Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود خير الله يتأمل تراجيديا الوجود شعريا

" بشر بأحجام دقيقة يكبرون في تجاعيدي" ديوان الزمن الذي يحين متأخراً

لوحة للرسام قاسم عثمان (صفحة الرسام - فيسبوك)

لا بد من أن يستوقفنا هذا العنوان الذي اختاره الشاعر محمود خير الله لأحدث دواوينه: "بشر بأحجام دقيقة يكبرون في تجاعيدي" (منشورات المتوسط). فعلى الرغم من غرائبية العنوان، فإنه يحيل إلى "ثيمة" الزمن الذي توحي به دلالة "التجاعيد"، بما يعني أننا أمام إنسان يقف قريباً من الموت، بينما نجد – على النقيض – بشراً بأحجام دقيقة يكبرون داخله. وعنوان الديوان هو أيضاً عنوان إحدى القصائد التي تؤكد "ثيمة" الزمن، حين يقول: "بعد كل هذا / فاتني أن أدرك هذه الحقيقة البسيطة". والحقيقة البسيطة التي يتحدث عنها هي أنه لم يدرك "أن بشراً بأحجام دقيقة يكبرون – كلَّ يوم – في تجاعيدي / أن جيشاً مترابطاً من الجوعى المذعورين / يولدون عادة من الأفراح والأتراح". نحن إذاً أمام صراع بين هؤلاء البشر ذوي الأحجام الدقيقة، وهذا الجيش المترابط من الجوعى المذعورين من جانب، و"الذات" من جانب آخر. بشر، أو جيوش، ينتظرون موت "الذات" لكي يبدأوا في التهامها على مهل. وفي هذه الحالة يصبحون مهيأين لبدء دورة حياتهم الكاملة، حاملاً بعضهم ملامح هذه الذات الفانية. وهو ما يوحي بأن هؤلاء البشر هم امتداد للذات. ففناء الذات أشبه بالقربان الذي يتطلبه استمرار الحياة؛ من خلال حركتي الميلاد والموت.

ينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام هي: "منتجع الصرخات"، "دمعة واحدة فقط يا رب"، "تجاعيد"، وكأننا أمام دورة موازية تبدأ بصرخات اللاجدوى والبكاء من اقتراب النهاية، وأخيراً التجاعيد المنذرة بهذا الغياب. والديوان في عمومه، يعكس رؤية تراجيدية للوجود وهيمنة الموت وتحولات المكان والطبيعة من حالة إلى نقيضها. يقول: "مهما كان العالم واسعاً / فالنهايات بادية عليه". ثم يقول – وهو ما يظهر تحول الطبيعة – "الأشجار على الجانبين تميل قليلاً / كأنها تبكي / الريح سامة والأمطار سوداء / الأرض بور والعشب أصفر / أما القمر فقد صار قنبلة غير مكتملة الاستدارة / معلَّقة في الفضاء / بانتظار نزع الفتيل".

القمر رفيق العشاق في التقاليد الرومانسية صار "قنبلة غير مكتملة الاستدارة"، والأمطار فاعلة الخصوبة صارت "سوداء"، والريح رمز التغيير صارت "سامة". وفي قصيدة "لقد هدمت الحفاراتُ حكايتنا"، تتحول الحديقة التي كانت ملاذ العاشقين إلى "كومة من الحصى". وتتوازى "ثيمة" الفقد مع تلك التحولات المشار إليها. ففي قصيدة "تعالوا نشتري مقبرة"، يسعى الشاعر إلى دفن كل ما لم يستطع امتلاكه... "تعالوا نشتري مقبرة / لندفن فيها البيوت الثمينة التي لم نستأجرها / والقطارات السريعة التي لم نستقلها / السفن التي لم نعبر على متنها أي محيط / والغرف الفاخرة التي لن نسكن فيها / والبالكونات / خصوصاً تلك التي لم نعرف طلتها أبداً / البالكونات الواسعة جداً / من طول بقائها أمام البحر".  

التخييل المفارق

في هذا السياق يصبح الحلم الذي يطلق آلية التخييل المفارق، وسيلة الشاعر للهروب من واقعه: "بعض السحب كانت تغفو في السماء / على شكل سرير/ أو تتكوَّر على نفسها / في وضع جنين". ويرتبط الحلم هنا بالتحليق، وهو "ثيمة" أخرى متكررة في الديوان. فهو لا يحلم بامتلاك الكلمات، بل بأن تكبر وأن يحملها الهواء إلى أعلى، "أحلم بالكلمات تطير مني / ذات يوم / كعصفور صغير / يجاهر بالحب أمام العالم / يبني بيته الهش هكذا - بمنتهى الفجاجة - تحت سماء الله الواسعة / وفوق خدود الأشجار". والحقيقة أنني لم أسترح لعبارة "منتهى الفجاجة " التي وضعها كجملة اعتراضية. فما وجه الفجاجة في أن يبني عصفورٌ عشه تحت سماء الله الواسعة؟ وربما كان استبدال "منتهى الشجاعة" بها أكثر إيحاءً؛ لأن البناء هنا يكون مواجهة لمن يترصدون هذا الطائر ويمنعون إقامة عشه. كما لم أسترح للصورة البيانية التشخيصية في "خدود الأشجار"، فهي قريبة من الخيال الرومانسي أو حتى الإحيائي، وبعيدة عن خيال قصيدة النثر الحداثية وما بعد الحداثية التي يعد خير الله أحد أبرز شعرائها. واختيار العصفور، هذا الكائن الرقيق الهش، يختلف، مثلاً، عن اختيار العقَاد للعُقاب في قصيدته التي يقول في أحد أبياتها: "لعينيك يا شيخ الطيور مهابة / يفر بغاث الطير عنها ويهزم". لقد ظلت مهابة الشباب مستمرة معه في شيخوخته. أما محمود خير الله فيختار ما يتماهى معه في الضعف والهشاشة. فمهابة العُقاب دائمة، بينما تحليق الذات ينتهي بالسقوط، "لا أذكر – حتى – كم مرة سقطتُ".

حتمية النهايات

 

 

هذا الإحساس بالنهاية والسقوط، يدفع الشاعر إلى عدم التشبث بالأرض أو بالبيوت الراسخة. إنه لا يريد سوى أن يكون "من هذه الطيور الشقية / التي تحمل أعشاشها – بين فكيها – وتمضي". إنه "ذات" عابرة مثلها مثل السحاب والطيور. ذات تشبه الأشباح التي لا توقفها الجدران عن العبور. لكن هذا الحلم يتحول إلى ما يشبه الكابوس، يقول: "في أحلامي الأخيرة / صرت – طوال الوقت – أجري / الشوارع من تحتي تتلوى كالثعابين / والسكاكين على الأشجار تجرح أطرافي / لكنني أجري". وفي قصيدة "بعدما أموت" لا يريد الشاعر أن يتحول إلى "مانيكان عجوز" يقف وحيداً وراء الزجاج، أو "ساعة حائط" تنام في مكانها عمراً كاملاً، أو "نافذة واسعة" وسط المقابر. إنه يريد فقط أن يصبح "عصفوراً نيلياً صغيراً / يبني بيتاً هشاً / فوق الشجرة العتيقة / التي تلقي برأسها في النهر"، فيما يشبه العودة إلى الطبيعة والانطلاق في رحابها، والهروب من مستجدات الحداثة المقيدة لحركة الإنسان.

ويتجلى التوحد مع الطبيعة في رؤية الأم للنمل كأن تعتبره "واحداً من أبنائها / تعامله بوصفه جزءاً من مكونات البيت". هذا التراسل بين الطبيعي والإنساني يظل موضوعة متكررة، ففي "كبيتٍ تحن إليه الذكريات": "كان العصفور "يزأر" منتفضاً / معلقاً قشة من شجر الخريف بين فكيه / بينما يطير بإصرار بين البيوت". لكن هذه القشة الخارجة من قلب هذا العصفور تسقط في يد الشاعر وتكبر وتصير "بيتاً تحن إليه الذكريات". والزئير، كما هو معروف، هو صوت الأسد، وأظن أنه من غير المناسب إسناده إلى عصفور بكل هذا الضعف الذي أشرنا إليه. وفي قصيدة "مثل حفنة من الغبار"، ينظر إلى النجمة كما لو كانت دمعة فضيَّة حين يقول: "هذه ليست نجمة / عالقة في سماء الله المظلمة / هذه دمعة فضيَّة / علّقها الحنين / في ذيل القمر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهناك ما يمكن أن أسميه هجرة التعبيرات حين يستعير الشاعر عنوان سيرة عالم الاجتماع سيد عويس "التاريخ الذي أحمله على ظهري"، مع استبدال العمر بالتاريخ: "طويل وصدىء / مثل مفاتيح البيوت القديمة / هذا العمر الذي أحمله على ظهري". وربما كان من المفيد أن نشير إلى توظيف الشاعر لوصف المفاتيح للدلالة على المستوى الاجتماعي لأصحابها. فإذا كانت مفاتيح البيوت القديمة طويلة وصدئة، فإن مفاتيح بيوت الأثرياء تظل لامعة: "لا أحب أن أكون من هؤلاء / الذين يملكون البيوت / بينما تلمع المفاتيح كالكلاب الوفيّة / في أياديهم". وأعتقد أن القسم الثاني تغلب عليه موضوعة الغياب أو الموت تحديداً الذي يأتي على النقيض من عنفوان الثورة، "قد يرجع الغائبون يوماً / ليسألوا عن الظلال / تلك التي تركوها / على أرضية الميدان / - ذات يوم - / مجروحة ومثخنة / تحلم بالثورة / .../ قد يرجعون ليسألوا عن الأحذية التي مشت في الثورة / والكوفيات التي تمزَّقت / والدراجات النارية التي أهلكها العويل". وفي قصيدة "كان يحلم"، يظل هذا الرجل الذي أنجب قبيلة من الرجال متمنياً أن تكون له طفلة تمنح السعادة نغمات جديدة. لكنه يموت ويظل نعشه "يحوم بين الشوارع بلا صراخ / وبلا جدوى تقريباً؛ لأن دمعة واحدة – حتى – لم تسقط في جنازته".

على أن الموت نفسه أصبح أمراً معتاداً بل مألوفاً، كما يبدو في "الموت كما في شريط سينمائي تالف": "كل مرة يمر فيها الموت بالقرب مني / - هذه الأيام - / لم أعد أشعر بالخوف / لقد فقد الموت جلاله / وأصبح مضحكاً في بعض الأحيان / تفتح النافذة صباحاً / لتشم رائحة العالم / فيندلق الموت كله فجأة في وجهك". فالنافذة التي هي انفتاح على العالم لا يدخل منها سوى هذا الموت الفجائي، وتتأكد المفارقة في أن كل هذا يتم في صباح يوم جديد أو حياة جديدة. وأحياناً ما يصبح الخيال خيالاً طفولياً بريئاً فالشاعر يحلم أنه يقود سيارة وهو مازال في بيته البسيط: "سعيداً كنت أقود سيارتي كل يوم باتجاه المغيب / ماداً قدمي فوق سجادة البيت / التي جمعتها أمي من بقايانا وملابسنا / مديراً بين يديَّ غطاء نحاسياً نظيفاً / لأكبر "حَلَّة" في مطبخ أمي". كما تبدو قصيدة "قميص بمربعات كبيرة فوق الصدر"، أقرب إلى القصة القصيرة، في تحديدها للزمان والمكان والحدث وحركة الشخصيتين: "ذات فجر، جربتُ أن أكون شبحاً، جلستُ في الشرفة. أطفأتُ الأنوار. فجاء لص يحوم حول "حبل غسيل"، عينه كانت على الأطراف المستسلمة لقميص ذي مربعات كبيرة". إلى هنا يبدو الأمر عادياً، لكن النهاية تفتح الحكاية على أفق مختلف حين يتم تبدل الأدوار، فنرى الشاعر شبحاً ونرى اللص شاعراً فشل في رؤية الأشباح التي تحكم أطراف المدينة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة