Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في السرديات المضللة للحرب السودانية

تبين للمجتمع الدولي والإقليمي اليوم من هو الطرف الذي تسبب في القتال ويستميت من أجل مواصلته على رغم مؤشرات الهزيمة

مسؤولون من الجيش خلال اجتماع مع أعضاء المقاومة الشعبية السودانية المسلحة في القضارف (أ ف ب)

ملخص

هنا بعض المقولات المضللة عبر منصات مؤيدي الحرب السودانية في الـ"سوشيال ميديا" والإعلام

حين تنطلق الحرب، أي حرب، تنعكس تداعياتها على الواقع وعلى حياة الناس ضمن التحولات التي تحكمها مؤشرات ميزان القوى المتطور من اتجاهات ونتائج ميادين القتال.

لكن مع ذلك فإن الحرب تحكمها قوانينها وقواعدها التي ما لم يتم التعامل مع نتائجها في الميدان بواقعية من طرفي الحرب، فإن النتائج التي يفرزها ميزان القوى لأحد الطرفين هي التي ستتحكم في النهاية بمعطيات الواقع، ولو بعد حين.

ما أسلفنا عنه القول آنفاً لا يجد له انعكاساً موضوعياً في طبيعة التوجيه الذي يراد تعويمه من طرف صانعي استراتيجيات التضليل في نقاشات السودانيين عن الحرب الدائرة منذ 10 أشهر بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع".

ومتى ما كان هناك توجيه خفي للنقاش يحمل طابعاً نسقياً منسداً بهدف التضليل في الحوارات السياسية التي يعرضها الخطاب الإعلامي بحسب برامج الأخبار والبرامج الحوارية لقنوات الإعلام العربي عن الحرب السودانية، فغير بعيد أن نتصور في بنية وطبيعة ذلك النقاش اتجاهاً لصرف الوعي العام عن واجب الدعوة إلى وقف الحرب، وهو صرف لا يتأتى فقط عبر ما تعكسه أجندة الخطاب الإعلامي لتلك القنوات فحسب، بل كذلك، وهذا هو الأهم، هو صرف يتبلور من خلال المقولات العامة والسرديات التي تعمل على تعويمها أجندات خفية وحسابات إسناد بمئات الآلاف في وسائط الـ"سوشيال ميديا" لتعويم تلك السرديات التي تتحول بعد ذلك إلى مقولات حاكمة للنقاش العام، بحيث يتم النقاش حولها وفي إطارها، لا خارجها، لتضخ مزيداً من التضليل.

 ومن خلال تأثير طاغٍ لتلك الاستراتيجيات الموجهة أخذ طابع النقاش النسقي عن الحرب السودانية في قنوات الإعلام التلفزيوني والإذاعي ووسائط الـ"سوشيال ميديا" توجيهاً محدداً تضيع معه كثير من الحقائق والخلفيات الموضوعية للحرب، تلك التي لا يستوي النقاش ولا يكون منتجاً للمعنى بعيداً من ملاحظتها ووضعها في الاعتبار.

وسنتناول بعض تلك المقولات المضللة التي تم تعويمها عبر منصات مؤيدي الحرب في الـ"سوشيال ميديا"، وانعكست في الإعلام ليتم ترديدها كجدل نسقي مستمر مراراً وتكراراً، ولتصبح بعد ذلك كما لو أنها من حقائق النقاش العام التي لا تقبل الجدل، فيما لو أعمل أي إنسان عقله متأملاً في طبيعتها لأدرك ما تنطوي عليه من تضليل.

سردية "موت حميدتي"

من أبرز تلك المقولات التي شغلت متابعي الحرب السودانية خلال النقاش العام، سردية "موت حميدتي" قائد قوات "الدعم السريع" التي بلغت من الذيوع والانتشار والتأثير في وعي عامة السودانيين وغيرهم من متابعي مجريات الحرب، فبدت تلك الفرية المنسوجة بإحكام في الـ"سوشيال ميديا"، كما لو أنها بديهية من بديهيات واقع الحرب السودانية، وبطريقة بلغ فيها مستوى التسطيح لتلك القناعة حداً مثيراً يستهجنه كل من له أدنى إلمام بقواعد نقل الخبر والمعلومات.

 فلا الجيش السوداني أعلن في بيان رسمي مقتل قائد قوات "الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، كما لم تنشر أية وسيلة إعلام مسؤولة خبراً يفيد بمقتله، لكن الساحة الحقيقية لتلك الفرية كانت تفور بها وسائط الـ"سوشيال ميديا" وعبر نشاط مجموعة من هواة الناشطين في خدمة البث المباشر في منصة "فيسبوك"، بحيث عملت حسابات غزيرة ونشطة لمؤيدي الحرب وداعمي الجيش من عناصر النظام القديم في الـ"سوشيال ميديا"، وكان للإدارة والخبرة الطويلة في ممارسة استراتيجيات التضليل دورها في تعميم تلك الكذبة، حتى تكشفت حقائق الواقع بخلاف ذلك عندما ظهر قائد "الدعم السريع" خلال جولة معلنة لعدد من رؤساء دول أفريقية عدة مثل أوغندا وإثيوبيا وكينيا وجيبوتي وجنوب أفريقيا ورواندا.

لقد كانت المفارقة العجيبة بخصوص فرية موت قائد "الدعم السريع" أن الذين نشروها وتولوا تكبيرها في وسائل الإعلام لم يكونوا من عامة الناس الذين تسري عليهم مثل هذه الإشاعات، بل تورط في نشر تلك الكذبة سياسيون معروفون من أمثال السيد مبارك الفاضل رئيس أحد فروع "حزب الأمة" وعدد من الصحافيين السودانيين على رأسهم الصحافي المعروف عثمان ميرغني.

استراتيجية السرديات المضللة في توجيه النقاش العدمي حول هذه الحرب لعبت فيها خبرات إعلامية حكومية لأجهزة أمنية عرفت بقدرتها على تطوير تلك التوجهات باتجاهات لتسليط الضوء على نقاط معينة، فكما هو معروف أن كلاً من "الدعم السريع" والجيش السوداني كانا يعملان ضمن استراتيجية واحدة في ظل نظام الإسلاميين، وحتى بعد سقوط رأس النظام الجنرال عمر البشير في الـ11 من أبريل (نيسان) 2019، واستمر ذلك حتى قبيل اندلاع الحرب بين الطرفين في الـ15  من أبريل 2023.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بطبيعة الحال، فإن كل مراقب يدرك طبيعة هذا التعاون الوثيق بين طرفي الحرب (الجيش و"الدعم السريع") في ظل خدمة نظام البشير، خصوصاً خلال سنوات حرب دارفور (2003 – 2017) التي أشعلها نظام البشير لأكثر من 15 عاماً وما خلفته من فوضى وتهجير ونزوح للملايين وحرق للقرى وانتشار للسلاح ومقتل حوالى 300 ألف مواطن، لا يمكنه أبداً إغفال تداعيات سنوات الحرب الأهلية في دارفور وانعكاساتها الكارثية على مجتمع قبائل المنطقة مع ما تخلفه مثل تلك الحرب من خراب للنفوس وضغائن واستفحال لخطاب الكراهية وثقافة النهب وانتشار السلاح، فيمكن القول إن آثار حرب دارفور استمرت انعكاساتها ضمن عمليات شد الأطراف التي كان يوظفها المكون العسكري بعد الثورة (ونقصد بذلك كلاً من الجيش و"الدعم السريع") كاستراتيجية فاعلة لتشويه تجربة الحكم المدني لحكومة الثورة الانتقالية، واستمر ذلك حتى انقلاب البرهان – حميدتي في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 الذي أسقط حكومة الثورة بقيادة عبدالله حمدوك.

وهكذا ما إن اختلف قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حمديتي" مع قيادة الجيش على الموقف حيال "الاتفاق الإطاري" الذي وقع عليه كل منهما وقوى سياسية مدنية كبيرة في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2022 برعاية الرباعية الدولية ووساطة كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيغاد"، حتى أشعل ذلك الخلاف الحرب (وهي حرب كثيراً ما توعد بإشعالها رموز وعناصر النظام القديم جهاراً، حال تطبيق "الاتفاق الإطاري"، عبر إفطاراتهم الجماعية خلال شهر رمضان الماضي) بين طرفين يعرف كل واحد منهما الآخر معرفة جيدة، الأمر الذي إذا ما استصحبناه اليوم في تفسير خلفية السرديات المضللة في توجيه نقاشات هذه الحرب، فسيمنحنا قدرة لا بأس بها على رؤية الصورة الكاملة.

وعلى ضوء ذلك استثمر صانعو استراتيجيات التضليل في هذه الحرب، لا سيما من أنصار النظام القديم، أمثال رئيس تحرير صحيفة "السوداني" ضياء الدين بلال بعض المقولات التي تم تصميمها لتضخ قناعات نسقية مجوفة في أذهان كثيرين من البسطاء، مثل مقولة "ضرورة خروج قوات ’الدعم السريع‘ من بيوت المواطنين في الخرطوم كشرط مسبق لوقف إطلاق النار"، وهذه المقولة تتم إعادة ترويجها في كل نقاش عام حول الحرب سواء من خلال تصريحات قائد الجيش عبدالفتاح البرهان ومنسوبي وزارة الخارجية السودانية، أو من أنصار النظام القديم، من دون التأمل في طبيعتها، أو التحقيق في ما إذا كانت لا تزال بنداً قائماً في مفاوضات "منبر جدة"، أو أنه بند تم سحبه لاحقاً من المنبر ليصبح فقط حجة بلاغية لاستهلاك نسقي في النقاش يصرف الناس عن الحقائق المتصلة بهذه الحرب.

إن تصور فكرة وجود المواطنين داخل منازلهم في ظل اندلاع حرب مدن عنيفة مثل التي حدثت في الخرطوم منذ الـ15 من أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" هي فكرة لا تتسق مع منطق الحرب العام، لا سيما أن تقارير الأمم المتحدة وصفت نزوح أكثر من 7 ملايين سوداني عن مناطق الحرب بأنه "أكبر نزوح في العالم"، وهو رقم غير مسبوق عالمياً، في دلالة واضحة على أثر الحرب العنيف الذي يبرر خروج المواطنين من ديارهم. لكن مع ذلك يتم الترويج لفكرة احتلال بيوت المواطنين من طرف مؤيدي الحرب لسببين، الأول هو رفع الحرج عن مسؤولية الجيش السوداني في الدفاع عن ممتلكات المواطنين، والثاني تبرير الاستمرار في الحرب على رغم المؤشرات الواضحة للهزائم الاستراتيجية التي مني بها الجيش فيها.

وبحسب إفادات مسربة لبعض خاصته، أقر رئيس وفد الجيش في مفاوضات "منبر جدة" اللواء الركن محجوب بشرى بأنه قد تم سحب بند خروج قوات "الدعم السريع" من منازل المدنيين من قائمة بنود مفاوضات "منبر جدة" والذي أكده كذلك قائد قوات "الدعم السريع" في آخر حوار له مع قناة "سكاي نيوز عربية"، حين قال إن الجيش في "منبر جدة" أقر بسحب بند خروج قوات "الدعم السريع" من البيوت عندما اشترطت "الدعم" المعاملة بالمثل، كما برر حميدتي في ذلك اللقاء احتماء جنوده بمنازل المدنيين في الأحياء بسبب القصف المكثف لطائرات الجيش ونتيجة لعدم التزام الأخير الهدن ولأن "الدعم السريع" ليست لديه طائرات.

فن إدارة الدعاية

بطبيعة الحال، لا يعني تفنيدنا لسردية وجود قوات "الدعم السريع" في منازل المواطنين سحب أي غطاء عن انتهاكات وتجاوزات وقعت على المواطنين من جانبها في هذه الحرب، كما وثقت ذلك منظمات أممية وإقليمية معروفة.

من الواضح جداً أن توجيه النقاش في استراتيجيات هذه الحرب لدى صانعي سردياتها المضللة من أجل صرف الجيش عن واجب الاستجابة لوقف الحرب هو نشاط تعكف عليه جهات ذات قدرات تمويلية كبيرة وخبرة طويلة في إدارة غرف الدعاية وتصميمها، مستثمرة في ذلك تجربة طويلة من إدارة وتشغيل أجهزة إعلامية بكفاءة مؤهلات دولة، لهذا يمكن القول إن الهدف الذي تعكف على تعويمه أجندات مؤيدي الحرب ينحصر في أمرين هما بمثابة مربط الفرس في الكشف عن حقيقة هذه الحرب العبثية، الأمر الأول صرف الناس عن البحث والتحقيق في الطرف الذي تسبب في إشعال هذه الحرب، والثاني رفض وقف الحرب على رغم كل المؤشرات التي تدل على عبثتيها من ناحية، وعلى غلبة ميزان القوى لمصلحة قوات "الدعم السريع" من ناحية ثانية.

 ومن الواضح جداً أن تلك الأجندة تخشى في حال انتهاء الحرب من نتائج التحقيقات التي ستطاول الطرف الذي تسبب فيها، وما سينجم جراء تلك التحقيقات عن محاكمات عدلية.

إن قراءة بصيرة للأهوال التي نتجت من هذه الحرب العبثية، بحسب تقارير الأمم المتحدة والأثمان الباهظة التي دفعها الشعب السوداني في أقل من عام، ستدين بالضرورة الطرف الذي لا يزال يرفض وقف الحرب إلى درجة يمكن معها القول إن رفض الحرب هنا، وقد ثبت أنها حرب عبثية، هو بمثابة خطيئة أخلاقية كبرى وجريمة لا تغتفر في حق الوطن والشعب السوداني من الطرف الذي يصر على مواصلة الحرب.

لقد تبين للمجتمع الإقليمي والدولي بوضوح اليوم مَن هو الطرف الذي تسبب في الحرب أولاً، ويستميت من أجل مواصلة الحرب ثانياً، على رغم مؤشرات الهزيمة الاستراتيجية التي لحقت به، لهذا تنصب الجهود الإقليمية والدولية في محاولات حثيثة وجادة لوقف الحرب انطلاقاً من فكرة مفادها إدراك المجتمع الإقليمي والدولي بأن الطرف الذي يرفض وقف الحرب هو اليوم طرف مغامر وغير مسؤول في سعيه الدائم إلى تعريض السودان لأخطار تهدد باختفاء خريطته من الساحة الدولية، وتنطوي على مصائر كارثية ستلحق بالشعب السوداني وبالمحيط الجيوسياسي للسودان.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل