ملخص
الحديث عن "الغرب الأوسط" مرتبط بما تسعى إليه بكين في الوقت الراهن، فماذا تريد الصين وكيف تفكر؟ وعلى أي أسس تتحرك وتعمل في سياقات المصالح الكبرى؟
يستخدم الإعلام الصيني مصطلح "الغرب الأوسط"، واصفاً طول المنطقة الجغرافية العربية وامتداداتها، التي سبق للنطاقات الغربية أن أطلقت عليها "الشرق الأوسط" من قبل، مما يشير إلى أن الجانب الصيني وفي مقاربته وخطابه الإعلامي الموجه بات يربط هذه المقاربة الجديدة مع إعادة تعريف مصالح بكين الكبرى في الشرق الأوسط وخارجه.
ويأتي ذلك في إطار إعادة تحديد مواقع النفوذ والتأثير التي تتجاوز التسميات أو المصطلحات السياسية، بخاصة أن كل مصطلح له ما يفسره، وهذا هو بيت القصيد الصيني في الوقت الراهن، بخاصة أن بكين حريصة على لعب دور في إعادة إعمار كثير من دول المنطقة.
ملاحظات مهمة
خلال الفترات الأخيرة كان لافتاً إلى أن الصين وروسيا يتبنيان استخدام المفاهيم ذات الدلالات السياسية والجيواستراتيجية، بخاصة المتعلقة بدوائر التحرك والنفوذ السياسي ومناطق التحرك الراهن في إطار استراتيجي، وليس مجرد طرح مصطلحات أو مفاهيم استثمار للمصالح الواردة في الحالة الصينية، ارتكاناً إلى ما طرح في المؤتمر الشيوعي الأخير، إذ كان التركيز على استراتيجية الوجود، وإعادة تعريف مناطق السياسات والنفوذ، بخاصة أن ما حاق بما يعرف بمبادرة الحزام والطريق من تطورات كانت أمراً مهماً، ويأتي في سياق التخطيط المنظم، أو ما سمته الصين أخيراً الاتجاه إلى إعادة الطرح، أو المراجعة.
وفرضت مبادرة الحزام والطريق موقف لمناطق التطبيق أضرت بالمصالح الغربية، في ظل تحفظات أميركية وغربية كبيرة، وجاءت في سياق من التحديات والإشكاليات التي تتعامل بها الدولة الصينية، التي تواجه تحديات كبرى، مما أدى إلى طرح الولايات المتحدة مشروع الممر، الذي أعاد ترتيب الحسابات الأميركية الكبرى في الشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا، وفي إطار مخطط لإعادة ترتيب الأولويات الغربية في الوقت الراهن انطلاقاً من رؤية أميركية مع استبعاد بعض الدول. ومن قبل، طرح الأوروبيون مشروع البوابة العالمية. وكلها مشروعات تحتاج إلى تعاملات ومناخ جديد، وتحلم بشرق أوسط جديد وتحقيق السلام، والتعاون الإقليمي انطلاقاً من سلام اقتصادي وأمني وليس سياسياً، بعد أن تعثرت مشروعات السلام السياسي كل هذه السنوات من العمل عليها طوال السنوات الماضية من عمر الإقليم العربي، والشرق الأوسط في المفهوم الغربي.
تحرك الصين في إطار تعريف "الغرب الأوسط" مرتبط بعدة عوامل أهمها أن الشرق الأوسط كمفهوم وإطار ودول غير متفق في شأنها حتى الآن، وما زال الشرق الأوسط بدوله محل تجاذب كبير، سواء على مستوى الدول أو المساحة الاستراتيجية والجيوسياسية، وهناك دراسات وتعريفات تطلق على الشرق الأوسط: الشرق الأدنى الأوسط، والشرق الأوسط الكبير، والشرق الأوسط المتسع، والشرق الأوسط المحدود، والشرق الأوسط الصغير، وكلها تعريفات مطروحة.
من المحتمل أن الصين تعمدت في الوقت الراهن، وفي إطار كتاباتها ودراسات مؤلفيها، أن تطلق "الغرب الأوسط"، للتقارب مع دول الإقليم، اعتماداً على استراتيجية جدية للانفتاح على المنطقة في ظل ما يجري من اهتمام كبير بالإقليم ودوله، وفي إطار من التفاعلات السياسية الاستراتيجية الجارية، واعتماداً على أسس الاستراتيجية الصينية المتجددة التي تولي اهتماماً كبيراً بالأولويات التي يجب العمل عليها في إطار الصراع الكبير مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والبحث عن دور سياسي واستراتيجي قائم بصرف النظر عن الأداء الصيني الراهن، الذي يعمل من أجل استراتيجية منضبطة قائمة على فرض مصالحه.
ومن ثم، فإن المنطق الصيني في تبني مصطلح "الغرب الأوسط" مرتبط بتغيير الواقع الراهن في الاستخدام مع إعادة تعريف الحسابات والمصالح الاستراتيجية التي تحكم نمط العلاقات الشرق أوسطية، سواء على مستوى دوله أو كياناته السياسية، مما يؤكد أن "الغرب الأوسط الجديد" جزء من مقاربة صينية للعمل والانتشار في العالم والشرق الأوسط التقليدي أو القديم جزء مما يجري، ويرتبط بما تخطط له السياسة الصينية من سياسات حقيقية قائمة على رفض ما هو قائم، والانطلاق إلى مساحات رحبة من السياسات الواقعية والمختلفة، بما في ذلك عدم التسليم بما هو مطروح من الغرب، ومن الولايات المتحدة على وجه الخصوص، وفي إشارة إلى ما هو جار من مخططات سياسية واستراتيجية يمكن العمل عليها مع إيمان الصين بمبدأ التعاون السلمي، لذلك ترتبط بعلاقات مع كثير من الدول حتى لو بينها خلافات.
مقاربات واقعية
تسعى الصين لتطوير مقاربات سياسية واستراتيجية، فالحديث عن "الغرب الأوسط" مرتبط بما تسعى إليه بكين في الوقت الراهن، وماذا تريد، وكيف تفكر في التعامل، وعلى أي أسس تتحرك وتعمل في سياقات من المصالح الكبرى، التي تتفق بالفعل بما هو جارٍ.
لكن، يبقى المخطط الصيني في إعادة تكتيل مصالحها اعتماداً على قوتها الاقتصادية، التي تنافس الولايات المتحدة. ووفقاً لمؤشرات اقتصادية محكمة فإن الصين تنطلق من مقاربة كاملة، ومخطط محسوب يسعى إلى إعادة بناء مناطق النفوذ، ولعل هذا يجعل الصين تعيد بناء دوائر علاقاتها في جنوب شرقي آسيا، وبحر الصين الجنوبي، معتبرة أن الأمر يتجاوز التعريفات أو الأطر السياسية والاستراتيجية إلى ما يمكن اعتباره جزءاً من كل في استراتيجية متعددة المسارات، والاتجاهات تتبنى الأهداف الصينية، وتعمل على تنفيذها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل الأهداف الصينية تبدأ من إعادة تعريف مناطق التحرك والنفوذ، مروراً بالانخراط في قضايا الأقاليم المهمة، التي تقع في بؤرة الاهتمامات والأولويات الصينية الكبرى، وهو مما يفسر وبوضوح مستويات الحركة الصينية في العالم، لا في الشرق أو الغرب الأوسط، حيث تقوم استراتيجية الصين في منطقة الشرق الأوسط على تأكيد التنمية حلاً لمشكلات المنطقة، وتطبيق نموذج تنموي يحتذى، والتركيز على الشراكة لا التحالفات، فكلما زادت الصين من دورها في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي زاد تأثيرها الدولي، وهذا ما تسعى بكين إلى تحقيقه بكل إمكاناتها وقدراتها.
تؤكد الصين في استخداماتها الراهنة لمفهوم "الغرب الأوسط" أن الأمر يتجاوز التعريف العام والمصطلح السياسي أو الاستراتيجي، مما يشير إلى أن الصين تنتقل إلى الواقع السياسي الراهن، وفي ظل صراعات كبرى تشمل دول العالم، وفي إطار صراعات ممتدة حقيقية بهدف تحقيق المصالح الكبرى، التي لها الأولويات في التحقق كما تسعى الدول في تنفيذ سياساتها، وهو مما يدفع الصين إلى توظيف سياستها الراهنة في مناطق نفوذها، ولو الهامشية.
والسياسات تحتاج إلى مقاربات مختلفة ومستجدة بدءاً من تبني تعريفات جديدة تتجاوز الأنماط التقليدية الحالية، التي تدور من الخيارات الضيقة، وبعد أن تكشفت الوقائع بأن حسابات الدول الكبرى ارتبطت بمقومات عديدة: سياسية، واقتصادية واستراتيجية، ولم تعد مقصورة على مجال واحد، وفي الحالة الصينية تركز ممارستها في المنطقة، والمبنية على المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، بخاصة أن النفط هو سر اهتمام الصين بدول المنطقة والخليج.
الخلاصات الأخيرة
الإشكالية ليست فقط متعلقة بالمصطلح أو مفهوم "الغرب الأوسط"، بل بالهدف من وراء الطرح الصيني في توقيت بالغ الأهمية، حيث صراع القوى الكبرى على الشرق الأوسط، والتخوفات من انفتاح المشهد الراهن في الإقليم على مشاهد وسيناريوهات جديدة تعتمد خيار القوة، وحسم الصراعات باستخدام وسائل تقليدية أو غير تقليدية، وفي إطار من إعادة ترتيب الأولويات، وهو ما يشغل بال الصين في الوقت الراهن في إطار مقاربات مختلفة، وصراع من نوع جديد، وبحث عن دور غير نمطي وسلوك غير متعارف عليه.
والملاحظ أن غالب الكتابات الصينية الموثقة وشبه الأكاديمية باتت تستخدم أطراً جديدة لا تشبه ما هو قائم أو محدد من قبل، على اعتبار أن غالب هذه المفاهيم والمصطلحات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية سنتها الدول الغربية، التي باتت عتيقة وغير قابلة للاستمرار، مما يدفع إلى مسعى صيني في إجراء تغييرات حقيقية، والانطلاق من الشكل إلى الجوهر، وربط ذلك بسياسات الدولة الصينية الكبيرة في مناطق متعددة مع اعتماد مقاربة متنوعة ومستجدة، ومن خلال إعادة ترتيب الأولويات ليس في مناطق نفوذها كما هو جار في بحر الصين الجنوب، وجنوب شرقي آسيا، بل أيضاً في المناطق الأخرى التي تقع في دوائر الاهتمام الصيني، ومسعاها لإعادة تعريف دوائر حركتها اعتماداً على قوتها الاقتصادية الكبيرة، ووفق استراتيجية الحزب الشيوعي الأخيرة، التي تبنت مقاربات حقيقية للتعامل في المنظومة الإقليمية والدولية، بل وفي إطار العلاقات الصينية مع العالم.