أطلق الشاعر أدونيس سلسلة شعرية تحمل عنوان "إشراقات" تهدف إلى تقديم أصوات شعرية عربية، نسائية تحديداً، يقترحها ويختار نصوصها شاعر "أغاني مهيار الدمشقي"، وهي سلسلة "مغلقة"، بحسب الشاعر، تصدر عن "دار التكوين- دمشق" خلال فترة زمنية محدودة، قد لا تتعدى السنة الواحدة.
وضمت الدفعة الأولى من سلسلة "إشراقات"، "كتاب الجسد"، للشاعرة التونسية لمياء المقدم، و"غزالة تعرج نحو منفاها"، للشاعرة السورية ناريمان حسن، و"غناء في الطريق إلى المقبرة"، للشاعرة السورية أفين حمو، و"غوايات كاهنة الضوء"، للشاعرة السورية مريم الأحمد. وتضم الدفعة الثانية شاعرات من مصر والمغرب والسعودية ولبنان وفلسطين.
ترى، هل يبدو أدونيس، من خلال إطلاقه هذه السلسلة التي تتفرد بنشر أعمال شاعرات من الأجيال العربية الجديدة، منحازاً إلى الشعر الذي تكتبه المرأة؟ ولماذا اختار أعمال شاعرات تحديداً؟ هل هذا موقف ضد - ذكوري، يولي المرأة الشاعرة اهتماماً خاصاً ويعيدها إلى الواجهة بعدما عاشت ردحاً من الزمن شبه مهمشة وشبه محرومة من حقها، في مجتمع عربي تتحكم به السلطة الذكورية على أكثر من مستوى؟ هل يسعى أدونيس إلى إذكاء شعلة "معركة" ثقافية وشعرية يتواجه فيها الشعراء والشاعرات؟ لعل أقل ما يوصف به هذا المشروع كونه يمثل مغامرة خطرة، قد تنجح كل النجاح في بلورة المشهد الشعري الذي تصنعه المرأة، وقد تعجز عن تحقيق غايتها تبعاً للسجال التي ستثيره، والذي قد يكون سلبياً في وجه ما، وبخاصة لطرحه القضية النسوية/ الذكورية على بساط النقد والتأويل في الأوساط الأدبية الراهنة، علماً أن أدونيس يرفض مفهوم النسوية ولا يميز بين صوت الشاعرة وصوت الشاعر، كما ورد في بيانه الصادر في هذه المناسبة، بل هو يتحدث عن شعر المرأة الذي يخاطب الجسد ويستوحيه، كاسراً جدار "التابو" أو "التابوات" المتعددة. هل تتمكن أصوات الشاعرات من اختراق المعترك الشعري بدواوينهن هذه؟ هل يتمكنّ من "زعزعة" الأزمة التي ترين على الشعر العربي راهناً؟ لعل الأجوبة لا تتاح إلا عبر قراءة الدواوين هذه، التي تكون الحكم الأخير، مع صرف النظر عن ذائقة أدونيس نفسه. وما يجب ذكره هنا أن عنوان السلسلة يحيل إلى العنوان الذي أطلقه الشاعر الساحر رامبو على ديوانه البديع الذي أحدث ثورة في الشعر العالمي وما برح يحدثها.
خارج الثنائية
عن هذه السلسلة يقول أدونيس في ما يشبه البيان الذي كتبه برصانته المعهودة: "سفر يخلص الشعر من الثنائية الثقافية التقليدية: الجسد/ الروح، ويفتح فضاء الكينونة التي لا تتجزأ. تفكر وتكتب فيما تحس وتحلم وتتخيل. وتحس وتحلم وتتخيل فيما تفكر وتكتب: ذلك هو أفق المشروع الذي تجسده هذه السلسلة من المجموعات الشعرية، التي تظهر، اليوم الدفعة الأولى منها، بعد مشقة طويلة". ويضيف: "هكذا سيرى القارئ، القارئ الخلاق، أن القصيدة في هذا الأفق حقل غني متنوع الطاقة، وأن الكلمات كائنات حية، وأن الشعر يغير العالم. يخلق علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء، تخلق بدورها لهذا العالم صورة جديدة، جمالاً آخر، وحباً آخر، وعمقاً آخر، وحقائق أخرى".
سيرى القارئ شعراً يتخطى الانفعال العاطفي البسيط أو الساذج، الذي يوصف به، عادةً، الشعر الذي تكتبه المرأة. ويسمى عادةً "الشعر النسائي" الانفعالي العاطفي، تمييزاً له عن الشعر الذكوري الذي يوصف بالقوة أو المتانة أو الفحولة. وهذه، في العمق، صفات تجيء من "المجتمع"، من خارج الشعر، لا من الشعر نفسه، بحصر المعنى.
ويمكن، إن كان لا بد من الوصف، أن نصف الشعر الذي تقدمه هذه السلسلة بأنه وهاج، حيوي، متوقد، متفجر وراسخ. إنه، جمالياً على الأخص، باهر وفاتن. يوقظ المشاعر كلها، ويتيح لأشياء كثيرة نائمة فينا أن تستيقظ وتتحرك". ويقول: "هكذا تمثل هذه السلسلة منعطفاً تاريخياً في اللغة الشعرية، وفي القصيدة على السواء. ينهض هذا المنعطف على مبدأين: الأول، الاستبصار في الجسد، والإيغال في التعرف على أحواله، كشفاً عنها وعن آفاقها، والثاني، الكتابة في هذا الضوء، وفي معزل كامل عن الثقافة السائدة في وجهيها، الاستعادي – التقليدي، الآتي من الماضي التقليدي، والاستعاري – التقليدي أيضاً الآتي من الخارج الأجنبي، عبر الترجمة، على الأخص".
وختم أدونيس: "أتوجه بالشكر العميق للهيئة التي أتاحت تحقيق هذا المشروع: أولاً (مؤسسة غسان جديد للتنمية)، وعلى رأسها الأستاذ فداء جديد، التي قدمت منحة مالية خاصة لنشر هذه السلسلة، توكيداً على جدتها وأهميتها – فنياً وتاريخياً، ثانياً، الفنان الكبير أحمد معلا الذي قدم تصميماً متميزاً ومميزاً، فأعطى طابعاً خاصاً للسلسلة، ثالثاً الناشر الأستاذ سامي أحمد، صاحب (دار التكوين) الذي استجاب بفرح واعتزاز للقيام بنشر السلسلة وتوزيعها، رابعاً، الشاعر أسامة إسبر، الذي ساعدني شخصياً في إعداد السلسلة، خامساً، السيدة أرواد إسبر التي أشرفت على إدارة المشروع وتسيير شؤونه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومعروف أن "دار التكوين" منذ تأسيسها عام 2000، وقفت إلى جانب الشعر والشعراء، وشجعت أصواتاً شعرية جديدة لها حساسيتها الخاصة، وأطلقت جائزة الديوان الأول عام 2009 التي استمرت حتى عام 2014. فكان من الطبيعي لها أن تدعم مشروع "إشراقات" وتنضم إليه.
أما مصمم الغلاف الفنان أحمد معلا، فهو مصمم غرافيكي ورسام، تجمعه بالشعر وشائج ومراس، وفي حماسته لهذه التجربة، اقترح العودة للتربيعة الأولى، إلى الحد الأدنى الأكثر تقشفاً لصياغة شخصية غرافيكية لأغلفة مجموعات شعرية. "شطرنجية" محكمة، تتهندس في المخيلة لترسم أسماء الدواوين والشعراء، وتتحرك الحروف واتصالاتها أو انتقالاتها بما يتناسب والفضاء المتاح، أو بما يمليه التفنن في تشكيل جسد الكلمة. وهذا ما سيعطي للمجموعات هوية بصرية واحدة، فالإطلالات تكاد تتساوى وتتماثل في محاولة لتقديم تجاربنا الشعرية بعدالة ودون انحياز إلا للشعر.