من سمات الروائي البريطاني إيان ماك إيوان عدم تكرار نفسه، من رواية إلى أخرى. وهذا ما نستنتجه في "أمثولات"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "غاليمار"، وتختلف كلياً عن رواياته السابقة، سواء في حجمها الضخم (500 صفحة)، الذي يناقض الإيجاز الذي عوّدنا عليه هذا الكاتب، أو في مضمونها الذي يبتعد عن الخيال العلمي أو الغريب المعتمَد في أعماله الأخيرة، للترسّخ مجدداً في واقعية اجتماعية وسياسية صنعت شهرته، ولمع فيها بفضل نظرته الثاقبة التي تلتقط أقل تفصيل، ولغته البلورية، وطريقته الفريدة في إرساء شخصياته داخل حقبة وديكور محددين.
في روايته الجديدة، يضع ماك إيوان مهاراته هذه في خدمة شخصية واحدة، رولاند باينز، تتقاسم معه تاريخ ولادته (1948) وتفاصيل سير ذاتية أخرى كثيرة. لكن بخلافه، رولاند هو "إنسان بلا صفات"، مثل شخصية روبير موزيل الشهيرة، يعتبر نفسه شاعراً محترفاً، بينما لم يتمكن من خطّ سوى قصائد معدودة، ويرى حياته في لندن تنهار فجأةً عام 1986، حين تهجره زوجته أليسا بعد فترة قصيرة من ولادة طفلهما، وتختار تكريس وقتها للكتابة، بدلاً من الاضطلاع بدورها الأمومي. خيار يصدمه ويدفعه إلى إجراء عمل استكشاف مثير لماضيه بغية فهم مصادر فشله.
هكذا تنكشف لنا سنوات عمره الأولى التي قضاها في ليبيا، في كنف والد عسكري مستبّد، ثم عودته القسرية إلى إنجلترا عام 1962، حيث التحق بمدرسة داخلية في سن الثانية عشرة، وبدأ دروس عزف على البيانو مع معلمته القاسية والفاسقة، الشابة ميريام كورنيل، التي شكّلت مصدر استيهاماته الإروسية الأولى، قبل أن تُشرِف على تربيته الجنسية، في سريرها. تجربة مفصلية في حياته ينتقل بعدها إلى ألمانيا حيث يقع في غرام أليسا، التي تشاركه ميوله الأدبية ولا تلبث، بعد تركه مع طفلهما، أن تصبح واحدة من أشهر الكاتبات في أوروبا، بينما "يتوارى هو في حواشي سيرتها الذاتية".
لكن قبل أن يحصل ذلك، تمرّ سنون طويلة يتصدّع العالم فيها أكثر فأكثر، ويعجز رولاند عن الإمساك بزمام حياته واستخلاص أي درس منها. لكن ماذا لو أن العثور على معلمته السابقة ميريام هو الحل، خصوصاً أن مغامرته المبكرة جداً معها شكّلت "اللحظة التي انكشف فيها كل شيء وارتفع بغرابة ذيل طاووس وروعته المسرفة"؟ مغامرة لطالما جهد رولاند لإعطائها شكلاً أخلاقياً، وتقف من دون شك خلف ارتيابه من ذاكرته ونواياه ورغباته: "ستقضي بقية حياتك في البحث عما لديك هنا"، تحذّره الآنسة كورنيل حين تشعر برغبته في الإفلات من قبضتها، مضيفةً: "إنه توقّع وليس لعنة". لكنه سيكون الاثنين معاً.
حياة غير مختارة
وفعلاً، سينجرف رولاند بعد هذه المغامرة "داخل حياة غير مختارة"، ويصبح كائناً ارتكاسياً، وليس صاحب قرار. سينجرف نحو الزواج والأبوة، نحو مهن مختلفة، وأمكنة مختلفة، داخل بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، عابراً بحياد المراقب أزمة قناة السويس، أزمة الصواريخ النووية في كوبا، توحيد أوروبا، الغلاسنوست والبيريسترويكا، التاتشرية وأزمة الإيدز، غزو العراق، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى جائحة كوفيد: "بأي منطق، بأي دافع أو استسلام يائس، انتقلنا جميعاً، ساعة بعد ساعة، في ظرف جيل، من رعشة التفاؤل بسقوط جدار برلين إلى اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي"؟ يسأل ماك إيوان داخل روايته. وجوابه هو رولاند بالذات، أي رجل يرى دائماً في تردُّده عجزاً، وفي رفاهيته حظاً.
وفي هذا السياق، "أمثولات" هي في الواقع تشخيص دقيق للأنتروبيا (فوضى) الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها عالمنا، ولهدر الطاقات الناتج منها. تشخيص قارص لكن إنساني للتردد الفردي داخل مجتمعاتنا، وخصوصاً لآفات جيل ما بعد الحرب الذي ينتمي الكاتب إليه، واسترخى أبناؤه "بنشوة في حضن التاريخ، مستكنّين في طيّة صغيرة من الزمن، يلتهمون القشوة بكاملها". جيل يشكّل رولاند نموذجاً مثالياً له، كونه تربّى في كنف والدين يتسلّط شبح الحرب عليهما، واختبر عجزهما عن حبه إلا من مسافة كبيرة لا تقلّ عن آلاف الكيلومترات، وشاهد في مدرسته الداخلية البعيدة رفاقه يتعلمون كيف يكونوا "أوصياء محافظين على النظام القائم"، ويشحذون أدوات سلطتهم، أي التهكم والازدراء بالآخر واللامبالاة، قبل أن يشاهدهم في سن الرشد يستخدمون هذه الأدوات كأسلحة، لكن من دون أن يشكّل ذلك دافعاً له كي يفعل أي شيء، مما يوقعه في دائرة التواطؤ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنتيجة، فإن الشخصيات النسائية هي التي تشكّل مصدر جاذبية داخل هذه الرواية. فمقارنةً بها، يبدو رولاند باهتاً، رمادياً، بدءاً بالآنسة كورنويل التي ستضطلع بتربيته جنسياً، وإن بشكل مبكر جداً، بموازاة تلقينه العزف على البيانو، مروراً بوالدته التي يخفي صمتها قصة مثيرة حصلت معها في زمن الحرب، وبصديقته الحميمة التي تعلّمه كيفية تقبّل الموت ومعانقته، وبحماته التي تتمكن، مباشرةً بعد الحرب، من عيش الحياة التي تريدها، ومن سرد تجربتها داخل دفتر يوميات يتعلم من خلاله الكثير عن تلك الفترة الصعبة من تاريخ أوروبا، وصولاً إلى ابنتها أليسا، زوجته، التي تختار درب الكتابة بدلاً من الحياة الزوجية والأمومة، وتفرض بذلك احترامها عليه، وإن بمرارة. نساء سيتعلم رولاند منهن كل شيء، خصوصاً ضرورة الإصغاء لما يعتمل داخلنا لتحقيق ذاتنا.
طبعاً، فكرة المرأة كأداة ومحفّز لأرفع طموحات الرجل، ليست جديدة، ويمكن أن تبدو كليشيهاً، لكن أياً من شخصيات الرواية النسائية لا تسعى بطريقة متعمّدة إلى تلقين بطلها دروساً، بل هو الذي يستخلص هذه الدروس بنفسه من علاقته بكل منهن وتأمّله في مساراتهن، علماً أنه "من المؤسف إفساد قصة جيدة بتحويلها إلى درس"، كما تقول حفيدة رولاند له. قول يلخّص مسعى ماك إيوان في هذه الرواية، على رغم عنوانها. فإنسانيته المتشككة تنقذه من محاولة تلقيننا أي درس، لكنها لا تتعارض مع جهده الثابت على طول نصه في تعرية أمامنا القوى، الصغيرة والكبيرة، التي تحرّك البشر من دون علمهم، سواء تعلّق الأمر بتيارات التاريخ الكبرى، بقوانين الطبيعة والكون، باللاوعي، أو بمجموع الحوادث والمصادفات والالتباسات التي توجّه حياةً ما وتقولبها.
ولإنجاز ذلك، يبتكر هذا الكاتب اللامع ليس أقل من حياة كاملة لشخص عادي، تعانق قصتها ظرفها التاريخي إلى حد يجعلها تسائل قيمة اللازمنية المصطنعة للكثير من الروايات المعاصرة. وبمتابعته، في سيرورة ابتكار هذه الحياة، خيوط قصتها التي تذهب في جميع الاتجاهات، يجعلنا، بانتباهه الشديد لأقل تفصيل فيها، نعرف صاحبها أكثر من معظم الأشخاص الحقيقيين الذين يحيطون بنا.
ولذلك، لم يبالغ ناشر الرواية الفرنسي في وصفها بالـ "طموحة" ومدح نفَسها الملحمي، إذ يختلط فيها الحميمي وأحداث التاريخ الكبرى بألمعية نادرة، وتقدّم لنا بورتريه مذهلاً في واقعيته لبطل مضاد، ومن خلاله، تأملاً عميقاً في دعوة الكتابة وما تتطلبه من تضحيات.