ملخص
تطرح مرحلة ما بعد الحداثة رؤية لتذويب فكرة الهامش في الثقافة التاريخية بحيث يتم إزالة المسافات الفاصلة بين الفقر والثراء أو مجتمعات الريف والحضر... إليكم أبرز مظاهرها حاضراً ومستقبلاً
تطرح مرحلة ما بعد الحداثة في الفكر الغربي نظرة مغايرة للتاريخ في مستوياته المدركة والكلاسيكية، أو بمعنى أوضح في الإطار الحداثي للتاريخ، بوصفه تسجيلاً لوقائع الماضي أو مجرد قراءات في الأحداث ومجريات ما أنتجه الإنسان في إطار طبقات الصراع الذي ينشد السلطة والهيمنة.
هذه النظرة الجديدة تقوم على فلسفة التاريخ بوصفه (تأريخاً) هذا الإبدال الذي لا يعني القطيعة، إنما يصور لنا قراءة تقوم على تفكيك بنى الزمن الخطي وكرونولوجياته المعهودة، أو تقسيم الوقائع بناءً على المفهوم المرتبط بالسلطة وأنساق القوة التقليدية.
المفهوم ما بعد الحداثي
أولاً علينا أن نفهم ما نقاط أو تأسيسات مفصليات البعد الحداثي للتاريخ، التي سيتم إعادة تشكيلها أو بلورتها في نسق جديد يصب في المعنى والدلالة ما بعد الحداثية، ببساطة هي المنهج الخطي والوقائع التي يتم رصدها، والتحليل الذي يقوم على فكرة الصراع سواء الطبقي كما في الماركسيات أو وفق مفاهيم كالعنف... إلخ، غير أنه مع فجر ما بعد الحداثة ومنذ فترة مبكرة في النصف الثاني من القرن الـ20، ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان كل نسق حداثي يتعرض لهزة وإعادة تأويل ومن ثم رسم جديد.
كما في الفنون والعمارة والأدب خضع التاريخ لجدليات جديدة ومتغيرة في النظر إليه، إذ لم يعد تعريف العالم قائماً على التصورات القديمة "الحداثية"، إذ إن التاريخ في حد ذاته لم يتغير، لكن تغيرت النظرة إليه بوصفه معطى فلسفياً وجمالياً، حتى داخل فكرة السلطة والعنف التي ستفكك بمستويات جديدة حين تخضع للشك والبناء والتركيب وفق رؤى مختلفة عن التصورات السائدة أو المألوفة، وهذا يجعل التاريخ في حد ذاته عملاً إبداعياً أكثر من كونه مجرد شكل من أشكال الدراسات أو جمع الوثائق وتحليلها وغير ذلك من العمليات الروتينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد نشأ وعي جديد بأن السرديات أو القصص التاريخية بمختلف أنواعها، سواء كانت واقعة فعلياً في حيز التاريخ أو هي أساطير أو سرديات متخيلة، ما هي إلا مجرد تصورات يمكن النظر إليها من جديد، للخروج بعدد لا نهائي من القراءات البديلة والقصص المستندة إلى رد الاعتبار للتنوع والتعددية في فهم الأحداث التاريخية، ليصبح التاريخ هنا صورة من صور التفلسف، الذي يتطلب إعمال الوعي المتقد، ويدرس حركة المتغير ويسائل الإنسان في خط الزمن المتحرك. إننا أمام صورة من صور "الميتا تاريخ" وليس مجرد التاريخ.
مرتكزات التاريخ البديل
تطرح ما بعد الحداثية تصوراً عن التاريخ البديل، بوصفه يعطي طريقاً جديداً لوعي المجتمعات والسياسة والتحركات الاقتصادية والثقافية، أي أنساق الحياة عامة. وهي عندما تقدم ذلك البديل تقوم على رد الاعتبار لكل ما هو منسي أو مسكوت عنه، أو ما تم تجاهله أحياناً بشكل قصدي، تضعنا أمام أمثلة منها فاعلية الأصوات المنسية أو المضطهدة أو المنكسرة في حركة التاريخ المعلن عنه، ففي ما بعد الحداثة سيكون تشكيل الوقائع قائماً على عيون جديدة لم تكن مألوفة في وقائع التاريخ الكلاسيكي المعلن.
البعد الثاني هو إزالة المسافات الفاصلة بين الفقر والثراء، أو مجتمعات الريف والحضر، أي تذويب فكرة الهامش في الثقافة التاريخية التي نتجت عن تصورات ترى بأنه دائماً ثمة مراكز وهوامش.
لقد تهشمت مثل هذه الأفكار، ولم يعد ثمة مركز حقيقي للعالم ولا هامش بعينه، وهناك تداخل وتشابك معقد يجعل معنى التاريخ وفلسفته على مدى العصور أكثر تلغزاً ويتطلب نظريات جديدة للإدراك وخلق القيمة المعرفية لمعنى أن ندرس التاريخ أو نتكئ عليه في إمكانية تشكيل المستقبل.
أيضاً لا يجب أن ننسى البعد الثقافي ودوره في المعرفة التاريخية، وقد أعيد تعريف الثقافة في فكر ما بعد الحداثة، وأصبحت تحتوي الجوانب الأكثر شعبية، التي كان ينظر إليها على أنها ضمن سياق الهامش الذي تم نفيه وإدماجه في المراكز.
قراءة الثقافات الشعبية وأثرها في التصور الثقافي الكلي للدولة والمجتمع ستعطي نظرات مغايرة لمفاهيم الفكر السياسي والاقتصادي، ومن ثم ستجعلنا نؤسس فاعلية لنظريات جديدة في تشكيل العالم من حولنا وإعادة وعيه وتعريفه.
بشكل عمومي فنحن أمام تحول نظري له تطبيقات عملية على مجمل مسار الوعي بالتاريخ، ليصبح لدينا فرصة أفضل لفهم المجتمعات التي نعيش فيها وكل أنساق الحياة ومجمل تصورنا عن ذواتنا، ستتولد مناهج وقصص جديدة وسرديات أكثر نضوجاً على رغم تمظهرها باللاتشابكية والتعقيد والانحياز لصيغة غير معهودة عن وعينا المدرك والمترسخ عن التاريخ.