تزامناً مع الرغبة الجدية التي تبديها الحكومة الفرنسية، خصوصاً الرئيس إيمانويل ماكرون في العمل الحثيث للتوصل إلى نقطة وسط بين واشنطن وطهران تساعد في الحد من تصاعد الأزمة بينهما وتسمح بإيجاد مخارج عملية لأزمة العقوبات الأميركية وتفتح إمكانية العودة إلى طاولة المفاوضات بمشاركة طرفي الأزمة، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية عن سلسلة عقوبات جديدة تطال قطاع النفط الإيراني وتحديداً شبكة النقل النفطية التي تضم 16 شركة و10 أشخاص و11 ناقلة نفط، إضافةً إلى العقوبات التي أعلنها وزير الخارجية مايك بومبيو التي تطال البرنامج الفضائي الإيراني بكل مندرجاته. وجاءت الخطوة التي أعلن عنها المبعوث الخاص للرئيس الأميركي في الملف الإيراني براين هوك لتشكل ضربةً قاضية لكل الجهود التي تبذلها باريس بالتنسيق مع برلين ولندن ومعهما الاتحاد الأوروبي لفتح كوة مالية عبر تفعيل آلية التعامل المالي والتجاري، ولتضع حداً لكل الجهود المبذولة من أجل منح إيران قرضاً مالياً بقيمة 15 مليار دولار حتى نهاية العام الحالي 2019 في مقابل التزامها وقف مسار خفض تعهداتها ببنود الاتفاق النووي والعودة إلى المفاوضات بعد اكتمال عقد مجموعة دول "5+1" بمشاركة أميركية.
مفاوضات متشابكة
ويبدو أن الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير المالية الفرنسي برونو لومير إلى العاصمة الأميركية بعد اليوم الأول من المفاوضات المتشابكة التي أجراها الجانب الفرنسي مع الوفد الإيراني السياسي - الاقتصادي برئاسة مساعد وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي، لم تصل إلى النتيجة التي كان الرئيس الفرنسي يأملها، بخاصة في إقناع إدارة ترمب بالموافقة على الاقتراح الفرنسي الذي يقضي بقبول الرئيس الأميركي، تمديد إعفاءات بعض الدول لشراء النفط الإيراني، الذي سبق أن أبدى إيجابيةً بشأنها في قمة "مجموعة السبع" في مدينة بياريتس، جنوب فرنسا، وتحديداً في نقطة العائدات المالية لعمليات بيع النفط.
تعقيد الأمور
وزادت إدارة ترمب الأمور تعقيداً بالنسبة إلى الدور الأوروبي، عندما أعلنت نيتها فرض عقوبات على آلية التعامل المالي والأموال التي ستضخها هذه الدول لتفعيل هذه الآلية، فضلاً عن رفض واشنطن الاقتراح الفرنسي إقناع إيران بالعودة إلى التفاوض حول الشروط التي تضمنها الاتفاق النووي، المتعلقة بالضوابط المفروضة على النشاطات النووية بعد انتهاء المهلة الزمنية عام 2025 التي تضمنها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، خصوصاً أن واشنطن تريد تفاوضاً مباشراً حول هذه النقطة للمساهمة في الحد من هواجسها بشأن طموحات إيران النووية.
عودة إلى التشدد
عودة واشنطن وترمب إلى مسار التشدد بعد الأجواء الإيجابية التي سادت الأيام الأخيرة وأوحت بإمكانية الانتقال إلى حوار مباشر بين الطرفين، عززها التفاؤل الذي أبداه ماكرون حول احتمال عقد لقاء بين الرئيسين الاميركي والإيراني حسن روحاني. وأتت العودة الأميركية إلى لغة التصعيد نتيجةً لاستعادة النظام الإيراني سياسة التصلّب في رفض اللقاء، الأمر الذي لجم الاندفاعة التي عبّر عنها روحاني باستعداده لعقد لقاء مع أي شخص، إذا كان ذلك يخدم المصالح الوطنية والقومية للشعب الإيراني ويخفف المعاناة التي يتعرض لها، وذلك نتيجة ضغوط داخلية وعدم صدور موقف واضح من المرشد الإيراني علي خامنئي يدعم الخطوة التي ينوي روحاني اتّخاذها، ما دفع الأخير إلى العودة إلى "بيت الطاعة" والتأكيد أن القرار الاستراتيجي النهائي يصدر عن المرشد، في محاولة لنفي الشكوك حول إمكانية ذهابه إلى العصيان واتخاذ قرارات منفردة في هذا الشأن.
ويبدو أن الرئيس الأميركي وفريقَيْه السياسي والدبلوماسي ليسوا على استعداد لتقديم أي تنازلات على طريق التفاوض مع النظام الإيراني، خصوصاً في ما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية. ولا يتردد ترمب في وقت يفرض مزيد من العقوبات، في تحديد الشرط الوحيد الذي يعتبره محفزاً لطهران بغية التفاوض المباشر معه، وهو أن لا نية لدى واشنطن بتغيير النظام الإيراني، بل بتعديل سلوكه، أي أنّ على النظام في طهران قبول هذا الشرط والعودة إلى طاولة المفاوضات من دون أي مبادرة أميركية لخفض العقوبات أو الحد منها، وأن ذلك يجب أن يكون نتيجةً للتفاوض حول الملفات العالقة بين الطرفين، أي مستقبل البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي. وأن ما تتحدث عنه طهران من "إلغاء" شامل لكل العقوبات الأميركية لن يكون ممكناً، إلاّ بعد مسار طويل من التفاوض المباشر يطال الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط الذي وضعته واشنطن تحت عنوان "دعم الجماعات الإرهابية" ومسألة تغيير سلوك النظام في الداخل، الذي يندرج تحت مسمّى حماية "حقوق الإنسان والحريات" الأميركي.
الرسالة وصلت
لا شك أن النظام الإيراني فهم الرسالة الأميركية من وراء تحطيم الطموحات الفرنسية في فتح مسار تفاوضي يضمن الحفاظ على التزام إيران وبقائها في الاتفاق النووي، ويسمح لأوروبا وتحديداً باريس بالعودة إلى لعب دور فاعل في الأزمات الدولية، وفُهِم أيضاً أن الرئيس الأميركي لا يسعى فقط إلى التقاط صورة مع نظيره الإيراني، بل أن الهدف أبعد من ذلك، ويقع ضمن إطار تمسك واشنطن بكل الشروط التي وضعتها، لذلك فإن النظام في طهران استجاب للاستدراج الأميركي من خلال الإعلان
عن الذهاب إلى الخطوة الثالثة في مسلسل خفض تعهداتها النووية التي تتضمن تركيب أجهزة طرد مركزي متطورة من نوع IR6 ورفع مستوى التخصيب إلى نسبة 20 في المئة. وهذه خطوة تأتي بعد انتهاء مهلة الأيام الستين التي منحتها طهران للترويكا الأوروبية للإعلان عن تفعيل آلية التعامل المالي والاقتصادي وفتح اعتمادات مالية تضمن حصول إيران على عائدات بيع النفط، وهي خطوة قد تتبعها خطوة رابعة في ظل التمسك الأميركي برفض أي إمكانية لتلبية المطالب الإيرانية التي ما زال سقفها يتراجع، وقد يصل إلى مستوى تدفع فيه واشنطن النظام في طهران للوصول إلى مرحلة إعلان انسحابه من الاتفاق النووي، الذي يشكل هدفاً استراتيجياً لهذه الإدارة التي ستكون حينها قادرةً على فرض مفاوضات جديدة، بشروط جديدة، قد لا تكون طهران قادرة على مقاومتها.