ملخص
الأزمة السياسية في إثيوبيا يلزمها وضع حلول جذرية بإجراء مشاورات عامة مع تقديم تنازلات من الجميع.
مسألة السلام في إثيوبيا اتخذت كهدف قومي شامل بعد اتفاق بريتوريا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 الذي حرصت فيه أديس أبابا على أن يشمل كل الأقاليم الإثيوبية والقضايا، على رغم أنه كان مع الحركة الشعبية لتحرير تيغراي، الذي تمثلت أهم بنوده في نزع السلاح وحتى يكون فرصة للحكومة في إصدار قرار بنزع أسلحة القوميات الأخرى، ليصطدم القرار برفض كبرى القوميات الإثيوبية "أمهرة" وتتلاشى طموحات السلام بتفجر أزمة جديدة هذه المرة تحت مسمى "متمردي فانو" ليتجدد الصراع ويغطي على أحداث عام 2023.
تمثل قومية أمهرة 27 في المئة من عدد السكان البالغ عددهم 127 مليون نسمة، وهي في المرتبة الثانية بعد قومية الأورومو، ويشمل إقليمها شمال إثيوبيا بجوار تيغراي وممتد شمالاً على حدود السودان، وتعد أهم القوميات ذات التاريخ السياسي والحضاري على عهود الملوك تيودروس الثاني ومنليك الثاني وهيلاسلاسي.
ويقول كتاب تاريخ إثيوبيا لمؤلفه ساهيد أديجوموبي "اتسمت مقاربة إثيوبيا للعصر الحديث بالكبرياء الثقافي والموقف الدفاعي المؤسس تاريخياً تجاه المحفزات الخارجية على التغيير، وقد ساد الاعتراف العالمي بإمبراطورية أكسوم التي ظلت في أوجها الحضاري من القرن الأول إلى الـ10 الميلادي، فسجل ديو دور الصقلي (مؤرخ إغريقي صقلي عاش من عام 90 إلى 21 قبل الميلاد) أن الإثيوبيين ينظرون لأنفسهم كأمة أعرق من الأمم الأخرى، وأن دفئها بسبب ولادتها في مسار الشمس ربما أنضجها قبل الآخرين."
ومن الحقائق أن مملكة أكسوم في الشمال تعتبر هي الأصل للتاريخ الإثيوبي القديم، إذ يرجع المؤرخ الإثيوبي أديجوموبي "للإمبراطور تيودروس الثاني توحيد الكيانات السياسية الإثيوبية واستعادة السلطة الملكية على إمبراطورية العصور الوسطى، أما منليك الثاني (1899-1913) فقد فرض طابعه الخاص على الحكم الملكي الإثيوبي، والمتمثل في المركزية السياسية وبناء الأمة."
فاصل تاريخي
كان مجيء نظام الرئيس الإثيوبي ملس زيناوي تحت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في 1991 فاصلاً تاريخياً مهماً في عودة السلطة لقومية تيغراي، بعد دورة تاريخية من الحرمان استمرت لأكثر من قرن، حين كان آخر الحكام التيغراويين على إثيوبيا المعاصرة هو الملك يوحنا الرابع (1872-1889) الذي حكم إثيوبيا من حاضرتها غوندر، عقب نهاية حكم الملك تيودروس الثاني الذي اغتالته حملة بريطانية لخلافات سياسية ودبلوماسية.
وعبر النفوذ الذي حظي به الإمبراطور الأمهري منليك الثاني (1889-1914) الذي بسط سلطته عقب الملك يوحنا الرابع في إقليم شوا، استطاع الأخير تمكين نفوذه في أجزاء واسعة، وتطور الأمر إلى حكم مركزي لإثيوبيا، وهي دورة الحكم التي امتدت إلى عام 1913 وأسست خلالها إثيوبيا المعاصرة التي اعترف بها كل العالم.
كان آخر الحكام الأمهرة بعد منليك هو الإمبراطور هيلاسيلاسي الذي تم عزله من السلطة واغتاله ديكتاتور إثيوبيا السابق منغستو هيلاماريام في أغسطس (آب) 1975، ليتشكل نظام ماركسي محسوب على قومية أمهرة أيضاً.
يرجع الكاتب الإثيوبي موسي شيخو تمرد جماعة "الفانو" إلى طموح سياسي منطلقه من حقب الملك التي عاشتها إثيوبيا تحت حكم القومية في عصورها الذهبية، ويصفهم كونهم "يمثلون الدولة العميقة أو بقايا النظام الأسبق، ومن ثم فإن قرار رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في حل الميليشيات القومية ونزع أسلحتها هيج ترسبات طموحها، لتكون سبباً مباشراً في خروج أطياف من شباب وسياسيي القومية بتمردهم الجديد بخلفية تحنو إلى ماضيها.
عوناً لها
الحكومة وخلال حربها ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي استمرت لعامين، هي نفسها التي شجعت القوميات الكبرى منها "أوروميا" و"أمهرة" و"عفر" و"الصومال" لتكوين ما سمي "القوات الخاصة المسلحة" حتى تكون عوناً لها في حربها، إلى جانب دفاع هذه القوميات عن نفسها حينما شكلت قومية تيغراي خطراً عليها، واحتلت عديداً من المناطق بخاصة في الشمال، حيث التنافس التقليدي بينها وبين قومية أمهرة الند التاريخي على المستوى الحضاري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعض المراقبين أشاروا إلى تحفظات جماعة "فانو" برفض التخلي عن سلاحها مبررة ذلك بأنها حريصة على المحافظة على حدود إقليمها في أمهرة من أي أخطار، إلى جانب رفض بعض متشدديها اتفاق بريتوريا، إذ اعتقدوا أن الحكومة المركزية انحازت إلى جبهة تحرير تيغراي، وكانوا يأملون في أن يقضوا تماماً على الجبهة ويعملوا على استئصالها، لكن هذا لم يتحقق، كما يرجع تحفظهم على الاتفاق إلى ما يتعلق بأهم منطقتين مثار تنافس وهما "والقييت" و"راية" اللتين نص على أن التحاكم في شأنهما بين أمهرة وتيغراي، وليس بفرض الأمر الواقع.
وأوضح مراقبون آخرون أن التعقيد الذي صاحب تمرد جماعة "فانو" يرمز في حقيقته السياسية إلى دوافع شتى ذات جوانب تنافسية وبعد إقليمي لا يزال يشكل أثراً فاعلاً في اللعبة السياسية في إثيوبيا وتحديداً إريتريا.
امتداد مقدس
التنافس الحدودي بين القوميات تفاعل كمؤثر سياسي مباشر بعد تمكين الحكم الفيدرالي خلال الحقب الثلاث الماضية أثناء حكم تيغراي، إذ تنافست القوميات في إثبات ذاتها في مختلف المجالات التي تتمتع بها والأرض بالنسبة إلى القوميات الإثيوبية الرئيسة التي يبلغ عدد أقاليمها حالياً 11 إقليماً لها امتداد مقدس، وتتناسى الوطن الجامع الذي كان ينبغي أن تذوب فيه الحدود القومية.
اتسمت توجهات رئيس الوزراء آبي أحمد بخطوات جادة في بناء أمة تجمع بين الوحدة والاستقرار، ويمثل فيها النظام الفيدرالي دافع توحد، فعمل على تذويب القوميات عبر قوانين تنظيمية مباشرة تحاول أن تلعب دوراً لتغليب الهوية الإثيوبية في التعاملات.
وتبنت الحكومة الإثيوبية مشروع السلام الجامع بخطوات عملية أثناء حرب إنفاذ القانون ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، إذ نادت بالسلام القومي، وأصدر مجلس الوزراء قراراً بتكوين لجنة للحوار الوطني لتحقيق السلام، صادق عليها البرلمان الإثيوبي في 2021، لكن على رغم ذلك واكبت سلبيات بعينها، وفق مراقبين في أهم الملفات حساسية.
الحيز العرقي
مدير موقع الراصد الإثيوبي الصحافي أنور إبراهيم يقول في حيثيات التطورات إن "الصراع أخذ في وقت ما الحيز العرقي، وبخاصة إبان حرب التكالب على تيغراي، على رغم محاولة إضفاء الصفة القانونية على ذلك التكالب، لكن التحركات كانت قبلية ضيقة وغير موفقة"، متابعاً "وفي ظل تحول الصراع إلى أهداف قومية تنافسية لقبائل أمهرة وأورومو ضد خصومهم القبليين تغير شيء ما في عمق الحاصل وأدى إلى توتر جملة الأوضاع."
وأضاف إبراهيم "السلام يأتي إذا غيرت الحكومة التي يقودها الازدهار نهجها في ما يخص التعامل مع كل المكونات السياسية والشعبية، لأن ما يحدث الآن عبارة عن تخبط استراتيجي، وقد يؤدي إلى طريق مفترق بين المكونات الإثيوبية المختلفة، مما يعني تراجعاً وتدهوراً للوضع الأمني والسياسي والاقتصادي."
وأشار الصحافي الإثيوبي إلى أن "الواقع يلزمه وضع حلول بإجراء مشاورات عامة مع تقديم تنازلات من الجميع تجاه بعض الأمور لتحقيق توازن سياسي مرض، والتنازلات ينبغي أن تقدم ابتداءً من الحكومة التي كانت تحركاتها الآونة الأخيرة غير واضحة مما أدي إلى تأزم الوضع أكثر."
وفي ما يتعلق بالوضع الإقليمي ودوره المباشر أوضح إبراهيم "إثيوبيا تقلص دورها الإقليمي، لهذا يمكن أن نقول إنه لا يمكن أن يكون لها دور ناجح في الملفات الإثيوبية بخاصة سوى الضغوط الغربية التي تستخدم أسلوب الجزرة والعصا في كل الملفات المتأثرة إقليمياً، وما حققته أديس أبابا من نجاح شيء من نذر".
وبحسب إبراهيم فإن تحريك المكونات داخلياً بعضها على بعض، إلى جانب الاستناد إلى بعد إقليمي يعتبر فكرة غير موفقة للتصدي للتحديات المحلية، ولها آثار سلبية تجاه حياة التعايش التي كانت في السابق، مضيفاً "أعتقد الآن وفي ظل الظروف السائدة حالياً لا بد من اتباع استراتيجية أخرى مدروسة من أجل إحلال السلام، والتوافق القومي لكل بقاع الدولة."