ملخص
هل هناك تطور حقيقي في ما يتعلق بالتناول الدرامي العربي لحياة مرضى التوحد أم أن الأعمال الناجحة في هذا الصدد مقتبسة من نظيرتها العالمية؟
"لو يعلم صناع العمل كيف تحترق قلوب الأمهات قلقاً على أبنائهن المصابين بمرض التوحد كلما وقع نديم أحمد أبو سريع في ورطة لقدموا مشاهد أكثر رأفة وحناناً".
كان هذا ملخص تعليق ضمن مئات أخرى تقيّم أحداث المسلسل المصري "حالة خاصة" الذي بدأ عرضه أخيراً من بطولة طه الدسوقي والذي يتناول حياة شاب مصاب بطيف التوحد يتمتع بذكاء حاد، لكن عدم قدرته على التفاعل الاجتماعي كما ينبغي يجعله يتعرض لمواقف محرجة في عمله، والأقسى أنه يواجه ظلماً مجتمعياً ومهنياً من قبل من يستغلون حاله وحبه للانطواء والعزلة وارتباكه أمام أي موقف بعيداً من المسار المحدد.
ومن خلال لفتات إنسانية بسيطة يجد المشاهد نفسه في صف هذا المحامي النابه الذي يعاني مشكلة كبيرة، لكن معظم أفراد المجتمع ليسوا على دراية بكيفية التعامل معها، ومن هنا جاءت موجة التعاطف، لا سيما ممن لديهم أبناء أو معارف يعانون حالات مشابهة.
فعلى رغم أن التقديرات تشير إلى أن هناك مليون مواطن في الأقل لديهم سمات أو أطياف مرض التوحد في مصر، إلا أن الاهتمام الإعلامي يبدو شبه معدوم، مما انعكس على التناول الدرامي بدوره، فنجد أن الأعمال التي تجرأت وغاصت في هذا العالم نادرة للغاية، والأمر ينطبق على المحيط العربي أيضاً، في حين أن الوضع عالمياً مختلف تماماً، فهناك اهتمام خاص بتلك الفئة مما يسهم في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة التي قد تبالغ في تقدير معاناة مرضى التوحد أو على العكس تقلل من مدى اختلافهم.
تصنف اضطرابات طيف التوحد بحسب منظمة الصحة العالمية على أنها مجموعة من الاعتلالات المرتبطة بنمو الدماغ، ومن أبرز سمات هذا المرض وجود أنماط لا نموذجية من الأنشطة والسلوكات مثل صعوبة الانتقال من نشاط إلى آخر والاستغراق في التفاصيل وردود الفعل غير الاعتيادية على الأحاسيس، إذ ينتشر بنسبة واحد في المئة في الأقل بين سكان العالم، ويتميز بالتباين الشديد بين الحالات سواء في ما يتعلق بمعدلات الذكاء والقدرة على التفاعل وكذلك مدى قدرة الحالة على التمتع بالاستقلالية من دون الحاجة للمساعدة.
تفاعل مجتمعي وقصة غير أصلية
ربما تلك الاختلافات هي ما جعلت كثيراً من أفراد الأسر التي لديها تجارب مع التوحد يدخلون في نقاشات على مشاهد "حالة خاصة" الذي ينفصل بطله عن الواقع باللجوء إلى الموسيقى فلا تفارقه سماعات الأذنين، معتبرين أنه من الأعمال القليلة التي وضعتهم في الاعتبار ومطالبين في الوقت نفسه بالتمتع بالحساسية في استعراض الأزمات التي تعترض حياة البطل لأنهم يخافون بالفعل على ذويهم بما يكفي من نظرة المجتمع وتعامل المؤسسات معهم، وتأثير هذا في مستقبلهم المهني والصحي، فهل بالفعل الدراما العربية مقصرة في حق مرضى التوحد؟
وهل المشكلات النفسية والعصبية بصورة عامة بعيدة من اهتمام صناع الدراما، إلا قليلاً، بدليل أن حتى غالبية الأعمال التي تدور في هذا السياق هي مستوردة ومأخوذة من نسخ عالمية؟ حتى إن مسلسل "حالة خاصة" الذي فتح الملف مجدداً وعلى رغم تميزه إلا أنه بشهادة المتابعين وبالتدقيق في سير أحداثه، مرجعيته أعمال أميركية وتركية وكورية جنوبية تناولت حياة مريض التوحد حاد الذكاء الذي يفوق زملاءه مهارة في العمل، إلا أنه يرسب بجدارة في أول امتحان مجتمعي، ولا يتردد في الإتيان بأسئلة تبدو بديهية تضعه في مواقف محرجة وتثير الضحك أو الأسى، فالتفاعل الذي حدث مع العمل يشير إلى أن الهم الإنساني المشترك، بخاصة لأصحاب هذا المرض مماثل في المجتمعات كافة مع اختلاف الدرجات ومع الوضع في الاعتبار طبيعة كل ثقافة.
العمل يذكّر المشاهدين بتفاصيل "الطبيب الجيد ـ Good Doctor" المسلسل الكوري المعروض عام 2013 الذي قدمت منه نسخة تركية، أما النسخة التي تفوقت في شهرتها على الأصلية فهي الأميركية المعروضة في ستة أجزاء حتى الآن بدءاً من عام 2017 بطولة فريدي هايمور الذي قدم دور الطبيب البارع الذي يعاني "متلازمة أسبرغر" وهي من ضمن أطياف التوحد، المسماة أيضاً متلازمة العباقرة، ويتماس معه المسلسل المصري الذي كتب له السيناريو مهاب طارق وأخرجه عبدالعزيز النجار وبطولة غادة عادل وهاجر السراج، في تيمات كثيرة بينها الاعتماد على الصديق الأكبر الذي يبدو في منزلة الأب الذي ينتشله من هواجسه العاطفية وشعوره بأن العالم الذي يتعامل معه شرس ومخيف.
ويتضمن "حالة خاصة" أيضاً لمحات من المسلسل الأميركي "غير اعتيادي ـAtypical" وبطله المهووس بجمع المعلومات وهضمها، لكنه اجتماعياً يواجه تحديات جمة ويعشق استعمال سماعات الرأس، في حين أن خط سير أحداث العمل يتشابه كثيراً مع المسلسل الكوري "Extraordinary Attorney Woo ـ المحامية الاستثنائية وه" الذي عرض قبل عامين ويدور حول محامية لديها اضطرابات طيف التوحد، وتتمتم كلمات متكررة أمام الناس وتظهر وكأنها في عالم آخر، وعلى رغم ذلك فإنها تتميز ببراعة منقطعة النظير في حل القضايا.
مرجعيات عالمية... ما السبب؟
تعددت المصادر التي اكتشف المتابعون أنها كانت ركيزة للعمل الجديد الذي يناقش معاناة حالات التوحد من متطلبات سوق العمل، في حين أن فيلم "التوربيني" 2007 بطولة هند صبري وأحمد رزق وشريف منير، وهو أحد الأعمال العربية القليلة أيضاً التي ناقشت هذا المرض المرتبط بالتطور الدماغي والخلايا العصبية والشق النفسي أيضاً، اكتفى بالاستناد إلى مصدر واحد فقط وهو فيلم "رجل المطر ـ Rain Man " 1998 الحائز أربع جوائز أوسكار بينها أفضل فيلم وهو بطولة داستن هوفمان وتوم كروز، والتزمت النسخة التي أخرجها أحمد مدحت وكتب لها السيناريو محمد حفظي الخط الأساسي الذي يدور في البداية حول قصة طمع درامية معتادة من الأخ السوي الذي يرغب في الاستحواذ على ميراث شقيقه في حين أن الأخ المسالم يعاني التوحد، ثم يخوضان معاً رحلة استكشافية تنتصر للشق الإنساني يعيد فيها الشقيق الأكبر ترتيب أولوياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يرى الناقد الفني إيهاب التركي أن اللجوء إلى التيمات الأجنبية أصبح هو السائد في ما يتعلق بالدراما السينمائية والتلفزيونية في العالم العربي، لافتاً إلى أن تلك الأعمال باتت هي المرجعية الأولى لكتاب السيناريو عربياً ومشيراً إلى أنه لا يقصد هنا الاقتباس الصريح والمباشر مثلما حدث في حالة فيلم "التوربيني" على سبيل المثال، لكن استقاء الكتاب عوالمهم بصورة عامة من الأجواء البعيدة من ثقافتهم كلياً.
وقال التركي "للأسف كثير من أفكار الدراما المعاصرة هي عبارة عن انعكاس لمشاهدات كاتب السيناريو لأعمال أجنبية وليست انعكاساً لخبرات شخصية ومشاهدات من واقع الحياة أو حتى روايات جيدة تتناول هذا النوع من الشخصيات وتفاصيل حياتهم اليومية وتعاملهم مع الواقع المحيط بهم وتعامل المجتمع معهم ومع طبيعة مرضهم وحساسية شخصيتهم، وبالطبع الاعتماد على الأفلام والمسلسلات كمرجعية لكتابة دراما يؤدي إلى خلق عمل غير أصيل وتقليد ولا يحمل أي خصوصية".
وأكد في الوقت نفسه أن "مواضيع الطب النفسي صعبة على أي كاتب لأنها تحتاج إلى خلفية طبية معقولة حتى لو كان العمل من نوع الكوميديا"، مبدياً استغرابه من استخفاف الدراما العربية في الغالب بشخصية الطبيب النفسي وتقديمه كإنسان مجنون وتصرفاته غير طبيعية لمجرد الإضحاك، وبقية الكتاب باتوا يقلدون بعضهم بعضاً ليصبح المريض النفسي أو الطبيب النفسي أسير النمطية في الكتابة.
الأزمات النفسية المهضوم حقها
هذه الصعوبات ربما هي التي جعلت زيارات صناع الدراما لهذا النوع من الأعمال شحيحة للغاية، بخاصة تلك التي تدور حول سمات التوحد، فمثلاً قدم المخرج محمد شاكر خضير عام 2020 مسلسل "في كل أسبوع يوم جمعة" المأخوذ عن قصة للروائي إبراهيم عبدالمجيد، وسيناريو وحوار إياد إبراهيم ومحمد هشام عبية، فكان البطل يعاني مرضاً عقلياً يجعله يرتكب سلسلة من الجرائم.
وعلى رغم أن صناع العمل لم يشيروا بصورة واضحة إلى إصابته بالتوحد، لكن أمهات وآباء عدة لأبناء لديهم أنماط متعددة من طيف التوحد عبروا حينها من خلال منشورات عن استيائهم من تقديم البطل بتلك الصورة وكأن مريض التوحد مجرم وخطر على المجتمع، مشيرين إلى أن هذا التناول يؤدي إلى مزيد من الفهم المغلوط ويدفع في اتجاه عزلة أبنائهم.
على العكس قدم مسلسل "أمل حياتي" 2021 ضمن حكايات مسلسل "إلا أنا" تناولاً إيجابياً للغاية لمريض التوحد من خلال البطلة التي تنجح في مواجهة التحديات بدعم أسرتها وتتغلب على التحديات، خصوصاً أنها تطمح إلى أن تكون ممثلة مشهورة بحسب سير الأحداث، لكن بصورة عامة تعدد التجارب التي تتناول هذا العالم يشجع مزيداً من الصناع على المغامرة وفي النهاية فإن الفنون وسيلة أساسية من وسائل رفع الوعي المجتمعي، مما يصب في النهاية لمصلحة الفئات التي تعاني التهميش وعدم استيعاب حالاتها على نحو سليم.
ويعتقد الناقد أندرو محسن بأن هناك تطوراً بالفعل في ما يتعلق بتقديم الأزمات النفسية بصورة عامة على الشاشات العربية، مذكراً بأنه قبل عقود كان يتم التعامل مع الأمراض النفسية سينمائياً وتلفزيوناً بطريقة سطحية إلى حد كبير والاكتفاء بمصطلحات عامة، وكان يتم اللجوء كثيراً إلى مرض الفصام الأكثر شيوعاً في التناول الدرامي العربي، أي إن البطل يظهر بشخصيتين مثل فيلم "بئر الحرمان" 1969 الشهير لسعاد حسني، وتتفجر المواقف الدرامية من التناقض بينهما، مشيراً إلى أن الأمر كان يعود غالباً للثقافة العامة والنظر للطب النفسي في حياة الأفراد باعتباره أمراً ثانوياً أو من قبيل الرفاهية، و"العيب" في بعض الأوقات بالنسبة إلى المجتمع، مما انسحب على الدراما بطبيعة الحال التي اهتمت بتناول الأمراض العضوية بصورة معمقة في حين كان الجانب النفسي بعيداً.
وقال محسن إن "الوضع تغير خلال الأعوام الأخيرة فأصبح حضور الطب النفسي أمراً معتاداً ضمن المشاهد السينمائية والتلفزيونية ووجوده لم يعد أمراً مستغرباً ولم يعد شرطاً أن يتم تقديم المرض النفسي كمعضلة كبيرة تؤثر في تصرفات صاحبه بصورة جذرية، وهو ما كان واضحاً مثلاً في مسلسل ’موجة حارة‘، فكانت شخصية ليلى (درة) تذهب إلى الطبيب النفسي بصفة معتادة فيما حياتها تمر بشكل طبيعي، كذلك كان حضور الطب النفسي أساسياً في مسلسل ’خلي بالك من زيزي‘ الذي كانت بطلته تعاني اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه".
اجتهادات متفرقة
كانت هناك أيضاً محاولات أخرى جادة لتقديم معاناة ذوي الحاجات الخاصة من خلال الدراما، إذ تم التركيز عليهم في المسلسل السوري "وراء الشمس" 2010، وجسد الفنان بسام كوسا شخصية مريض التوحد بصورة مقنعة ومؤثرة في العمل الذي أخرجه سمير حسين وكتبه محمد العاص، وكانت معاناته ذات أبعاد عدة بينها نظرة المجتمع وصعوبات التعامل وكذلك أنه من أسرة فقيرة لديها تحديات اقتصادية، فضلاً عن أزمة مرضه الذي يحتاج إلى رعاية واهتمام من نوع خاص.
أيضاً مر المسلسل اللبناني- السوري "كريستال" على أزمة مرضى التوحد من خلال شخصية باسل كرم شقيق البطلة المصاب بمتلازمة أسبرغر واحدة من أشهر اضطرابات طيف التوحد، وقدم الدور الممثل الشاب خالد شباط ونجح في أن ينقل الحالة بدقة، وهو عمل مأخوذ عن المسلسل التركي الشهير "حرب الورود" وشارك في بطولته محمود نصر وباميلا الكيك وستيفاني عطا الله، كذلك من المقرر أن يشهد شهر رمضان المقبل عرض المسلسل السوري "أغمض عينيك تراني" من بطولة أمل عرفة ومنى واصف وإخراج مؤمن الملا، وهو يتناول معاناة طفل مرض التوحد، ومحاولات والدته دعمه ومساندته كي يتغلب على المشكلات التي تواجهه في التعامل مع من حوله.
وعلى رغم تعدد المحاولات خلال الأعوام الأخيرة، إلا أن الناقد التركي إيهاب التركي لا يرى في هذا مؤشراً إلى الجودة، ضارباً المثال بمسلسل "كشف مستعجل" الذي عرض العام الماضي، معتبراً أنه استعرض شخصية الطبيب النفسي والمريض السيكوباتي بصورة ساذجة ولافتاً إلى أن العمل أوضح أن فكرة الصناعة عن الطب النفسي متواضعة للغاية، ويعتقد بأن المعضلة الأساسية تتمثل في الاجتهاد في البحث عن فكرة مختلفة لجذب الجمهور ولكن من دون بذل مجهود في صياغتها وكتابتها بصورة جيدة وأصلية.
لكن الدراما والسينما العالمية تمتلئ بأعمال احتفت بأصحاب اضطرابات طيف التوحد وقدمت جوانب كثيرة من حياتهم وألقت الضوء على مدى اختلاف كل حالة عن الأخرى، وبينها الفيلم الهندي " My Name Is Khan" 2010 من بطولة شاروخان الذي تناول المطبات العاطفية التي يقع فيها البطل جراء براءته الشديدة والتي أوصلته في النهاية إلى أن بات متهماً بالإرهاب ويكافح طوال العمل ليثبت تعرضه للظلم بسبب عدم تمكنه من الدفاع عن نفسه، نظراً إلى العوائق التي تواجهه في الحديث والحركة والاستيعاب، وعلى رغم أن فيلم "Forrest Gump" 1994 لتوم هانكس لم يذكر صراحة إصابة بطله بالتوحد، ولكن النكسات العقلية والجسدية وطريقته في التعبير عن نفسه وصراحته الشديدة بعدم التفريق بين ما يقال وما لا يقال، تشير إلى أن هذا هو المرض الأقرب والأكثر تطابقاً مع تفاصيل الشخصية الدرامية، والعمل حصد 13 ترشيحاً لجوائز أوسكار فاز منها بست.