ملخص
متى يكون هناك شريك إسرائيلي في عملية سلام؟
التحرك الأميركي الذي يطرح الآن مجدداً فكرة الدولة الفلسطينية، والذي لم يتأكد بعد مدى جديته، لا بد أن يثير التساؤل عما إذا كانت هناك قيادة إسرائيلية مستعدة للسلام، وهو سؤال افتراضي بالطبع لأنه لا تبدو بعد ضغوط أميركية كافية توازن الموقف المنحاز الحاد الذي بدأته واشنطن منذ بداية الأزمة الراهنة.
منذ فشل كل جهود التسوية في أعقاب أوسلو عادت إسرائيل إلى طرح سرديتها التقليدية بأنه لا يوجد طرف فلسطيني يستطيع أن يقود تسوية وعملية سلام جادة، حتى الراحل ياسر عرفات ومهندس أوسلو محمود عباس نفسه وصفتهما بأنهما غير جديرين بهذه الصفة، وهي استراتيجية دائمة تعود لبدايات النضال الفلسطيني، ولم تتوقف إلا لفترة وجيزة عند الإعلان، وعادت مجدداً، ووصلت الأمور إلى ما نراه الآن.
ومع إعلان "حماس" في 2017 عن استعدادها لقبول دولة فلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، أي نفس مرجعية مبادرة السلام العربية وروح أوسلو في الأقل، ما زالت السردية الإسرائيلية كما هي، ومفادها عدم وجود طرف فلسطيني يمكن أن يكون شريكاً في عملية سلام.
دروس التاريخ الإسرائيلية
الحقيقة أن هذه السردية الإسرائيلية الزائفة هي عكس الحقيقة تماماً، لأنه عبر تاريخ الدولة الإسرائيلية لم تكن هناك قيادة واحدة طرحت فكرة التعايش والسلام كخيار استراتيجي، بل تمت كل اتفاقات السلام مع قيادات متشددة تحت تأثير ظروف معقدة وملتبسة.
فمناحم بيغن من وقع أشهر اتفاقات السلام كان زعيم الجناح المتشدد في حزب "الليكود"، وكان تلميذ جابوتنسكي داعية التطرف الصهيوني، بل ومن قادة الميليشيات الصهيونية التي قادت عمليات الإرهاب والترويع في حق الشعب الفلسطيني لسنوات طويلة، حتى وصل إلى أنه كان محل عقوبات أطراف دولية وغربية عديدة جراء هذه الجرائم، في حين أن وصوله إلى الحكم نتاجاً لهزيمة 1973، وربما استعداداً وتوقعاً لضغوط عملية سلام، وهو ما حدث بالفعل.
على رغم أن هذه الاتفاقات كانت محل تباينات كثيرة في وجهات النظر المصرية والعربية، فإن مجرد فكرة الانسحاب من أراضٍ محتلة ومصرية 100 في المئة تاريخياً سببت له أزمة نفسية عميقة ودعته لاعتزال الحياة العامة، مما يعني أن فكر هذا التيار لا يتعلق فقط بفلسطين، بل برغبات انتقام وأوهام عميقة لم يثبتها التاريخ أبداً، أخذاً في الاعتبار الرواية التوراتية عن سيناء.
وتعاقب على حكم إسرائيل بعد ذلك تبادلات بين حزبي "الليكود" و"العمل" حتى وصلنا إلى محطة أوسلو حين كان رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين الذي لم يكن له أيضاً تاريخ في دعوات السلام، بل صاحب الموقف المعروف بكسر عظام الشباب والأطفال الفلسطينيين في الانتفاضة الفلسطينية، لكن مرة أخرى ظروف دولية وضغوط أميركية واتفاقات ملتبسة مليئة بالثغرات كانت فرصة، ومع كل ذلك اغتيل رابين لوجود شبهة عند متشددي إسرائيل بأن هذه العملية (أوسلو) قبلت فكرة وجود كيان فلسطيني، وأنها قد تقود إلى تسوية وسلمية واحتمالات دولة فلسطينية.
بيريز ومشروعات السلام
ومن بين كل زعماء إسرائيل كان الرئيس الراحل شيمون بيريز وحده الذي استخدم هذا التعبير، أي السلام، منذ حرب 1967، ولكن قبل هذا من الإنصاف القول إن الكلمة كانت مطروحة قبل حرب أكتوبر (تشرين الأول) في شكل عدد من المشروعات والطروحات هدفها تحقيق شكل من الأمر الواقع وإعادة رسم خرائط المنطقة بصورة تضمن تصفية القضية الفلسطينية، وكذلك عقد أشكال من السلام مع الدول العربية المجاورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اختفت هذه المشروعات، وأصبحت من ضمن الطروحات الانتخابية لبعض ساسة إسرائيل في بعض سنوات الربع الأخير من القرن الماضي، وطرح بعضها خلال عملية مدريد، وكان معظمها يركز على محاور اقتصادية لربط دول المنطقة بالاقتصاد الإسرائيلي، ووحده بيريز الذي كان له النهج الواقعي الذي أدى إلى اتفاق أوسلو التي أثبتت التطورات أنها حققت مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى وقادت الجانب الفلسطيني إلى ورطته الراهنة، وبالمناسبة بيريز أيضاً قبل في مرحلة تالية التحالف مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو.
خلال الانتفاضات الفلسطينية ظهرت حركة السلام الإسرائيلية بقيادة شلومو أفنيري وحاولت إحداث قدر من التأثير خلال الانتخابات والحياة السياسية في الربع الأخير من القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، وبعد مبادرة السلام العربية أطلق عدد من الساسة والشخصيات الإسرائيلية مبادرة للسلام تبلورت في 2011، وشارك في التوقيع عليها شخصيات بارزة منهم يعقوب ييري وعامي أياليون الرئيسان السابقان لجهاز "الشاباك" ورئيس الموساد السابق داني ياتوم، وكذلك الوزير السابق موشيه شاحال، ونجل رئيس الوزراء الراحل إسحاق رابين يوفال رابين.
ووصل العدد إلى نحو 40 شخصاً من اليسار دون قيادة حزبية واحدة من أحزاب اليسار التي ضعفت، ولا حتى من شخصية بيريز الذي كان له قدر من الحضور على رغم تقدم سنه آنذاك، إذ كان رئيساً للدولة، فهذه المبادرة بالمعايير الإسرائيلية متقدمة تقبل الانسحاب من غالب أراضي الضفة الغربية ومقابل الاعتراف في حق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة تتحدث عن اليهود النازحين من العالم العربي، وتدعو إلى أن يكون الحرم القدسي أرضاً محايدة بين فلسطين وإسرائيل والاحتفاظ بالحي اليهودي في المدينة القديمة داخل إسرائيل.
وعموماً، ليست القضية الرئيسة هي التفاصيل العديدة لهذه المبادرة، وما إذا كانت قابلة لأن تكون طرحاً تفاوضياً صالحاً للانطلاق منه، وهو أمر ممكن بقدر الإشارة إلى أنه لا يوجد لاعب سياسي واحد رئيس من المروجين لهذه الأفكار، وعلينا تذكر أن الصراع السياسي الدائر في إسرائيل منذ فترة يدور بين أقصى اليمين ويمين الوسط، وتكاد تكون كل التيارات اليسارية خارج اللعبة السياسية تماماً وبلا وزن انتخابي يذكر.
ويضاعف من معضلة إسرائيل أن أقوى زعيم سياسي نجح في البقاء كأطول رئيس وزراء، وهو نتنياهو يواجه منذ سنوات تهماً قوية بالفساد السياسي والمالي، ومقابل الاستمرار في الحكم والهرب من مصير غامض يزايد نتنياهو، واضطر إلى التحالف مع أقصى اليمين الديني المتشدد كما هو معروف، وحتى إذا انتهت الأزمة الراهنة بخروجه كما تشير التوقعات واستطلاعات الرأي فسيواجه المجتمع الإسرائيلي معضلة أن يمين الوسط الذي سيصل إلى الحكم على الأرجح لم يكن يوماً أيضاً من دعاة السلام الحقيقيين وليس لديه قيادة كاريزمية قادرة على صنع السلام.
يكشف تأمل التاريخ عن أن صنع السلام يحتاج إلى أحد نوعين من القادة، نوع مهزوم فيقبل التسوية ظالمة أو عادلة لحين تغير الظروف أو توازنات القوة أو يفتقر لأية بدائل، ونوع حكيم يدرك منطق التاريخ، وأنه لا شيء دائماً، وأبرز رواده نيلسون مانديلا ودي كليريك في جنوب أفريقيا.
كلا النموذجين لا يتوفر في إسرائيل، لا في الماضي ولا الحاضر، وليس واضحاً في المستقبل، ولكن تجربة عمليات السلام التي تمت منذ كامب ديفيد تشير إلى إمكانية تحقق هذا بضغط دولي وأميركي وداخلي إسرائيلي بفعل حرب أكتوبر، ثم الانتفاضة الفلسطينية.
وربما تكون الحرب الراهنة نموذجاً مشابهاً، وبخاصة أن تعثر أهداف إسرائيل من الحرب يعطي فرصة لطروحات سلام، ولكن لكي يصبح سلاماً حقيقياً مستقراً ستحتاج إسرائيل إلى ظهور قيادة قوية على قدر من الحكمة، وهو أمر لا توجد أية شواهد له حالياً، فضلاً عن أن السلام الحقيقي سيحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد الانحناء للضغوط والتلاعب بها كما حدث في أوسلو.