ملخص
قصائد لها بالفرنسية ومترجمة عن الانجليزية تصدر في مجلد واحد في ابرز سلسلة باريسية
بات من الممكن أخيراً قراءة معظم دواوين الشاعرة اللبنانية إيتيل عدنان (1925 ــ 2021) باللغة الفرنسية، إثر قيام الكاتب الفرنسي إيف ميشو بجمع قصائدها المكتوبة بالفرنسية بين العامين 1943 و1993 في مجلد واحد، مع قصائد كتبتها بالإنجليزية في الفترة نفسها. واضطلع هذا الكاتب والفيلسوف بترجمتها، بالتعاون مع ماري بوريل وباتريس كوناتسان وجان فريمون. الكتاب صدر حديثاً عن دار "غاليمار"، في سلسلة "شعر" العريقة، وتكمن قيمته في سماحه لقارئه الفرنكفوني بالغوص في نواة تجربة عدنان الشعرية الفريدة، ومتابعة تطوّرها في الزمن، شكلاً ومضموناً، وهو ما كان عسيراً قبل ذلك، بسبب تبعثر ثمار هذه التجربة لدى دور نشر فرنسية وأميركية عديدة، وركيزتها اللغوية المزدوجة.
في ملاحظة تتقدم نصوص عدنان، يوضح ميشو أن القصائد التي تحضر في هذا المجلد هي القصائد "الحرة". أما النصوص النثرية، فاستُبعدت منه على رغم "كونها قصائد أيضاً في معظمها"، على حد قوله. قرار يشكّك الفيلسوف في صوابه، لكنه يرى أنه كان لا بد منه، لأن خلاف ذلك يعني "جمع كل أعمال عدنان المكتوبة". وعن سبب غياب قصائد العقدين الأخيرين من حياتها، يقول: "شعر السنوات العشر الأخيرة، الذي تغيّرت فيه النبرة والإيقاع والنفس، شكّل موضوع إصدار لدى ناشر آخر". وكذلك الأمر بالنسبة إلى قصائد الفترة الممتدة من 1997 إلى 2010، التي يبرر إبعادها بتوافرها في ديوانين صدرا عام 2021 في باريس عن دار "غاليري لولون". والمرجّح أن هذين الناشرين رفضا منح دار "غاليمار" حقوق نشر هذه النصوص، على رغم أن حضورها في هذا الكتاب كان ضرورياً كي تكتمل صورة عمل عدنان الشعري داخله.
مهما يكن، يبقى هذا الإصدار مهماً سواء في مضمونه، أو في طريقة ترتيبه التي تتناوب فيها القصائد المكتوبة بالفرنسية مع تلك المترجمة من الإنجليزية، وفقاً لتاريخ صدورها، أو في الجهد التوثيقي في نهايته الذي نتعرّف بفضله إلى مختلف المنشورات التي صدرت هذه النصوص فيها، وأحياناً إلى مختلف طبعاتها، وبالتالي إلى قصة كل واحد منها. جهدٌ حميد حين نعرف أن عدنان كانت ترسل قصائدها إلى مجلات شعرية وفنية لا تحصى، وثمة عدد كبير منها لم يدم طويلاً، أو كان قليل التوزيع، أو لم ينشر ما تلقّاه سوى بعد فترة من كتابته، مما يجعل من تحديد التسلسل الزمني الدقيق لهذه الأعمال مهمة صعبة للغاية.
مقاربة شاملة
تكمن أيضاً قيمة هذا الكتاب في المقدمة التي خصّه ميشو بها، وإضافةً إلى مدّها إيانا بمعطيات نقدية وسيرذاتية حول الشاعرة كنا نجهلها، تنير شعرها ومصادره المدوخة في تعددها وتباينها. هكذا نعرف من هذا الفيلسوف، الذي كان مقرّباً من الشاعرة، وعاشرها على مدى سنوات، أنها "تقبّلت في الشعر المؤثّرات ضمن فوضى سعيدة من الفضول والمتعة والإلهام"، بدءاً بالشعر الفرنسي، في بيروت، بالقرب من غابرييل بونور، وتحديداً نرفال وبودلير وفرلين ورامبو ولوتريامون وفاليري، وأيضاً أندريه جيد الذي يحضر في نبرة قصائدها الأولى، وخصوصاً السورياليين الذين يقفون خلف "تصادمات صورها وكلماتها"؛ مروراً بالشعر الرومنطيقي الألماني، وتحديداً نوفاليس وريلكه، والشعراء الروس.
وفي السياق نفسه، يتوقف ميشو عند قراءة عدنان الكتابات المقدسة ــ التوراة والقرآن ــ والشعراء العرب الكلاسيكيين والحداثيين، والفلاسفة ــ الشعراء الإغريق، ما قبل سقراط، قبل اكتشافها الشعر الأميركي، وتحديداً شعر ويتمان وديكنسون وثورو، وأيضاً تجارب شعراء الساحل الغربي، في كاليفورنيا، الذين عثرت على مكانها بسرعة بينهم، خصوصاً مجموعة "المخادعين المرحين" البوهيمية التي تشكّلت حول الكاتب كين كيسي، أحد أبرز وجوه الثقافة المضادة.
ولا يهمل ميشو الشعراء الذين لم تأخذ عدنان منهم أي شيء، بل يرى أنّ من المهم جداً ذكرهم لتحديد حساسيتها، مثل الـ "غونغوريين" الإسبان (نسبة إلى الشاعر لويس دو غونغورا)، المتكلّفين بإفراط، والباروكيين الفرنسيين، الرقيقين والكلاسيكيين للغاية، والميتافيزيقيين الإنجليز، الممزّقين بين نشوة وتديّن، والرومنطيقيين الإنجليز، الهادئين والعاطفيين بإسراف.
في وسط كل هذه التأثيرات والتمايزات، ما كان للشاعرة أن تتوه، في نظر ميشو، بل وجدت بسرعة صوتها الخاص، حتى حين كانت تخلط الحساسيات في متن قصيدتها، أو تتبنّى هذه الحساسية أو تلك، هذا الأسلوب أو ذاك، وفقاً لمزاجها، أو بدافع اللعب أو التحريض. فقوة موضوعاتها كانت تحول دون ضياعها، كما كانت تمنع الشكل الكتابي المعتمد في الوقوع داخل "الفن من أجل الفن". وبهذا المعنى، لا شيء أقل "فنية" من شعرها.
موضوعات شعرية
وفي معرض تحديده موضوعات عدنان، يشير الفيلسوف إلى أنها معدودة، قبل أن يرصفها على هذا النحو: عناصر الفضاء الفلكي (البحر، الشمس، الليل، الغيوم، النجوم...)، نقاط الوجود الحساسة (حياة، موت، جنس، عنف، نمو، تعفّن، تحلّل...)، مآسي البشر وصراعاتهم (حب، كراهية، غباء، وحشية...)، ومآسي التاريخ (حروب، مجازر، هزائم، تعذيب، إمبريالية...). وإلى هذه الموضوعات العامة، يضيف موضوعات أخرى، خاصة بها، تعزز وحدة شعرها وتماسكه: كالملائكة وغزو الفضاء، والشعور الكوني بالطبيعة والأشجار والزهور وكل ما هو حيّ. وبذلك، تجمع الشاعرة بين حلولية منيرة للطبيعة وإلحاد ميتافيزيقي لا هوادة فيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وباعتبارها فيلسوفة "ما قبل سقراطية"، من أصل أيوني، كانت عدنان تعرف، بحسب ميشو، أن العالم ممزق بين حرب (بوليموس) وحب (إروس)، وبين خصومة (إيريس) وصداقة (فيليا). ولذلك، "لدى تأمّلنا في كل خصوصيات شعرها، يمكننا أن نرى فيها شاعرة العناصر والطبيعة، ولا نعجب من كتابتها عام 1989، في مناسبة الذكرى المئوية الثانية لإعلان حقوق الإنسان والمواطن، والذكرى العشرين للوصول إلى القمر، إعلاناً لحقوق الإنسان والحيوان والطبيعة، تجعل فيه من الـ "إيكولوجيا" علم الأرض الجديد، ضمن أخوّة الكينونة.
وهذا ما يقود ميشو إلى نقطة أخيرة: التزامات عدنان السياسية. فكونها ولدت بعد الحرب العالمية الأولى، لأب عثماني كان أحد مهزومي هذه الحرب، وأنجزت دراستها في لبنان، الذي كان قاعدة خلفية للحلفاء المناهضين للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، كان مقدّراً لها، في نظره، أن تصبح بسرعة، مثقّفة ملتزمة قضايا الشعوب الكبرى مثل الجزائريين، الفيتناميين، الهنود الحمر، الفلسطينيين، العراقيين، السلفادوريين، وطبعاً قضية وطنها الممزّق، لبنان. التزام حثّها على المشاركة بضراوة في كل نضالات زمنها، بما في ذلك المعارك النسوية والمثلية، كما يشهد على ذلك عدد من قصائدها ومقالاتها.
ويختم الفيلسوف بقوله إن قصائد عدنان المجموعة اليوم تحت عنوان "أنا بركان تثقبه النيازك"، تبيّن تلك العلاقة الوثيقة بين كلامها الشعري وإدراكها البصير للمآسي السياسية والوجودية. نصوص "نجد فيها بُعداً آخر مناهضاً للشكلانية في الشعر، لكونها ليست فقط ترتيباً حاذقاً ومدهشاً لكلمات، بل أيضاً صراخاً واستنكاراً قادمَين من أعماق الروح والجسد".
يبقى أن نشير إلى أن ميشو لا يكتفي بهذا التقديم السريع لعدنان الشاعرة، إلا لأنه وضع بحثاً شاملاً حولها بعنوان "إيتيل عدنان ــ الملائكة، الضباب وقصر الليل"، صدر أيضاً عن دار "غاليمار"، بالتزامن مع أعمالها الشعرية، ويتوقف فيه ملياً عند مختلف جوانب إبداعها.