Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 "مندوب الليل" يتألق بأبعاده الفريدة في "البحر الأحمر"

الدورة الثالثة تشهد صعود السينما السعودية من خلال 9 أفلام

من الفيلم السعودي "مندوب الليل" (ملف الفيلم)

تسعة أفلام روائية طويلة من السعودية تُعرض هذا العام في مهرجان البحر السينمائي الثالث الذي يستمر إلى 9 الشهر الجاري في مدينة جدة. هذه أول دورة تصل فيها حصيلة الإنتاج السعودي إلى هذا العدد الكبير، وهي نتيجة طبيعية للدعم الرسمي الذي يتلقاه السينمائيون والسينمائيات للتصوير تحت ضوء الشمس، ما كان يُصوَّر سابقاً في الخفاء. الأفلام التي تسنّت لنا مشاهدتها حتى الآن مختلفة بعضها عن بعض، وإن تقاطعت جمالياً وأسلوبياً ومضموناً في بعض جوانبها. أما مستوياتها الفنية فمن البديهي أن تتفاوت، لكونها وليدة ظروف وطموحات وأهداف مختلفة. الأعمال الفنية لا تولد متساوية. 

أحد هذه الأفلام، "مندوب الليل" لعلي الكلثمي، لافت بصورة إستثنائية، يكسر بعض الأنماط من دون أن يكون ذلك هدفه تحديداً. سبق ان عُرض في مهرجان تورونتو السينمائي في قسم "اكتشاف" وسيخرج في الصالات السعودية في 14 من هذا الشهر. يمكنني القول من دون تردد أن هذا أجمل فيلم سعودي شاهدته والأكثر نضجاً، منذ بداية مغامرة الفيلم السعودي، ويتموضع على بُعد سنوات من التجارب العديدة التي أبصرت النور في السنوات الماضية.

 

هذا عمل متكامل تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وتصويراً، وعلى كافة المستويات الأخرى. والأهم من هذا كله، أنه لا يبحث عن مواضيع باهتة، ولا يلجأ إلى شؤون تخطاها الزمن، أو يستغل حكايات من التراث الثقافي طمعاً بنيل بعض الإعجاب في الغرب، بل يلتقط ما يراه أمامه، من تلك اللحظات الهاربة التي وحده سينمائي موهوب صاحب رؤية، يعرف كيف يلتقطها ويضعها في اطار زماني ومكاني واحد، حتى ليطعينا الإحساس بأننا نعرف هذا الواقع الذي نراه بكل تفاصيله، لكن لا نعرفه بهذا الشكل الفني وبهذا الطرح السينمائي الفذ، وبهذه الجرأة في نقل الهامش إلى المتن. يستمد الفيلم أهميته من انغماسه الكلي في الحياة اليومية والتقاط نبضها، من خلال شخصية تكون مدخلنا اليها، فنكتشف الأشياء من خلالها ومن خلال الاختبارات التي يكون في مواجهتها. هذا عمل سينمائي يتأرجح بين الكوميديا السوداء والثريللر، وفي الحالتين فهو يحضّنا على التفكير والتأمل. 

ليل الرياض

شاب من خلفية متواضعة يُدعى فهد (محمد الدوخي في أداء ممتاز) هو محور الأحداث المتلاحقة والمتسارعة والمترابطة التي تأخذ من ليل الرياض مسرحاً لها. تبدأ الحكاية مع طرده المهين من وظيفته في شركة للاتصالات، فيضطر إلى العمل مندوباً ليلياً عبر تطيبق "مندوبك"، أي أنه مكلّف بتوصيل طلبات إلى أصحابها. ينزلق صديقنا التائه والوحيد في الليل شيئاً فشيئاً، مع ما يأتي معه من أشباح قادرة على صناعة الخوف. ليلة بعد ليلة، يتوه هذا العازب المضطرب وحيداً مهموماً في شوارع الرياض وأزقتها التي تسكنها أحداث غير متوقعة، وحيث الاغراء بالتخلّي عن القيم يلح بقوة. يجد فهد نفسه أمام سلسلة امتحانات يحافظ فيها الإنسان على نفسه أو يتعرض للمزيد من الذل. هل يتخطى هذا كله من دون ان يخسر نفسه، وكيف سيتخطاه؟ هذا ما نراه في الفيلم الذي يوفّر متعة وتشويقاً ويكاد لا يحمل دعسة ناقصة سواء في مجال الإخراج أو الكتابة أو التمثيل، رغم أنه الأول لمخرجه الذي عُرف بأعماله المعروضة على منصة "يوتيوب". كلمة "مندوب" تحمل معانٍ مختلفة، من الشخص الذي يوصّل المشتريات إلى الميت الذي يبكيه أهله، وصولاً إلى الإنسان الذي يحمل الندوب، ويحرص الفيلم على عرض كل تلك المعاني التي ليس فهد سوى خلاصتها. 

 

على غرار "بعد ساعات العمل" لمارتن سكورسيزي الذي تعيش فيه الشخصية كل أشكال المغامرات طوال ليلة، يواجه فهد سلسلة تحديات ينبغي عليه خوضها كي تظهر لنا حقيقته. لكن هذا ليس الشيء الوحيد الذي يتشاركه الفيلمان. ففي كلا العملين، تلقي المدينة المتعنتة والقوية الحضور التي تدور فيها الأحداث بظلالها على الشخصية، راسمةً مسيرتها. هذه هي المرة الأولى في فيلم سعودي، تغدو فيها المدينة، وفي هذه الحالة الرياض، بهذا الحضور. ليس فقط لأن الليل، حين تتصارع بصمت الطبقات الاجتماعية المختلفة، هو كاريزماتي بطبعه ويساهم في رؤيتنا للأشياء من زاوية مختلفة، بل لأن المكان يرتبط بالشخصيات ارتباطاً وثيقاً، وعلاقتها بالمكان عضوية، متداخلة، جوهرية، غير مفتعلة. لقد فهم علي الكلثمي هذا الأمر وراهن عليه. فعندما يتنقّل فهد من مكان إلى آخر، بسيارته، لا بد أن نحس بهذه النزعة التي في داخله إلى امتلاك المكان والاستحواذ عليه، وهذا شرط من شروط السينما الجيدة. ثم ان علاقة فهد بمدينته ملتبسة، فهو أسيرها ومالكها في آنٍ واحد، وهذه أيضاً من الأشياء التي تجعل الشخصية مثيرة وعميقة ومتعددة الأبعاد وتخلق التعاطف معه. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتطرق "مندوب الليل" إلى مواضيع كثيرة من عمق الراهن السعودي، من دون أن يصبح مثقلاً بها فينهار تحت وطأتها، كما الحال عند العديد من السينمائيين الشباب الذين يقعون في فخ زج كل القضايا والهموم والاشكاليات التي يشهدها مجتمعهم في أول أفلامهم. هنا، كل فكرة تأخذ حقّها من المعالجة، ولو سريعاً، وهذه واحدة من ميزات الكتابة السينمائية التي تلجأ إلى صياغة واضحة وسلسة تصل إلى أكبر عدد من دون مباشرة وتبسيط. أكبر دليل على ذلك هو مشهد المطعم الذي يجتمع فيه فهد بزميلته السابقة المعجب بها، والذي ينتهي بخيبة كبيرة بالنسبة إليه، فيصبح من ثم، في نظر الآخرين، هذا "الخاسر" الذي يحاول ألا يكونه.

هذا المشهد يقول أشياء كثيرة دفعة واحدة، لمن يعرف القراءة بين السطور، أبرزها الصراع الطبقي، فهذا هو عمق الفيلم في نهاية الأمر. مشهد آخر، يصل في اللحظة المناسبة، هو ذاك الذي تنتقل فيه الكاميرا عبر حركة بانورامية من وجه فهد وهو جالس في الحافلة، إلى سائر الركّاب وهم يعودون إلى العمل بعد الدوام، من عمّال أجانب متعبين، أي كل هؤلاء الذين لا يلتفت اليهم أحد في المدن الكبرى. لقطة تعيد تأكيد ما كان واضحاً منذ البداية، لكنها ضرورية للقفز من الخاص إلى العام، وللمس الحس الإنساني الذي يصوّر به الكلثمي شخصياته، متخلياً عن أي لؤم أو إدانة لأفعالها، لدرجة يخلق فيها تعاطفاً مع فهد، يجعلنا نغض النظر عن أفعاله.

أخيراً، فإن التصوير الذي تولاه المصري أحمد طاحون هو من نقاط القوة في هذا الفيلم الفريد، ليس فقط على المستوى التقني فحسب بل الجمالي. والتناقضات الجميلة التي خلقها هذا التصوير، بين التشديد من هنا والتعتيم من هناك، خلقت بيئة مكانية أشبه بعالم مواز وفعلي في آن واحد. تكفي حركات الكاميرا التي تتماهى مع مسار الشخصية في انعكاس لنزاعها الداخلي، بالإضافة إلى التكوينات التي ترد الاعتبار إلى مدينة لا تملك صورة سينمائية حاضرة في الأذهان. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما