ملخص
تواجه القاهرة جدولاً مزدحماً بالديون في 2024 تصل إلى 42 مليار دولار.
على رغم أن الاقتصاد المصري يرزح تحت الضغوط خلال السنوات الأخيرة، إلا أن عام 2023 كان الأعنف على الإطلاق طوال عقد، بينما يتوقع بعض المحللين أن يكون 2024 أكثر صعوبة بعد أن طفت مظاهر الضعف على السطح لتشكل حزمة من المؤشرات السلبية، منها ما رصدته وكالات التصنيف الائتماني على مدى العام الحالي، وأخرى شعر بها المواطن البسيط بعدما هددت حياته اليومية، إذ اشتعلت نيران الغلاء في معظم السلع الأساسية التي لا يمكن أن يتجنبها أو يتغاضى عن شرائها باعتبارها سلعاً ترفيهية، فتضاعفت أسعار السلع الأساسية الرئيسة على مدى أيام العام مثل السكر والرز ومنتجات الألبان، حتى طاولت الزيادات أسعار السجائر والدخان بعدما انفلتت الأسواق.
إلى ذلك جاءت أزمة الاقتصاد المصري مدفوعة بأسباب عدة بعضها يعود لعقود مضت، مع إهمال وتراجع وتيرة التنمية الصناعية شيئاً فشيئاً نتيجة سوء التخطيط من جانب والبيروقراطية الشديدة من جانب آخر، وسياسات التصدير والتوسع في الاستيراد حتى بات العجز التجاري في الميزان التجاري مزمناً، مما قلل من قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية، خصوصاً الدولار الأميركي حتى بدا بأكثر من قيمته الحقيقية في البنوك الرسمية بينما في السوق السوداء شأن آخر، فضلاً عن استمرار معوقات الاستثمار وضعف المنافسة وتشجيع المنتج المحلي وغيرها من الأزمات المزمنة.
التوسع في الاقتراض
مع تفاقم الوضع الاقتصادي اضطرت السلطات إلى التوسع في الاقتراض خلال الأعوام الـ10 الأخيرة، تارة لمعالجة الاختلالات المالية وسد العجز المزمن في الموازنة العامة للدولة، أو لإصلاح البيئة الاستثمارية والصناعية وتنفيذ مشاريع كبرى في البنية التحتية المصرية تارة أخرى.
بالقطع تراكمت الديون الخارجية الثقيلة وفوائدها السنوية على القاهرة، وأصبح شغلها الشاغل سداد أقساط الديون وفوائدها في مواعيد استحقاقها، إذ لم تتأخر يوماً عن السداد، لتستخدم غالبية ما تتحصل عليه من عملات أجنبية في إتمام السداد، وهنا انبثقت أزمة جديدة تتعلق بشح العملة الأجنبية، خصوصاً الدولار.
ديون واجبة السداد
وأدى النقص الحاد في الدولار إلى كبح الواردات وتسبب في تراكم البضائع بالموانئ وسط قيود على خطابات الاعتماد مع تداعيات على الصناعة المحلية، وارتفعت أسعار عدد من المواد الغذائية الأساسية بوتيرة أسرع بكثير من معدل التضخم في المدن المصرية الذي تسارع إلى معدل قياسي بلغ 38 في المئة في سبتمبر (أيلول) الماضي قبل أن يتراجع بصورة طفيفة الشهر الماضي.
وتحتاج مصر إلى الدولار لسداد ديونها الخارجية العامة متوسطة وطويلة الأجل التي قفزت بمقدار 8.4 مليار دولار في الأشهر الستة الأولى من 2023 حتى الأول من يوليو (تموز) الماضي إلى 189.7 مليار دولار، وعليها أن تسدد ما لا يقل عن 42.26 مليار دولار من الديون الخارجية عام 2024.
وانكشفت أزمة شح العملة الأجنبية لتكون أكثر وضوحاً مع تجنب المستثمرين الأجانب الاستثمار في أدوات الدين المصرية (أذون وسندات الخزانة) بعد دورة التشديد النقدي التي نفذها مجلس الاحتياط (المركزي الأميركي) قبل عامين، مما تسبب في تخارج أكثر من 20 مليار دولار من القاهرة صوب واشنطن طمعاً في الفائدة الأميركية، ودفع الحكومة إلى تمويل العجز المتزايد عن طريق الاقتراض محلياً على رغم ارتفاع أسعار الفائدة، مما سمح لعجز الموازنة بالاتساع وأدى إلى انخفاض قيمة العملة وارتفاع التضخم.
من الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة إلى نظيرتها المباشرة لم يختلف الأمر كثيراً، إذ تراجع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر خارج قطاع النفط والغاز بعدما أصبح ضئيلاً.
السياحة وقناة السويس
وقبل أن ينتهي العام لم تنعم إيرادات قناة السويس وحتى الإيرادات السياحية بالاستقرار، إذ إن الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة المجاور تهدد بإبطاء نمو السياحة من جانب وتآكل إيرادات قناة السويس من جانب آخر بعد أن أعلنت شركات شحن عدة تجنب المرور بالقناة الواصلة بين الشرق والغرب التي تمر منها نسبة 10 في المئة من حجم التجارة العالمية بعد زيادة الأخطار مع تهديدات الحوثيين.
ووفقاً لبيانات البنك المركزي المصري، بلغت حصيلة إيرادات السياحة نحو 13.6 مليار دولار، إضافة إلى إيرادات قناة السويس بقيمة 8.8 مليار دولار في العام للسنة المالية 2022/2023.
وتأتي الزيادة السكانية أيضاً ضمن قائمة الأسباب الرئيسة التي تؤرق اقتصاد القاهرة، إذ إن السلطات المصرية في أكثر من مناسبة أشارت إلى أن النمو السكاني السريع أحد أسباب المشكلة، وقدر البنك الدولي النمو السكاني السنوي عند 1.7 في المئة عام 2021.
الخطوات المؤلمة
التدهور المستمر للاقتصاد في مصر وضع القاهرة تحت الضغوط، إذ أصبحت مطالبة باتخاذ إجراءات طال انتظارها عقب الانتخابات الرئاسية وفي مقدمتها خفض قيمة العملة ورفع أسعار الفائدة، إلى جانب تسريع مبيعات الأصول الحكومية.
وما إن انتهت الانتخابات حتى تحولت الأنظار إلى كيفية التعامل مع العملة المبالغ في تقدير قيمتها والتضخم شبه القياسي والديون الهائلة المحلية والأجنبية على حد سواء.
ويرى محللون أن الحكومة أرجأت الخطوات المؤلمة إلى ما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس عبدالفتاح السيسي بولاية ثالثة مدتها ستة أعوام في انتخابات جرت بين الـ10 والـ12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري.
في غضون ذلك، يرى المتخصص الاقتصادي لدى "إتش أس بي سي" سايمون وليامز في حديثه إلى "رويترز" أن "هناك كثيراً من الخيارات الكبيرة التي يتعين على الحكومة الإقدام عليها"، مستدركاً أن "وجود عملة موثوق بها هو المفتاح لتحقيق انتعاش اقتصادي حقيقي".
يشار إلى أن الدولار الأميركي كان يباع مقابل 29 جنيهاً مصرياً في السوق السوداء قبل عام، أما الآن فيباع بأكثر من 50 جنيهاً، بينما السعر الرسمي في البنك المركزي المصري والبنوك المحلية لا يزيد على 30.85 جنيه.
تحويلات الخارج
أما بالنسبة إلى التوقعات المستقبلية، فتشير أرقام أسعار صرف العملات الأجنبية الآجلة التي تتنبأ بمكانة الجنيه في أواخر يناير (كانون الثاني) المقبل، أن يسجل 35 جنيهاً للدولار، وترتفع إلى ما يقارب 50 جنيهاً في نهاية 2024.
ودفع عدم اليقين في شأن أسعار الصرف المصريين في الخارج إلى الإحجام عن إرسال ما يجنونه إلى الوطن، مما عصف بمصدر رئيس للنقد الأجنبي، وانخفضت التحويلات بنحو 10 مليارات دولار إلى 22 مليار دولار خلال 12 شهراً حتى نهاية يونيو (حزيران) 2023، وعن ذلك قال وليامز إن "التحويلات تتعلق بالشعور وليس المستوى، ويجب إقناع المصريين بأن العملة مستقرة الآن"، مضيفاً أنه "يجب أن تكون لديهم ثقة بقيمتها"، وأشار إلى أنه "إذا حدث ذلك فمن الممكن أن تعود التحويلات بسرعة نسبياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخفضت الحكومة المصرية قيمة عملتها ثلاث مرات حادة كانت المرة الأولى في مارس (آذار) 2022، ثم في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وكانت المرة الأخيرة في فبراير (شباط) الماضي.
أما رئيس قسم الأبحاث في بنك "مورغان ستانلي"، فيرى في مذكرة أن "تعديلاً على الخطوات هو الأرجح على المدى القصير، بدلاً من الانتقال إلى ترتيب تعويم".
وتعثرت حزمة مالية بقيمة 3 مليارات دولار تم التوصل إليها مع صندوق النقد الدولي قبل عام بسبب تأخر المراجعتين الأولى والثانية بين القاهرة ومسؤولي الصندوق الدولي، علاوة على إرجاء مصر تعويم عملتها وتأخر استكمال ملف بيع أصول الدولة، مما دفع الصندوق إلى إرجاء صرف دفعتين في مارس 2023 وسبتمبر 2023 بقيمة إجمالية تصل إلى 700 مليون دولار.
غير أن الصندوق قال هذا الشهر إنه يجري محادثات لتوسيع الحزمة المالية للقاهرة لتصل إلى 6 مليارات دولار بسبب الأخطار الاقتصادية الناجمة عن الصراع بين إسرائيل و"حماس"، ويبدو أنه حوّل تركيزه من سعر الصرف إلى استهداف التضخم، إذ قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا في تصريحات صحافية هذا الشهر إن "تركيزنا ينصب على جعل الاقتصاد المصري يعمل بأفضل صورة ممكنة"، مستدركة أننا "نعطي الأولوية لمكافحة التضخم ومن ثم بالطبع سننظر إلى سعر الصرف في هذا السياق".
أما المتحدثة باسم الصندوق الدولي غولي كوزاك، فقالت في وقت لاحق إن "برنامج مصر يتضمن الحاجة إلى تشديد السياسة النقدية والمالية، إلى جانب نظام مرن لسعر الصرف، للانتقال تدريجاً إلى نظام استهداف التضخم".
مبيعات الأصول (الطروحات)
وتعتمد مصر على جمع السيولة من حصيلة بيع أصولها الحكومية (برنامج الطروحات الحكومية) الذي تعثر كثيراً خلال الأعوام الماضية، لكن بعض المحللين يرون الآن تحولاً، فوفقاً لـ"مورغان ستانلي"، حققت مصر تقدماً كبيراً في مبيعات الأصول المملوكة للدولة واجتذبت مستويات عالية تاريخياً من صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وحققت أهدافها المالية في 2022/2023 على رغم ارتفاع الإنفاق الحكومي بسبب نمو التضخم وكلف الاقتراض".
التغيير الشامل
من جانبه قال المتخصص في شؤون الاقتصاد مدحت نافع إن "الاقتصاد المصري يعاني صعوبة بالغة العام الحالي وسيكون العام المقبل بالغ الصعوبة"، مضيفاً أنه "من دون شك أن هناك عوامل خارجية أثرت في تراجع الاقتصاد المصري لا يمكن إنكارها"، مستدركاً أن "هناك أيضاً عوامل داخلية تسببت في تفاقمها".
وأشار نافع أن "الأهم من ذلك أن هناك قرارات وخطوات اقتصادية وإجراءات كان يجب اتخاذها في 2023 ولكن للأسف لم تتخذ أو لم تتخذ بالصورة المناسبة، لذلك سيكون العام المقبل 2024 أكثر صعوبة في كلفة الديون الخارجية وكلفة خدمتها أيضاً، فضلاً عن بقية الالتزامات المقدرة بـ42 مليار دولار"، قائلاً إن "هذا الرقم يعادل ما سددناه من ديون في غضون عامين، وأصبحنا نسدده في عام واحد فحسب".
وأكد نافع مدى صعوبة سداد هذا المبلغ في عام واحد إلا بكلفة مؤلمة، خصوصاً مع تراجع التصنيف الائتماني للقاهرة في ظل استمرار شح العملة الأجنبية وتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية سواء المباشرة أو غير المباشرة وتدني إيرادات قناة السويس والسياحة وتحويلات المصريين بالخارج".
ولفت إلى أن تلك العوامل ستنعكس للأسف ضبابية شديدة على المستقبل الاقتصادي المصري، مما يعني مزيداً من تراجع الحصيلة الدولارية سواء من تحويلات العاملين في الخارج أو من الاستثمارات الأجنبية".
وحول الحلول قال نافع إنه "يجب أن يكون هناك تغيير شامل وكامل في الفكرة التي تقاد بها الدولة اقتصادياً"، مضيفاً أن "الأمر يتطلب في المقام الأول تغيير الأشخاص لأن الأفكار لا تأتي محلقة وإنما تأتي في رؤوس الأشخاص، فيجب أن يحصل تغيير مهم وتغيير قائم على معايير مختلفة عن تلك التي اعتمدتها المجموعة الموجودة حالياً".
ضغط الصندوق الدولي
من جهته قال أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأميركية في القاهرة هاني جنينة، "أعتقد بأن جزءاً كبيراً من التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري في 2024 سيحل الفترة المقبلة"، مشيراً إلى تصريحات مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا التي جاءت مطمئنة للحكومة المصرية، خصوصاً حول ملف التعويم، ورجح ألا يضغط صندوق النقد على القاهرة في خفض حاد لقيمة العملة ويقبل بأن يكون الخفض تدريجاً حتى الوصول إلى التعويم الكامل في نهاية 2024، مقابل كبح التضخم وخفض الدعم أو تحويله إلى دعم نقدي، فضلاً عن زيادة قيمة القرض إلى قيمة تراوح ما بين 8 و10 مليارات دولار مع حصول القاهرة على دفعات مسبقة لسداد الديون وتخفيف الضغط على الدولار.
وتابع جنينة أن "الحكومة ستتخذ حزمة إجراءات قوية في العام الجديد منها معالجة التضخم المرتفع بزيادة أسعار الفائدة"، متوقعاً طرح البنوك الوطنية شهادات استثمار جديدة قد تصل أسعار الفائدة بنحو خمسة في المئة على مدار العام بها 30 في المئة أو 27 في المئة على أقل تقدير"، مشيراً إلى أن رفع معدلات الفائدة سيضغط بالطبع على الموازنة العامة للدولة، ومستدركاً "لكن بالطبع ستقابله إجراءات أخرى تستهدف خفض الدعم أو تحوله إلى دعم نقدي في بعض السلع مثل البنزين أو الكهرباء التي قد تزيد أسعارها على المواطنين بعض الشيء في 2024 لتخفيف العبء عن الموازنة العامة.
وقال إن "المفاوضات مع الصندوق الدولي قد تخفف الأعباء عن مصر وسط جدول الديون المزدحم في 2024 بأن يمدد مثلاً جدول السداد مع الصندوق بدلاً من السداد على أربع سنوات ليكون على مدى ثمانية أعوام، لتخفيف العبء وتقليل الضغط على العملة الأجنبية نوعاً ما، مما يدفع مؤسسات التصنيف الدولية إلى تعديل نظرتها السلبية إلى مستقرة إيجابية على سبيل المثال في النصف الثاني من 2024".
وأبقى البنك المركزي المصري على معدلات الفائدة من دون تغير الخميس الماضي للمرة الثالثة على التوالي في آخر اجتماعات لجنة السياسة النقديـة بالبنك في 2023.
بيع 7 فنادق كبرى
والأربعاء الماضي، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال مؤتمر صحافي أن "صندوق الثروة السيادي المصري وقع صفقة لبيع حصة في محفظة تضم سبعة فنادق كبيرة لمجموعة طلعت مصطفى القابضة المصرية"، مشيراً إلى "إيرادات بيع حصص في أصول الدولة تصل إلى 5.6 مليار دولار"، ولفت إلى أن "حكومته أجرت دراسات أولية مع مؤسسة التمويل الدولية لتصفية 50 شركة"، مؤكداً أن قطاعي المطارات والاتصالات لهما الأولوية في برنامج بيع حصص في أصول الدولة.
محادثات صندوق النقد
وحول مفاوضات حكومته مع صندوق النقد الدولي قال مدبولي إن "المحادثات مع الصندوق لم تتوقف"، موضحاً "نتحدث في شأن خطة زمنية جديدة سيعلن عنها قريباً".
وقال مجلس الوزراء في بيان إنه بموجب الصفقة، استحوذت مجموعة طلعت مصطفى على 39 في المئة من أسهم الفنادق مع حق رفع الحصة إلى 51 في المئة، مضيفاً أن "صفقة الاستحواذ تهدف إلى ضخ استثمارات بالعملة الأجنبية بقيمة نحو 800 مليون دولار".