بعد أن تنقلت روائع الأوركسترا السعودية بين المدن العالمية بهدف تعريف المجتمع العالمي بروائع الموسيقى والفنون الأدائية السعودية لتعزيز التبادل الثقافي الدولي، شهدت عاصمة الثقافة العالمية باريس أخيراً "معرض الثقافة السعودية" الذي يهدف إلى تسليط الضوء على أهم المجالات الإبداعية السعودية المتميزة، وتسويقها عالمياً وإبراز الثقافة السعودية بجميع مكوناتها عبر تاريخها الممتد لمئات السنين.
جاء ذلك من خلال تقديم ندوات حوارية حول الأدب السعودي، وجهود الترجمة بين البلدين، والتلاقح الثقافي الموسيقي، وحفظ إرث فنون الطهي عبر الكتب المتخصصة، والتعريف بمواقع التراث العالمي في السعودية، بمشاركة هيئات وكيانات ثقافية تابعة لوزارة الثقافة وعدد من الأدباء والروائيين السعوديين.
وتضمن المعرض مجموعة من الفعاليات والأنشطة التي تمثل الثقافة السعودية بمكوناتها المختلفة، بغية تنويع التبادل الحضاري، وتجسير الأفكار بين الدولتين، إلى جانب تعزيز حضور المبدعين السعوديين في المحافل الثقافية المحلية والعالمية.
وشهد الأسبوع الأول من المعرض إقامة أربع ندوات حوارية حول الرواية السعودية وصورة الآخر، وشخصيات الرواية في الأدب السعودي والفرنسي، ومستقبل صناعة الأزياء المحلية، وأمسيتين شعريتين، إضافة إلى عرض سبعة أفلام قصيرة من مسابقة ضوء لدعم الأفلام.
أما الأسبوع الثاني فشهد إقامة ثماني ندوات، وثلاث أمسيات شعرية، وعرض خمسة أفلام قصيرة إلى جانب عرض الفيلم الوثائقي "طروق" الذي أنتجته هيئة الموسيقى وهيئة المسرح والفنون الأدائية، وجلسة حوارية عن ميثاق الملك سلمان العمراني، وثلاثة عروض حول الحرف اليدوية بوجهها الجديد، واللغة العامية للعمارة، إضافة إلى بناء القدرات والتقنيات في التراث، واستخدام التكنولوجيا لبناء القدرات في مجال التراث.
معرض الثقافة السعودية في باريس
وعلق المتخصص في الأدب والنقد والدراسات الثقافية علي بن زعلة خلال حديثه مع "اندبندنت عربية" على هذا التحول في عولمة الثقافة السعودية، قائلاً "إذا كانت باريس تعد مركزاً حضارياً عالمياً لدى الغرب فإن السعودية تعد مركز إشعاع ومنارة فكرية وحضارية وثقافية في الشرق، والسعودية الوريث الأول والرسمي والأمثل للحضارة العربية الإسلامية بجميع اتجاهاتها سواء من العمق التاريخي أو الإرث الحضاري أو الدين الإسلامي الذي عمت آثاره الدنيا بالسلام والتسامح والتعايش لقرون".
وذكر أن وجود معرض يجمع الثقافة السعودية في قلب العاصمة الفرنسية باريس "يؤكد قيمة التسامح والرغبة الأساسية لدى السعودية وحضارتها وثقافتها في إشاعة أسلوب الحوار والنقاش كجسر تعبر من خلاله الثقافات، ويتم التبادل الثقافي والحضاري من وإلى الشرق والغرب عبر الأديان واللغات والثقافات والحضارات".
ورأى أن وجود مثل هذه المعارض ضرورة ورسالة اضطلعت بها وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة وعدد من الجهات المشاركة من الهيئات التابعة للوزارة بفريق عمل سعودي موهوب، قدم بعضاً من ملامح الثقافة والحضارة السعودية بأجمل وجهة في باريس.
تيري موجيه
وكان معرض الثقافة السعودية الذي أقيم في باريس ضم كذلك معرضاً فوتوغرافياً خاصاً بالمصور الفوتوغرافي الفرنسي تيري موجيه، يشمل عرضاً لأبرز أعماله في جنوب السعودية وكتبه المصورة التي وثق من خلالها مظاهر الثقافة والحياة في فترة الثمانينيات الميلادية، حين وثق تيري موجيه موروث السعودية التراثي والحضاري فوتوغرافياً، بمجموع صور بلغ نحو 10 آلاف صورة فوتوغرافية، جمعها وأصدرها في كتب تبرز الطراز العمراني الذي تميزت به مناطق جنوب السعودية حينها، وإرثها التاريخي العريق الممتد لآلاف السنين، والحياة الاجتماعية وأبرز مظاهر العادات والتقاليد التي كانت تميز أهالي جنوب السعودية.
تنوع الثقافة السعودية
وقال المؤرخ السعودي محمد آل زلفة خلال حديثه مع "اندبندنت عربية" إن التنوع الثقافي في المملكة شيء ملموس وهو "إثراء للثقافة السعودية بالشكل العام لأن السعودية عبارة عن قارة وبيئات مختلفة ولكل بيئة ثقافتها، واستطاعت السعودية خلال وحدتها أن تدمج كل هذه الثقافات إلى حد كبير تحت مسمى الثقافة السعودية مع الاحتفاظ بخصوصيات ثقافة كل منطقة لأنها إثراء للثقافة الوطنية بالشكل العام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلق آل زلفة على إبراز الثقافة السعودية لدى المجتمعات الغربية، بأن البلاد "تأخرت كثيراً في إبراز هذه الثقافة ودراستها وتوثيقها وإعطائها ما يجب أن يعطى أولاً للسعودية ثم أبنائها، كما أن هناك مجتمعات غربية وعربية من حولنا وفي بلدان صغيرة، لكنها أبرزت ثقافتها بشكل ملموس من خلال المسرح والمسلسلات والسينما، لدرجة أن أصبح المواطن السعودي يعرف كثيراً عن بعض البلدان وثقافتها وتاريخها وتراثها أكثر مما يعرف عن ثقافة وتاريخ بلده"، إلا أنه أبدى تفاؤلاً بأن تلك المرحلة انتهت، وأن ذلك الخطأ بدأ استدراكه.
المطبخ السعودي
غاب المطبخ السعودي في الماضي عن المشهد الثقافي في وقت كان الشعر والأدب هما المهيمنين على الساحة الثقافية، بينما تشتهر كل منطقة في السعودية بأطباقها الخاصة التي تعكس عادات وتقاليد بلدها، بحسب موروثات شعبية تميزها عن غيرها. وتختلف الموائد السعودية باختلاف المناخ وطبيعة الحياة ونوعية النباتات في كل منطقة، وعن ذلك يشير آل زلفة إلى أن سبب ذلك يعود إلى أن "المرأة كانت العنصر الأهم الغائب على مدى 40 عاماً في إبراز الثقافة السعودية، إذ كان العنصر النسائي غير موجود على الساحة الثقافية، كما أن المطبخ الذي يعد صنعة المرأة في الدرجة الأولى لم تكن نساؤه السعوديات يستطعن الحديث عنه في المرحلة الماضية".
الأوركسترا السعودية
من جانب آخر لتعريف المجتمع العالمي بالثقافة السعودية، تنقلت "روائع الأوركسترا السعودية" بين المدن العالمية، إذ بدأت من العاصمة الفرنسية باريس، ثم انتقلت إلى مدينة مكسيكو سيتي بالولايات المتحدة المكسيكية، ثم مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية لترسم الأوركسترا السعودية خلال عروضها صورة لبلد يملك إرثاً فنياً متنوعاً وغنياً، ومزيجاً من الموسيقى التقليدية والفولكلورية، إلى جانب رقصات من مختلف أنحاء السعودية وفنون متنوعة ومتعددة بامتداد رقعتها ولكل منها أزياؤها وعاداتها وتقاليدها الموسيقية الخاصة.
ويعود تاريخ الأوركسترا السعودية إلى أربعينيات القرن الماضي في 1942 عندما كلف وزير الدفاع السعودي آنذاك الأمير منصور بن عبدالعزيز، الفنان السعودي طارق عبدالحكيم وأوائل الملحنين السعوديين بتشكيل فرقة موسيقية عسكرية في السعودية، كانت هي نواة لرحلة فنية تنامت مع الوقت، وخلقت هوية موسيقية سعودية فريدة.
في غضون ذلك أوفد عبدالحكيم إلى مصر عام 1952 للبدء في الترتيبات اللازمة لتشكيل فرقة أوركسترا موسيقية سعودية، والتقى خلال رحلته العلمية والتدريبية نخبة من فناني مصر، وطور من خبراته ومعارفه بالاحتكاك مع القامات الموسيقية المصرية والعربية، مما كان له الأثر البالغ في صوغ ذائقته، وبناء مشواره الفني العريض وبعودته من رحلة شملت لبنان ومصر، بدأ عبدالحكيم بتأسيس أول معهد لموسيقى الجيش، وتشكيل فرقة موسيقية كانت فاتحة عهد موسيقي وفني مزدهر في السعودية.