ملخص
آخر العبارات التي فاه بها الموسيقي النمسوي موتسارت وهو على فراش الموت مدركاً أن نهايته قد حانت
"لقد انتهيت قبل أن أتمكن من الاستمتاع بما أملكه من موهبة. ومع ذلك كانت الحياة حلوة ومساري المهني انطلق ببدايات بالغة السعادة، لكن المرء لا يمكنه أبداً أن يبدل ما كتبته له الأقدار. ما من إنسان في هذا الكون يمكنه أن يحسب أيامه بدقة، ولذا يجب عليه أن يتعلم كيف يستسلم لما شاءته له تلك الأقدار. فكل شيء سيسير كما تريد له العناية الإلهية أن يسير. وها أنذا أمام نهايتي الآن، وتلكم هي أغنية موتي الأخيرة التي لا ينبغي لي أن أرحل وأتركها غير مكتملة".
كانت هذه واحدة من آخر العبارات التي فاه بها وولفغانغ موتسارت وهو على فراش الموت مدركاً أن نهايته قد حانت. وكان ذلك في سبتمبر (أيلول) من عام 1791، وهو بالفعل سيسلم الروح بعد ذلك بأسابيع قليلة، وتحديداً في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه عند منتصف الليل تقريباً.
المؤسي في الأمر حقاً هو أنه مات معدماً على رغم إبداعه الفني الكبير وعبقريته. مات معدماً، ويكاد يكون وحيداً، حيث لم يودعه إلى مثواه الأخير سوى حفنة من الأقارب والمعارف. حتى زوجته الحبيبة كونستانس لم تتمكن من مرافقته، إذ كانت منهارة تماماً. وكان من حظها ذلك، إذ رحمتها الأقدار من رؤية جثمان زوجها الحبيب يلقى في حفرة عامة مع عشرات الجثث الأخرى. فالوباء كان مستشرياً، والموتى يتساقطون ولا مجال لمعاملة استثنائية.
أعمال أخيرة قبل النهاية
المعاملة الاستثنائية كانت قد أتت من جانب موتسارت نفسه. فهو تمكن قبل وفاته بقليل وبشيء من العون قدمه له مساعده الوفي سيستماير، من إنجاز واحدة من آخر الأوبرات التي كتبها في حياته، وهي بالطبع "رحمة تيتوس" التي لم يستغرقه العمل عليها سوى 18 يوماً كرسها لها فيما كان يحاول جهده إتمام "الجناز الأخير" الذي كان موصى عليه، كما أنجز ما كان يريد إنجازه بنفسه من تحفته الأخيرة "الناي السحري".
وهو لئن كان قد حقق هذين العملين الأخيرين ضمن إطار انتمائه إلى الماسونيين الأحرار، فإنه لحن "رحمة تيتوس" لأسباب تتعلق بحاجته وحاجة كونستانس إلى المال في أيام معاناته الأخيرة، وربما أيضاً لخجله من أن يرفض طلباً يتعلق باحتفالات تتويج الإمبراطور ليوبولد الثاني البافاري.
من هنا بدا راضياً عن نفسه حين أنجز ما تمكن من إنجازه من هذه الأوبرا تاركاً لمساعده أن يشتغل على بعض ألحانها الثانوية، لكن حزنه كان كبيراً جراء عدم قدرته على إكمال الجناز و"الناي السحري" العملين اللذين كان ينظر اليهما بكل جدية، وهو يعرف أنهما سيكونان وصيته الفنية، ولكن الفكرية أيضاً، الختامية، ولكن ذلكم ما شاءه له الحظ وأعلن إذعانه في النص الذي افتتحنا به هذا الكلام.
مؤلف مستعار
ولئن كنا نعرف كثيراً عن "الجناز" الذي سهر راعيه وصديق شيكانيدر على توفير جو ملائم له كي ينجزه على خير ما يرام إلى درجة أنه استأجر له كوخاً بعيداً من الصخب والوباء المستشريين، دون أن يعرف تماماً أن لذلك الجناز حكاية تتعلق بمموله الكونت فرانز فون فولسيغ الذي كان هو من بعث إليه رسلاً يطلبون منه كتابته دون أن يعلن موتسارت كونه مؤلفه لأن الكونت كان يريد مقابل سخائه المالي أن يجعل الناس يعتقدون أنه هو المؤلف الحقيقي لتلك القطعة الموسيقية التي ستضع موتسارت بعد رحيله في مصاف كبار ملحني الجنازات في تاريخ الموسيقي، في القمة إلى جانب باخ، كما نعرف كثيراً عن "الناي السحري"، فإن ما نعرفه عن "رحمة تيتوس" أقل، وتحديداً لأن هذا العمل يبقى ضئيل الأهمية مقارنة بالعملين الأخيرين الآخرين.
ويشهد على ذلك قدامى النقاد ومحدثوهم من الذين حتى في الأزمنة الأكثر جدة حين قاد الموتسارتي الكبير كارل بوهيم تسجيلاً معاصراً للأوبرا أحياها قبل نصف قرن بعد سبات طويل، أجمعوا أنه لم يتمكن من إنقاذها.
في نهاية الأمر قالوا إن ميل موتسارت كان يتجه دائماً إلى الأوبرات المرحة، بل التهريجية حتى التي عادة ما تلائم مزاجه مع خفته وروحه المرحة. ومن هنا "ثمة نوع من الارتباك يلوح في كل سطر من أسطر ألحان تيتوس".
أوبرا التسامح الأسطوري
بالنسبة إلى هؤلاء النقاد من الواضح أن عظمة ذلك الإمبراطور الروماني الذي تروي الأوبرا حكايته وحكاية تسامحه الأسطوري، لا تتلاءمان مع شخصية موتسارت الذي كانت العظمة في رأيه تهذيباً مزيفاً والتسامح من غير شيمه الشخصية. فكيف يمكنه أن يعبر عنهما في عمل أوبرالي يفترض به أن يقدم في حفل تتويج إمبراطور؟ طوال حياته، وكما صوره لنا السينمائي الكبير الراحل، ميلوش فورمان في فيلمه الرائع "أماديوس" المأخوذ بالتواتر عن مسرحية لبوشكين على أية حال، كان عبقري سالزبورغ وفيينا يفضل المزاح والمقالب والتمرد والسخرية على الأخلاق الكبرى والرحمة والعظمة.
من هنا من الواضح أنه ما إن انتهى من تلحين "رحمة تيتوس" في أقل من ثلاثة أسابيع، حتى تنفس الصعداء لأنه تجاوز ورطة كان يعتبرها واحدة من أكبر ورطات حياته. ومهما يكن من الأمر في هذا السياق، كان موتسارت يعرف، ويقول ذلك علناً على أية حال، أن تراجيديا تنتهي نهاية حسنة ستكون أردأ من كوميديا تنتهي نهاية سيئة. ومن هنا كان كل أمله أن تقدم تلك الأوبرا في الموعد المحدد وتنسى بعد ذلك. صحيح أنها قدمت، لكنها لم تُنس، لكن الأدهى من ذلك أنها كان يمكن أن تغتفر بوصفها من "إبداع" فنان يعاني سكرات الموت، ولكن حتى هذا لك يكن ممكناً. فموتسارت نفسه لحن إلى جانبها ذلك "الجناز العظيم" وأوبرا "الناي السحري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دروب إبداع جديدة ولكن
مهما يكن، كل هذه التساؤلات باتت من الماضي. ففي نهاية الأمر "رحمة تيتوس" موجودة وتعد جزءاً من تراث ملحنها، سواء شاء ذلك أم أباه، بل حتى ثمة بين النقاد والمؤرحين من يمكنه أن يقول إن موتسارت، لو أفلت من الموت باكراً، وطال العمر به وعاش بصورة طبيعية بعد تلك الأيام العصيبة، لكان من شأنه عمله على تلك الأوبرا أن يفتح له دروب إبداع جديدة ومتشعبة في حياته هو الذي تذكرنا هذه الأوبرا تحديداً بأنه كان يخفي دائماً في أعماقه رغبات خفية بتجربة حظه مع الأوبرا الجادة.
وكانت له محاولة مبكرة في ذلك المجال حين جرب حظه مع أوبرا "ميتريدات" حين كان مقيماً في إيطاليا عام 1770 وأغراه المزج بين فنه الأوبرالي والتراجيديات القديمة. غير أنه ما كان ليعتقد أبداً أنه سيختم حياته بأوبرا من ذلك النوع فيها تخليد للمستبد، ولو كان مستبداً عادلاً.
عواقب خطرة
تتألف أوبرا "رحمة تيتوس" من فصلين طويلين يرويان لنا حكاية الصراعات التي عاشها الإمبراطور الروماني تيتوس، وبخاصة في علاقته مع فيتيليا التي تهيم حباً به، لكنها تغار عليه وإلى حد الجنون حين يتناهى إلى علمها أنه ينوي الزواج من بيرينيس ابنة آغريبا ملك السامرة، ومن هنا تدفع المغرم بها الجنرال سكستوس إلى تزعم مؤامرة تبعد تيتوس عن قمة السلطة فتمتلكه وحدها لثقتها أن بيرينيس لا تريده إلا لكونه إمبراطوراً.
بعد ذلك تتعقد الأمور حين تعلم فيتيليا هذه المرة أن تيتوس قد طرد بيرينيس من حياته مختاراً بدلاً منها فتاة رومانية أخرى هي سرفيليا. وهكذا تتشعب الحكاية بشكل ينذر بالعواقب الخطرة. غير أن كل المحاولات التي تقوم بها فيتيليا لتبديل مجرى الأمور تفشل، إنما دون أن يثير انكشاف أي منها غضب تيتوس أو يدفعه إلى التخلي عن رحمته حتى ولا حين انكشفت المؤامرة التي بات أكثر من طرف مشارك فيها، ولكن دائماً من حول محور تمسك فيتيليا بخيوطه، لا سيما في المرحلة اللاحقة (الفصل الثاني)، حيت يتولى قيادة اللعبة ضد تيتوس القائد سكستوس الذي ينكشف ضلوعه ويرفض الهرب فيحاكم من قبل مجلس الشيوخ. وفي اللحظة التي يحكم هذا المجلس على سكستوس ورفاقه بالرمي لتلتهمهم الوحوش، تعترف فيتيليا بما اقترفته، وبأنها كانت هي وراء التدبير كله فيجابهها تيتوس ورفاقها برحمته الأسطورية.