من اللقاءات الحوارية البارزة التي قدّمها مهرجان البحر الأحمر السينمائي هذا العام، واحد مع الممثّل الأميركي الشهير ويل سميث، 55 عاماً، الذي حضر إلى جدة مفعماً بالحماسة وفي جعبته الكثير من الكلام. طوال ساعة، فتح قلبه للجمهور ولريّا أبي راشد التي حاورته، متحدثّاً عن مسيرته التي انطلقت في مطلع التسعينيات. اشتهر سميث بأدواره في "باد بويز" و"مان إن بلاك" و"علي" و"هيتش" و"البحث عن السعادة" و"أنا اسطورة" وغيرها من الأعمال الهوليوودية الواسعة الانتشار التي جعلته نجماً سينمائياً كبيراً، وصولاً إلى نيله جائزة أوسكار أفضل ممثّل عن دوره في "الملك ريتشارد" العام الماضي.
في أي لحظة بدأ سميث يلاحظ بأنه يحمل موهبة التمثيل؟ يتذكّر: "كانت أمي تريني صوراً فوتوغرافية عائلية قديمة. كان لديها نحو 50 صورة، تطلب مني أن أنظر إليها ثم تسألني إذا لاحظتُ شيئاً. كنت أحدق في الصور وأجيب بـ"لا". فترد: انظر جيداً، لا توجد صورة واحدة لا تنظر فيها إلى الكاميرا. بقية أفراد العائلة ينظرون في اتجاهات مختلفة إلا أنت، كنت تعرف أين هي الكاميرا وكيف تتفاعل معها. في طفولتي، لطالما استمتعتُ من الوقوف قبالة الكاميرا ولا زلتُ أحب أن أرى الناس يشعرون بالمتعة. من المهم عندي ان أبث هذا الشعور من حولي، سواء مثّلتُ أو رقصتُ أو غنّيتُ. أستمد عيشي من تلك الطاقة والحماسة والالهام. أحب الإحساس الذي ينتابني عندما أروي لأحدهم قصة وأنال انتباهه. وعندما تصل إلى نهاية القصة تلمس إفرازات تلك البهجة. إذاً، هذا شيء أحببته طوال حياتي، وهو شيء طبيعي عندي، ومن هنا جاءتني الرغبة في الإنضمام إلى عالم الاستعراض".
هل يتذكّر اللحظة التي شعر بأنها أكثر من مجرد رغبة بل قد تكون مهنة يعتمد عليها؟ يرد: "كنت في التاسعة عشرة عندما استمعتُ لأول مرة إلى أسطوانة "رابرز ديلايت"، ولا أعرف ما الذي حدث في داخلي بعدها. حسمتُ أمري. أشكال الفن المختلفة لديها أساليبها في ممارسة ذلك التأثير. فور استماعي إلى تلك الاسطوانة، عرفتُ أنني أريد أن أكون جزءاً من هذا الفن، علماً أن لا أحد كان باستطاعته أن يعتاش من الراب في هاتيك الأيام. عندما أنهيتُ المدرسة، ما كنت أعرف إذا عليّ الإلتحاق بالجامعة لأدرس هندسة الكمبيوتر أو متابعة مسيرتي الموسيقية، وكان الخيار صعباً بسبب إصرار أهلي على متابعة دراستي. ولكن كنت أعلم جيداً أنني لن أكون سعيداً إذا لم أستمر في الفن. كان في ودي أن أمهتن أي مهنة تجعلني أقف أمام جمهور. لطالما كنت ماهراً في الرياضيات والعلوم، وكنت متأكداً إنني سأكون رجل علم. في فترة من حياتي، أُغرمتُ بالديناصورات. لطالما سعيتُ إلى فهم تركيبة الأشياء. أحب البازل مثلاً. وتجذبني المشاكل (ضحك). لذلك، بدأتُ أصنع مشاكلي الخاصة. في 1986، أصدرتُ اسطوانتي الأولى، وكانت اسطوانة متواضعة محصورة في فيلاديلفيا، تحديداً في غرب فيلاديلفيا، حيث ولدتُ ونشأت".
بروس لي
مع مَن كان يتماهى على الشاشة عندما كان صغيراً؟ يرد: "من أهم تجاربي السينمائية في طفولتي أفلام بروس لي. كنت أخرج منها وفي رغبتي أن أركل. أحببتُ كيف كان؛ شخص أكبر من الحياة نفسها يبث الطاقة من حوله. وددتُ ان أتعلّم كيف أخلق ذلك وأبث ما يبثّه في النفوس والعقول. أدركتُ مبكراً درجة الالهام التي قد تخرج من الشاشة".
أنجز سميث الجزء الأول من "باد بويز" لمايكل باي، قبل نحو ثلاثة عقود، وهو الآن انتهى من تصوير الجزء الرابع. عن هذه المغامرة السينمائية التي جاءت اليه بالشهرة العالمية، يقول: "عندما مثّلتُ في "باد بويز"، لم أعِ في البداية أهمية التعاون مع الممثّلين الآخرين. تعلّمتُ ذلك وأنا أتعاون مع مارتن لورانس، شريكي في الفيلم. لم تكن المعادلة على شكل 1 + 1 = 2، بل 1 + 1 = 10. هذا حوّلني إلى ظاهرة عالمية. رغم أنني كنت ألّفتُ موسيقى وجلتُ جزءاً من العالم، إلا أن الأمور تغيرت جذرياً بعد هذا الفيلم. وللمناسبة، أرنولد شوارزنيغر أول مَن شرح لي عندما طلبتُ اليه نصيحة كي أحذو حذوه، وأصبح أكبر نجم سينمائي في العالم، إذ قال: إذا أردتَ أن تصبح أكبر نجم سينمائي في العالم فعليك أن تمتلك شعبية لا في أميركا فحسب، بل في العالم أجمع. عليك أن تسافر إلى كل الأماكن وأن تقابل كل الناس. إذا كانت أفلامك جماهيرية فقط في أميركا، فأنتَ لست نجماً. وفي الحقيقة، كان محقّاً، وهذا فتح عينيّ على الواقع كي أفهم كم العالم أكبر من أميركا، مع العلم أن الكثير من الأميركيين يعيشون في هذا البلد الضخم ويموتون فيه من دون أن يخرجوا منه قط. السفر إلى الخارج والتعرف إلى البشر على اختلافاتهم، أول ما فعلته بعد ذلك".
يؤكد سميث أنه كان في البدء يعارض فكرة التتمات والأجزاء الثانية في السينما، لكنه يرى فيها اليوم نتيجة علاقة نشأت بينه وبين المُشاهد. "الناس يكبرون مع الأفلام. وهذا يجعلني أحس أنني كممثّل أكبر معهم أيضاً، وهذا يؤسس علاقة خاصة مع المتفرج. هناك طاقة وأنتَ تغذّي بفنّك هذه العلاقة مع الناس الذين يشاهدون هذه الأفلام. لكنني أرفض أن أخوض تجربة التتمة فقط من أجل إنجاز تتمة. أسأل دائماً ماذا أضيف إلى الشخصية وما هي الفكرة الجديدة وما هو التغيير الطارئ الذي يتماشى مع التغييرات في حياتنا كبشر. أطلب من الشخصية أن تتطور وتتعلّم مثلما نتطور ونتعلّم. ثمة جديد أبحث عنه في كل جزء جديد".
في مداخلة لها، قالت ريّا أبي راشد إن الكوميديا والدعابة كانتا حاضرتين في أفلام الحركة طوال التسعينيات، ممّا جعل رياحاً منعشة تهب على السينما. فكان رد هذا الذي يعتبر الكوميديا ملعبه الأول: "عادةً، لا نضحك كثيراً في أفلام الحركة، وهذا ما أردنا ان نفعله في "باد بويز". من الصعب السيطرة على جدية الحركة وفي الحين نفسه إثارة قهقهات. هذا يعطّل جدية الواقع الذي تحتاج إليه في أفلام الحركة، لذا كان علينا أن نعثر على التوازن المثالي".
السينما والغناء
تحدّث ويل سميث، الذي كشف أن عازف الترومبيت كوينسي جونز أهم إنسان في حياته، عن أغنية "مان إن بلاك" الشهيرة التي ألقاها، قائلاً إن مسيرته كممثّل قضت على مسيرته كمغن، فكان عليه أن يفعل شئاً ما حيال ذلك، خصوصاً بعد إدراكه بأنه أصبح ممثّلاً فيما هو كان في الأصل يرغب في الغناء. لكن في الوقت نفسه، كان يعلم أنه أكثر موهبةً في التمثيل، لذلك أضحى "مان إن بلاك" فرصة كي يفعل الأمرين معاً.
في واحد من أجمل الإعترافات التي قد تصدر من ممثّل، قال إن الشخصية التي يجسّدها تجعله يتعلّم عن نفسه، كما أنه يتعلّم منها الكثير عن الحياة عموماً. أما أكثر مرحلة خلاقة في حياته، فكانت قبل أن يبدأ فيها مسيرته، باعتبار أنه عندما انطلق صار حيزه الزمني يضيق أكثر فأكثر. أما أشد المراحل خلقاً وإبداعاً، فهي تلك التي تقع بين مشروعين. "الأيام التي تعمل فيها لـ16 ساعة متواصلة، هي الأقل خلقاً. ذهني في حاجة إلى مساحة. أحتاج إلى حدوث أشياء في حياتي. ثمة حياة يجب أن تُعاش. ترزق بأطفال، تكسر ساقك فتذهب إلى المستشفى، تلتقي بناس... هذه الحياة يجب أن تعيشها كي تجد الخلق".
يحسب سميث أن "هيتش" لأندي تينانت فتح عينيه على الحب ومدى أهميته. "إن التيمة المركزية لكل فيلم هي إما الحب أو تراجيديا غيابه. عندما بدأتُ أقارب الأفلام بهذه الطريقة، وبدأتُ أنظر إلى كيف أن كل العلاقات بين الشخصيات تظهر بعض الشوق العميق للحبّ أو معاناة غياب الحبّ، صرتُ أتمكّن من صقل شخصياتي. وأصبح لأفلامي صدى عالمي. عندما تركّز على الحبّ، لا تعود في حاجة إلى اللغة. يمكنك مثلاً مشاهدة "البحث عن السعادة" من دون الصوت. يكفي أن ترى الإبن المحبّ ينظر إلى والده واثقاً به. هذه لغة عابرة للحدود".
"البحث عن السعادة"
وفي مناسبة الحديث عن أحد أقرب الأفلام إلى قلبه، "البحث عن السعادة" لغابريالي موتشينو، روى سميث كيف جرت التحضيرات لدوره، وكيف اصطحبه كريس غاردنر (الشخصية التي لعبها)، إلى الأماكن التي اضطر أن ينام فيها مع إبنه يوم كان متشرداً بلا مأوى. فأخذه غاردنر إلى الحمام العمومي حيث أمضى إحدى الليالي فيه مع إبنه وطلب إليه أن يمضي فيه بعض الوقت. تذكّر سميث متأثراً: "وقفنا في الحمام وكان حماماً متّسخاً، فجأةً بدأتُ أبكي وانهمرت دموعي. كان تصوير الفيلم قاسياً، ولكنني كبرتُ معه على مستوى التمثيل. كممثّل، أنت تحني عقلك قليلاً لتلعب هذه الشخصيات، وقد تأخذ المسألة بُعداً خطيراً، لكنك تحني عقلك قليلاً ولا يختفي الأمر تماماً. يبقى في داخلك تجربة فعلية. وعليك أن تكون حذراً تجاه ذلك. يمكن أن ترى الكوابيس ليلاً إذا تعمّقتَ كثيراً في الشخصية. فعلتُ ذلك مرة أو مرتين في حياتي. شيء كهذا يمكن ان يحرفك قليلاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يخفي سميث، وهو في منتصف الخمسينيات من عمره، أن ما يعنيه اليوم أكثر من أي شيء آخر، هو أن يستمر في التعلّم، معتبراً نفسه مجرد هاو. مع ذلك، يعترف أانه صاحب غريزة تجعله يحسن اختيار الأفلام، لكنه يفكّر علمياً بما يجب أن يقوله للناس وما الهدف منه. أحياناً ينجح في ذلك وأحياناً يخفق. أما الفصل بين الأفلام التجارية من جهة والأفلام الفنية من جهة أخرى، فهذا ما لا يستسيغه البتة. فهو يحاول أن ينجز فيلماً تجارياً يكون في الوقت نفسه فيلماً فنياً. ويذكر نموذج "البحث عن السعادة"، الفيلم الذي استطاع أن يقدّم هذه المعادلة.
بعد مسيرة فنية تجاوزت الربع قرن، هل بقي ما يطمح اليه؟ "مشاركة بطولة فيلم مع دانزل واشنطن"، صاح أحدهم في الصالة. "نعم، فيلم مع دانزل واشنطن في السعودية تحديداً، أنا جاهز"، أكّد سميث مزايداً. ثم أضاف بنبرة أكثر جدية: "ما يشغلني في هذه اللحظة هو نقل المعرفة للآخرين. أنوي التدريس. أريد ان أدرّس صناعة الأفلام. وما هو مثير هنا في السعودية، هو اننا حيال مجتمع سينمائي حديث. وهناك نية في التقاط القصص المحلية وتحويلها إلى قصص دولية. لذا، كلني حماسة ان أجوب العالم وأكون قادراً على تأسيس مجتمع كوني قائم على سرد القصص. إنني أؤمن جداً بقوة مشاركة القصص بعضنا مع بعض وذلك لتضميد الجراح. أعتقد أن المرحلة القادمة من حياتي ستكون مكرسّة لهذا الأمر. لا أؤمن بالضرورة بالسياسة كآداة تغيير. الفنّان هو الذي يغير".
ختاماً، روى سميث أنه خلال تصوير مشهد من "علي" لمايكل مانّ في الموزمبيق (حيث لعب دور الملاكم محمد علي كلاي) وجد نفسه في بقعة تقع على مسافة بعيدة من إحدى المدن الكبرى، فرأى امرأة تغسل ملابسها على ضفة النهر، وعندما اقترب منها، راحت تدندن إحدى اغنياته من دون أن تلتفت حتى في اتجاهه. هذه الصورة صمدت طويلاً في ذاكرة سميث، لدرجة أنه حملها معه إلى جدة بعد عقدين من الزمن، لكنه رواها محذّراً من مخاطر الشهرة، لأنه، كما أوضح: "كلما اهتممتَ بمديح الناس لك، تشعر بألم أكبر عندما يأتي يوم يذمّونك فيه".