ماذا لو كان المنفى حالة داخلية، وليس مكاناً؟ يشكل المنفى سواء كان اختيارياً أو قسرياً، في ذات الغرباء والمنفيين وجوداً يتمدد ويتخذ وجوهاً عدة، تنفصل بمرور الوقت عن الزمان والمكان، فلا تتأثر بمرور السنوات، ولا بتأثيث البيوت والأماكن الدافئة، التي تلغي حالة الاغتراب عبر ما تشكله من ألفة داخل الروح. بيد أن المنفى يظل في الداخل قابعاً في الركن القصي، البعيد، يذكر صاحبه في كل صباح أنه غريب، ولا ينتمي إلى جغرافيا هذه الأرض التي ساقه القدر إلى الوجود تحت شمسها.
في عملها الروائي "بحثاً عن كرة الصوف" (دار رياض الريس)، تغوص الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، في عمق بفكرة المنفى، تتقدم بعيداً في تحليلها السيكو- اجتماعي، انطلاقاً من الزمكان وعلاقته مع البعيدين من أوطانهم. وإذا كانت حسن أرادت من خلال نصها هذا الكتابة عن المنفيين السوريين، فإنها عطفت بشكل ما على كل الغرباء والمستبعدين، الذين يتقاطعون في غربتهم عند نقطة واحدة، وسؤال جوهري تطرحه إحدى الشخصيات وهي ناريمان العطار، حين تقول "ما الذي يجعلني أشعر بأني غريبة بعد سنوات طويلة قضيتها هنا؟".
هذا السؤال يطرحه بصورة أو بأخرى جميع الأبطال عبر طرق مختلفة، لأن كل غرباء الأرض يشعرون بأنهم غرباء مهما طال أمد وجودهم في بلدان المنفى.
وجوه الغربة
تضع الكاتبة مجموعة من الأبطال وجهاً لوجه، تتقاطع مصائرهم في مدينة هامبورغ، الألمانية. يتخذ السرد شكلاً يتوسع أفقياً، فتفضي كل شخصية إلى أخرى، مع استخدام راو شبه عليم، يتناوب مع ضمير المتكلم، بحيث يراوح السرد بينهما. وقد لجأت الكاتبة إلى هذه التقنية كي تتمكن من التنقل بسهولة بين الشخوص، مع تناول ماضيهم وحاضرهم الآني، في اشتباكه مع المونولوغ الداخلي لكل شخصية. هذا التنقل في الأصوات منح حيوية في السرد، على رغم السوداوية الاجتماعية والنفسية المطروحة على مدى النص.
يبدأ السرد في فصل قصير مع حكاية البطل الإغريقي "ثيوس"، في استخدام رمزي للأسطورة، إذ تقول الكاتبة: "لكل منا، كقادمين جدد إلى المنافي أو كلاجئين أو كمهاجرين، كرته الصوفية التي ترشده في متاهات المنفى، هناك من أضاع كرته الصوفية وبقي تائهاً مشتتاً في تناقضات حياته الجديدة، هناك من لا يزال يبحث كمهووس عنها، وهناك المحظوظون القلائل، أولئك الذين يتأبطون كراتهم الصوفية بسلام غير آبهين بتشعبات المتاهة".
توجز هذه العبارات حال أبطال الرواية، إذ يمضي كل منهم في متاهته الذاتية. سرمد الشاب المتأزم من مثليته، يقرر الهرب من سوريا إلى ألمانيا كي يتحرر من النبذ الاجتماعي، باعتباره مضطهداً جنسياً، لكنه يواجه واقعاً بائساً في كامب اللاجئين، يجبره على الهرب وممارسة مثليته. ليست قصة سرمد التي تقدم حكاية شبه نمطية لشاب عربي مثلي، هي المأزق المحوري فقط في حياته، بل هناك اللغة والمجتمع والوجود ككل. وهذه المحاور أيضاً هي التي يعانيها بقية الأبطال، بل على وجه التحديد يمكن اعتبار معظم الأبطال يتشكلون داخلياً وفق المعرفة الإبستمولوجية في كل أنواعها، سواء كانت منطقية، كما هي عند عيسى، الحقوقي الذي فقد رجولته وفر من سوريا، تاركاً زوجته وطفله، يمضي لياليه يعاني الأرق لأن مئات الوجوه التي "خذلها وهرب من البلاد لن تتركه ينام". أو معرفة بديهية كما هي عند يحيى الذي فقد أسرته كلها لكنه يواصل العيش، أو منطقية كما هي عند إيلا.
تنقسم الرواية إلى أربعة أقسام، تشير عناوينها كلها، مثل بوصلة موجهة، نحو المنفى، العناوين هي: "عدة أشياء عن المتاهة" و"يوم أول في متاهة المنفى، ثم كانت صدمة لم نستفق منها" و"يوم ثان في متاهة المنفى: إنه الإنكار لا بل الحنين" و"يوم ثالث في متاهة المنفى: حين يسيطر الواقع".
اعتمدت الكاتبة في حيز كبير في بنائها النفسي للأبطال على وجود مواءمة مع المكان، لذا تسيطر حالة من الضبابية التي تصف الطقس الخارجي وانعكاسه على الداخل، كأن تقول "صباح رمادي آخر في هامبورغ. لكن ذلك الرمادي لم يعد يزيد من سوداوية ناريمان العطار، كما كان دوماً، راحت تعتاد رمادية المدينة ورمادية الوجوه في صباحات الشتاء الطويل. وجوه مغيبة مقطبة ومغلقة. تغدو إلى أشغالها في صباحات معتمة، وتعود من أشغالها في مساءات معتمة. وقد تمر أشهر لا ترى ضوء النهار فيها".
الجسد والمدينة
ثمة مساران يتشعبان في طرق مختلفة ضمن إطار السرد، أحدهما يتعلق بالصلة التي تربط الأبطال مع مدينة هامبورغ، والآخر في علاقة كل منهم، نساءً ورجالاً، مع ماضيهم ومع أجسادهم. يبدو الجسد مجروحاً مستنزفاً لدى جميع الشخوص، إنه الجزء المحسوس من الإنسان الذي يشعر بكل الآلام والمخاوف. إنه أداة استشعار حقيقية تنبه الذات. مثلاً تشعر ناريمان بالوجل حين يلمس الرجل الألماني شعرها، على رغم أن صديقتها الألمانية رشحته لها للزواج، لكنها تجفل من الحركة التي قام بها، وتطلب منه عدم تكرارها. وعلى رغم إحساسها المتدفق بالرغبة والاحتياج لعلاقة جسدية، فإن ظلال الأفكار الشرقية تنعكس داخلها، لأنها اعتادت فكرة أن "النساء الشرقيات ينبغي أن يكن (بينولوبيات) ينتظرن أبد الدهر عودة أوليس".
هناك أيضاً عيسى وسرمد ويحيى، ولكل منهم أزمته في رؤية الجسد والمدينة والماضي العنيف المتروك في سوريا. أما عبدالقادر زوج ناريمان، فإنه يمثل الأفكار الشرقية النمطية لرؤية جسد المرأة، كذلك ابنهما عمر الذي مضى في طريق التطرف الديني. وهذا ينطبق أيضاً على رشا ابنة ناريمان المراهقة، ونظرتها الدونية إلى أمها بسبب عدم وضعها الحجاب. التشدد في العفة يمتد أيضاً إلى شخصية إلينور الفتاة التركية التي يحبها يحيى، وترفض أن تقيم معه أي تواصل حسي إلا بعد الزواج.
في مقابل هذه الكتلة أرادت الكاتبة أن تظهر الجانب الغربي للعلاقة مع الجسد من خلال الشخصيات الألمانية، وإظهار النمط الفكري المختلف تماماً، كما مع صديقة ناريمان "آنيا شيرر"، التي تسميها "ملاكي الحارس"، على رغم اختلافهما الفكري والاجتماعي.
وفي محور المكان تشكل الرواية من خلال أبطالها خانة كبيرة، تتسع للسؤال عن طبيعة العلاقة الجوهرية مع المدينة، "هل للمدن روح؟ وهل نتشابه نحن حقاً مع المدن التي نعيش فيها؟ أم أن المدن منصوبة على أعمدة روحية كمرايا عملاقة تعكس قلوب ساكنيها، فإذا أظلمت القلوب ستفقد المدن بريقها؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يغربل المنفى الأحلام، ويترك النافذ منها ساطعاً، مؤثراً، قوي الحضور. مثلاً الصبي قيس يود أن يدرس القانون بعد حصوله على شهادة البكالوريا، كي يدافع عن حقوق المضطهدين والعمال واللاجئين. في المقابل تعيش أخته رشا التي تبلغ الـ16 في أسر شعورها بالاختلاف، تتردد بعد انتهاء دروسها في المدرسة الألمانية، على مدرسة عربية كي تتعلم اللغة وتحفظ القرآن الكريم، تضع الحجاب وتكتفي بصديقاتها البنات المسلمات، وتفرح حين تتلقى من معلمتها عرضاً كي تخطبها لابنها. إنها النموذج الشرقي التقليدي الذي لم تؤثر فيه أفكار الغرب، بل انكفأ على نفسه. أما الأم ناريمان فإنها تعيش حالة من التشظي، في وقت تحاول أن توجه فيه ابنتها إلى الدراسة والاعتماد على ذاتها، فتبدو الابنة جانحة نحو ما يقوله لها الأب من أفكار تقليدية، فالزواج حسب رأيه، حماية للبنت في المجتمع الفاسق.
حاجز اللغة وتلاشي الهوية
مع ثقل الذاكرة والحنين تشكل اللغة العائق الأول بالنسبة إلى المهاجر، إنها الوسيلة التي تمكنه من التواصل مع الأساسات الأولية في حياته: مؤسسات الدولة والتأمين الصحي والبريد وسائر الهيئات الرسمية. لكن اللغة الألمانية بالنسبة إلى شخصيات عدة تبدو مثل خشبة قاسية يصعب التعامل معها. ناريمان مثلاً تستعين بصديقتها "آنيا" الألمانية، كي تفسر لها المكتوب. أما يحيى وعيسى وغيرهم فيشتكون أيضاً من العلاقة مع اللغة.
في المقابل وعلى الضفة الأخرى ترى المرأة الألمانية آنيا أن المهاجرين الجدد منقسمون بين البكائيات والحنين والآلام والشكوى، وأنهم سيظلون عاجزين عن الاندماج. ربما الجيل الثاني منهم سيستطيع أن يثبت نفسه في ألمانيا، وتبرهن على فكرتها بواقع الجيلين الثاني والثالث من الأتراك، الذين أصبحوا لا يشبهون آباءهم في شيء، لقد أصبحوا فاعلين ومؤثرين في المجتمع الألماني ومشاركين في صنع القرار السياسي. تقول آنيا: "أنتم العرب، لا يمكن للمرء أن يكون صريحاً معكم أبداً. كالنعامة تدفنون رؤوسكم في الأرض".
تنحاز الكاتبة بصورة جلية إلى حرية الإنسان، على رغم أن اختيارات أبطالها تبدو ملتبسة أحياناً، فإن الرسالة الضمنية التي يحملها النص تميل إلى جهة حق الإنسان أياً كان في اختيار مصيره. هذا المنظور للحرية، يتم طرحه سواء عبر الحوارات بين الأبطال، أو عبر المونولوغ الداخلي لكل منهم.
تترك الكاتبة النهاية مفتوحة، لأن سماء هامبورغ تراقب كل شيء، الصراع بين اليمين واليسار وبين الرأسمالية والفقر، واللاجئين، وحارات الألمان الصرفة وحارات الأجانب، ومشردي الشوارع وحانات السهر. مراقبة مستمرة تحدث بصمت، مثل حكايات المتاهة ستظل مستمرة ولن تنتهي.