزوحه من الغنى والترف، إلى الفقر المدقع وشظف العيش؛ سؤالاً جدلياً... هل يحتمل من يعيشون في قمة الهرم الاجتماعي، الحياة القاسية التي فرضوها على من يعيشون في القاع؟
شخوص مقتنصة
يعمد أدول دائماً إلى إهداء أعماله لشخصيات مؤثرة في المجتمع العربي، إلا إن إهداءه هذه المرة لمحمود مليجي، لم يكن لقيمة الفنان الراحل، وتاريخه الفني المؤثر وحسب، ولكن كانت له أيضاً علاقة وثيقة بالنص، فقد اقتنص شخصية "محمد أبو سويلم"، من رواية "الأرض" للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي، والتي أدّاها المليجي في فيلم يحمل الاسم نفسه، ببراعة حفرتها في الذاكرة الجمعية المصرية، ثم أعاد إنتاجها كشخصية ثانوية في بنائه الروائي، مستفيداً مما تمنحه من دلالات التمرد، ومقاومة الظلم. كما استخدم الجملة الشهيرة للفنان الراحل، في الفيلم المأخوذ عن الرواية: "كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة"؛ لتعزيز هذا الاقتناص، وما يحيل إليه من دلالات. كذلك رصد التقابل بين شخصية "أبو سويلم" وغيره من الفلاحين، والتقابل بينه وبين شخصية العمدة، والتقابل بين الفلاحين المصريين والمماليك. وأبرز عبر هذا التقابل تناقضات صارخة، لعالم يحوي في طياته الفقر والثراء، الذل والاستعلاء، الشجاعة والجبن، التمرد والاستسلام، النقاء والخبث، النبل والدناءة، التسلط والانسحاق.
استلهام التراث
في هذا النص، كما في كل أعمال حجاج أدول التي تدور أحداثها في العصر المملوكي، مثل "خوندا حمرا"، "ثلاث برتقالات مملوكية"، "غزلية القمر"، يكتسي السرد بصبغة تراثية، لم تتجل كحُلي تزيد من جمالية السرد وحسب، وإنما وُظفت لتحقيق جدلية التفاعل بين القديم والحديث، في ظل صيرورة التاريخ، وإعادة إنتاج دوراته المتعاقبة، التي تحمل المآسي نفسها، وتنوء بالعطب ذاته. وقد بدت الروح التراثية للنص عبر ما تناثر في طياته من محسنات بديعية: "إن انكشفت فستأتيك وكسة وتنتكس نكسة"، "انطلق الحصانان في الفضاء، فوق ظهريهما المملوك الخطير، والمملوك الأبله الحقير". وكذلك عبر حضور الحكّاء، أو الراوي الشعبي في شخصية "عم الشرقاوي"، الذي كان يسلي زبائن قهوته، بحكايات شخصيات تراثية شهيرة، مثل حمزة البهلوان وعلي الزيبق. وبدت مرة أخرى عبر استدعاء عبارات ومفردات تراثية، مثل مفردة الطباق التي كانت تطلق على ثكنات يسكنها المماليك. وعززت هذه الصبغة التراثية حالة التماهي مع الأحداث، وزادت من تورط القارئ في عالم النص. وعززت تقنيات الوصف من هذا التورط، لا سيما وأنه كان أداة ضرورية، تتسق مع رغبة الكاتب في رصد فضاءات انقضت، قبل أكثر من قرنين من الزمان. وقد اعتمد أدول المستوى التفسيري من الوصف، لشرح غرور المماليك، وتعقيد مسائل الحكم، والقهر والفقر الذي يعيشه الفلاحون... "ضوء النهار تسلل من كوة صغيرة مخرومة في جدار البيت. نظر حوله. ما أحس به تأكد منه. البيت عفونته في أقصى وأعمق طيات العفونة. طيني مطين، والسقف أفرع خشبية متباينة الطول والقصر. سقف لم ير مثله من قبل. كأنه أمواج نهر، فهل سيفيض وسيقع حالاً أم آجلاً، الرائحة اعتادها رغماً عن أنفه، أما الذباب فلم يستطع تقبله" (ص41).
عمد الكاتب لبلوغ غاياته ورؤاه من الطريق الأقصر، الذي تتيحه الطرافة والسخرية. والتي عززت في الوقت نفسه من جاذبية النسيج. ولم تقتصر الطرافة على أثر اللفظ فقط، وإنما بدت في رسم الأحداث والشخوص، لا سيما شخصية المملوك الأبله، وكذلك شخصية "صيصة"، التي ابتعد بها عن الصورة النمطية للمرأة الريفية. فالفتاة التي تعاني فقر الحال، والجمال أيضاً، على نحو جعلها لا هي امرأة ولا رجل، تسيطر على أسرتها وتقودها، وتكون صاحبة الرأي والكلمة الأخيرة، وتناور العمدة، وتهادن نائب المملوك المهيمن، وتقرر مصير أفراد عائلتها، في حين ليس لأبيها أو أخيها حول ولا حيلة. ومثلما أنتج الكاتب الطرافة من ملامح الشخصيات، غلف بها صراعاتهم، لا سيما تلك التي احتدمت بين "صيصة" والعمدة، وبين "صيصة" وزوجة أخيها "ست الدار"، وبينها وبين "عنطزة ": "عادت تحمل خيزرانة قوية، وهي تتحفز لتبارز عنطزة الذي فوجئ بهذه الحركات الفلاحية الجماعية الجريئة، فارتعب وبرقت عيناه وارتعش جسده، فكادت صيصة وأبوها وأخوها أن يضحكوا على ارتعاشاته" (ص44).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك اكتسى الصراع بين الفلاحين من جهة، والجابي والعمدة والمماليك من جهة أخرى بالطرافة ذاتها، التي خلخلت تراجيديا القهر والإذلال: "أما ست الدار طُرحت أرضاً ورفعت ساقاها، استمتع الخفر والجابي والعمدة بالتمعن في ساقيها الجميلتين... ضربات بسيطة على باطن قدميها، أقرت ما أقره زوجها، لكنها تبحرت أكثر منه" (ص102).
إسقاطات ورؤى
اعتمد الكاتب سرداً سلساً، أكسبه سمات سينمائية، فاستطاع توظيف الصورة البصرية في خدمة الصورة السردية، وتجسيد الأحداث والشخوص على مسرح الخيال. كما استعان في غير موضع بعين الكاميرا، التي رصد من خلالها حركة البطل في الحقول والطرق الواسعة، لينتهي إلى حيز محدود في البيت الطيني المعدم، الذي ساقه إليه الحمار، وكان مسرحاً لما تواتر بعد ذلك من أحداث.
استعان أيضاً بأسلوب الوقفة كتقنية سينمائية أخرى، برزت خلال مساحات الوصف والحوار، وقد أسهمت هذه الوقفات في نقل طبائع الشخوص، وإتاحة استراحات للقارئ. وعززت كذلك من طرافة السرد "حمار. يا حمار. أنا لا أستطيع السباحة. توقف يا حمار سنسقط أنا وأنت" (ص39).
كما مارس أدول نوعاً من الإسقاط الاجتماعي، والسياسي، عبر الفضاء التاريخي للأحداث. فطرق قضايا الفقر، والتفاوت الطبقي، والفساد. وحاول رصد طبيعة المصريين في مواجهة الظلم على مدى تاريخهم، وجنوحهم للخوف والخنوع، التسويف والانتظار، والدعاء. ما جعل من القهر مصيراً ثابتاً، تتجرعه الأجيال المتعاقبة منهم، لكنهم في الوقت نفسه ينتفضون حين ينقضي الأمل في انتفاضتهم، ودائماً ما تنبت الشجاعة، وسط كل الخنوع "تاريخنا الطويل فيه الكثير من ظلمنا نحن معشر الفلاحين، والظلمة هم المماليك ومن يشبهون المماليك" (ص133).
واستخدم تقنية التكرار في عبارة عنطزة: "ليتني مت يوم المذبحة"، وأبرز التحولات التي طرأت عليه، بعد إقامته بين الفلاحين، ومصيره والنهاية التي آل إليها، ليجيب عن سؤال ضمني، طرحه نزوح المملوك من طبقة المترفين إلى طبقة المعدمين: هل يحتمل المماليك العيش في الواقع البائس نفسه الذي فرضوه على المحكومين؟