إذا كنت محباً للخزف وتبحث عن هذا الإحساس الذي تحتفظ فيه الآنية الخزفية بروح الطبيعة وأثرها، فعليك أن تطالع قطعة من خزف "ياكيشميه"، فربما ستدرك حينها كيف يمكن لإناء خزفي أن يحتفظ في داخله برائحة الأرض ووهج النار وطراوة الماء. خزف ياكيشميه هو نوع من الخزف اشتُهرت به اليابان ويرتبط إلى حد كبير بالتراث والثقافة اليابانية. تتم صناعة هذا النوع من الخزف وفقاً لأساليب قديمة وبدائية، لكنها تحتاج إلى صبر وتمرس كبير، فكل خطوة من خطوات التنفيذ، بداية من تشكيل الطين على هيئة آنية وحتى الانتهاء من حرقها، يحتاج إلى تمرس وتدريب مكثف، وكلها مراحل تنطوي على الكثير من التفاصيل، ولا تخلو بالطبع من الصعوبة والتعقيد. أسباب كثيرة تجعل هذا النوع من الخزف واحداً من أكثر أنواع الخزف حول العالم صلابة وندرة.
مجموعة كبيرة من هذه الآنية الخزفية التي تعود لعصور مختلفة تم عرضها أخيراً في قاعة "أفق واحد" بالقاهرة تحت عنوات "ياكيشميه... تحول الأرض". افتتح المعرض سفير اليابان في القاهرة ماساكي نوكي، ومدير مؤسسة اليابان يو فوكازاوا. يضم المعرض نماذج من خزف ياكيشميه التي يعود بعضها إلى القرن الخامس والسادس عشر الميلادي، مروراً بالقرون الوسطى، وحتى وقتنا المعاصر. بعض القطع المعروضة في القاهرة تم استعارتها من متحفي طوكيو وكيوتو الوطنيين.
يرجع تاريخ خزف ياكيشميه إلى منتصف القرن الرابع أو الخامس الميلادي في اليابان، وتتم صناعته وفقاً لطرق معقدة تختلف عن الطرق المتعارف عليها في صناعة الخزف حول العالم، فيتم تشكيله وحرقه داخل أفران تقليدية وفقاً للطريقة البدائية التي كانت متبعة في اليابان منذ مئات السنين. في هذه الأفران يتم إشعال النيران بوقود من خشب الغابات، وفي حين لا يستمر حرق الخزف التقليدي سوى يوم أو نصف يوم، وربما بعض ساعات، تستمر عملية الحرق في أفران ياكيشميه لأيام، وقد تتجاوز الأسبوع أحياناً، حيث يتعرض الخزف فيها لدرجات حرارة عالية جداً. تحت هذه الظروف الاستثائية التي تتعرض لها التشكيلات الطينية تتفاعل الخامة مع النيران والرماد والدخان المتصاعد، حتى تتماسك ويتحول لونها بفعل الحرارة الشديدة، ومن دون استخدام أكاسيد التلوين التقليدية. يمكنك أن تلمح تأثير هذا التعرض المكثف للنيران على سطح تلك الآنية على هيئة تأثيرات لونية عشوائية بفعل رماد الفرن وألسنة اللهب وتفاوت كثافة الطمي، وتأثير الأبخرة المتصاعدة، ما يضفي طابعاً خاصاً على تلك الآنية الفريدة.
خصوصية يابانية
ترسخت هذه التقنية بداية من القرن الثاني عشر وحتى القرن السابع عشر الميلادي، حتى أصبحت مستخدمة كجزء أساسي في عملية الانتاج في مراكز الخزف الرئيسية في اليابان، ومنها "بيزنوشجاراكي" و"توكونامه". ويعدّ تقليد استخدام أواني "ياكيشميه" في تقديم الطعام والشراب أمراً تتفرد به اليابان كما يقول مدير مؤسسة اليابان يو فوكازاوا. هذا على الرغم من أن أسلوب "ياكيشميه" هو من أكثر طرق الانتاج بدائية. الكثير من الأواني الخزفية المصنوعة بالطرق التقليدية يتم تزجيجها بواسطة خامات أخرى من بينها الأكاسيد اللونية، ليس فقط لزخرفتها أو تلوينها، بل لدعمها بسطح أملس مقاوم للماء أيضاً. أما خزف ياكيشميه فيتفرد بأنه لا يحتاج إلى تلك الإضافات، فالحرارة العالية التي يتعرض لها تجعله متماسكاً بإحكام، لدرجة أنه يصبح مقاوماً للماء خلافاً لأنواع الخزف الأخرى. لهذا يعد جزءاً رئيسياً من أدوات المائدة اليابانية، واستمر انتاجه دون انقطاع منذ العصور الوسطى في اليابان وحتى اليوم.
يقام هذا المعرض تحت رعاية مؤسسة اليابان، وهي هيئة مستقلة تهدف إلى التعريف بالثقافة اليابانية، وتعزيز التبادل الثقافي بين اليابان وبقية دول العالم. تنظم المؤسسة بصورة مستمرة معارض متجولة حول العالم، وتغطي هذه المعارض مجموعة كبيرة من المجالات، كالحرف اليدوية والرسم والتصوير والعمارة والتصميم وغيرها. في هذا المعرض يتم تقديم نوعين من أعمال الياكشميه التي لها استخدامات عملية، يتمثل النوع الأول في الأدوات المستخدمة في مراسم تقديم الشاي، أو ما يطلق عليها "تشانويو" الذي يعد ذا تأثير كبير على الثقافة التقليدية اليابانية، وكذلك بعض الأواني المستخدمة في الحياة اليومية لليابانيين. يشمل النوع الآخر من المعروضات مجموعة الأعمال الفنية المتنوعة التي صنعها خزافون معاصرون باستخدام تقنيات خزف "ياكيشميه". نتوقف هنا أمام تلك القطع المعاصرة طويلاً، فهي قطع تتمتع بالدقة والصلابة في آن. واستطاع الخزافون المعاصرون الجمع بين عدد من التقنيات المختلفة في التشكيل الخزفي مستفيدين في نفس الوقت من الطريقة التقليدية لصناعة آنية ياكيشميه، ليقدموا لنا في النهاية أشكالاً تتسم بالمهارة والدقة الشديدة. في هذه التشكيلات المعاصرة تجاوز الفنانون الأشكال التقليدية للآنية الخزفية بهيئتها المتعارف عليها، فجائت تلك التشكيلات أقرب إلى المنحوتات منها إلى الخزف. معرض "ياكيشميه– تحول الأرض" يمزج بين الماضي والحاضر ويسلط الضوء على واحد من أهم التجليات الحضارية للمجتمع والثقافة اليابانية، ويعد فرصة سانحة لمحبي فن الخزف للتعرف على واحدة من أهم وأندر تقنيات صناعة الخزف حول العالم.