Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما هي التحديات الماثلة أمام دعوة ماكرون إلى اقتصاد أوروبي أكثر جرأة؟

يشير مراقبون إلى خطر فقدان مكانة الصناعة الأوروبية في ظل هذه المنافسة مع احتمالية نقل المصانع إلى مناطق تتميز بكلفة أقل للطاقة وضرائب وإجراءات إدارية أسهل

الرئيس الفرنسي في حوار مع ملكة السويد سيليفيا خلال حفل عشاء خاص في القصر الملكي بستوكهولم، في 30 يناير الماضي (رويترز)

ملخص

يبقى السؤال المطروح هو كيف يمكن علاج الأزمات الاقتصادية التي تواجه القارة العجوز؟

شهدت القارة الأوروبية تراجعاً وتباطؤاً في معدلات النمو الاقتصادي خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي، واتسعت الفجوة بين الاقتصادين الأميركي والأوروبي، وسط توترات جيوسياسية متزايدة، وتحولات تكنولوجية عميقة. مما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دق ناقوس الخطر خلال خطابه في سويسرا، إذ دعا نظراءه الأوروبيين إلى ضرورة وضع أجندة مشتركة تركز على ثلاثة جوانب رئيسة: إعادة التصنيع، والفترة الانتقالية، وتعزيز السيادة الاقتصادية لأوروبا من خلال بناء اقتصاد صناعي جديد وذكي وأكثر جرأة. وإلى جانب التوقف عن "الإفراط في التنظيم" في المسائل الصناعية، مقارنة بالولايات المتحدة والصين، وحث على تحفيز الاستثمارات. 

العقيدة الاقتصادية الأوروبية الجديدة

وتبرز تصريحات الرئيس الفرنسي فهمه العميق للسياق العام والتحديات التنافسية التي تواجه دول الاتحاد الأوروبي، ففي ظل تحديات العقد الحالي، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، تظهر الحاجة الماسة إلى تعزيز الاقتصاد الأوروبي. وتكمن رؤية ماكرون في "العقيدة الاقتصادية الأوروبية الجديدة" في التركيز على الحفاظ على الانفتاح التجاري في السوق الموحدة الأوروبية وتحرير الاقتصاد الأوروبي من الاعتماد الزائد على الصناعات الأجنبية. ويبدو أن تنفيذ السياسات الصناعية الجديدة لفرنسا يهدف حالياً إلى زيادة الاستثمار في هذا المجال، وتبني إجراءات وقائية لحماية الصناعة الفرنسية من المنافسة الشديدة التي تواجهها من الصناعات الصينية وغيرها. وفي نظر ماكرون فإن التكنولوجيا والصناعة تشكلان فرصة لتعزيز السيادة الأوروبية والسيطرة على مستقبلها، بدل الاعتماد على القوى الأخرى مثل الولايات المتحدة أو الصين.
علاوة على ذلك تواجه أوروبا قضية "التبعية" للولايات المتحدة في مجالات عدة، إذ تعتمد في سلاسل التوريد على مصادر خارج الاتحاد الأوروبي، مما يجعلها عرضة للهشاشة أمام التحديات الخارجية المتكررة، لاسيما الأحداث الجارية مثل الاضطرابات في منطقة البحر الأحمر، تضع ضغوطاً محتملة على الاتحاد الأوروبي. هذا السيناريو حفز ماكرون على البحث في سياسات صناعية جديدة والاستثمار في التكنولوجيا الجديدة، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي. وهذا الأمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى فرنسا بشكل خاص.

 أوروبا صناعياً مقارنة بالصين وأميركا

ويقول الخبير في القضايا الأوروبية من بروكسل، محمد بركات لـ"اندبندنت عربية" إن "دول الاتحاد الأوروبي في نهاية القرن الماضي كانت تعتبر الصين دولة نامية وكانت تقدم الدعم لها. وما قامت به دول الاتحاد الأوروبي من بناء مصانع واعتماد على الصناعات في دول أخرى بسبب قلة الكلفة وطموحها في إمكان استغلال الأسواق الأجنبية كالسوق الصينية الأكبر من السوق الأوروبية بأضعاف المرات. ودفع تطور التكنولوجيا الأوروبية إلى انتقال الصناعات الأوروبية إلى دول أخرى لا سيما الصين، مما يثير الآن شعوراً بالندم بسبب تلك السياسات السابقة التي اتخذتها الدول الأوروبية في السنوات الماضية، وأثرت سلباً في الاتحاد الأوروبي.
كما تواجه دول الاتحاد وخصوصاً دول الاقتصادات الصناعية تهديدات خارجية عدة، وخصوصاً من الصين والولايات المتحدة، اللتين لا تترددان في تجاهل القواعد التجارية لمنظمة التجارة العالمية، من خلال منح مزايا ضريبية ومساعدات للشركات أو للأسر في مقابل الالتزام بالإنتاج المحلي، وبالتالي فإن الدعم الذي تتلقاه الصناعات في الولايات المتحدة والصين هي أكثر فائدة للمستثمرين من أنظمة الدعم في الاتحاد الأوروبي، إذ من الممكن استخدامها في البحث والإبداع والابتكار كما في المشاريع التنفيذية والبناء والإنتاج، ونتيجة لذلك نقلت بعض الشركات الأوروبية بالفعل عملياتها إلى الولايات المتحدة، للاستفادة من خطة الاستثمار الضخمة التي ينص عليها قانون خفض التضخم الأخير.
وحتماً أوروبا توقفت صناعياً مقارنة بالصين وأميركا بحسب ما أشار إليه بركات، "خصوصاً أن دول الاتحاد الأوروبي لا تستطيع منافسة الولايات المتحدة، التي لا تتردد في فرض رسوم جمارك على المنتجات الأوروبية المستوردة، وذلك من أجل جعل المنتجات الأميركية تنافس بشكل ملحوظ المنتجات الأوروبية. وهناك تخوف من قدوم دونالد ترمب إلى الحكم لأنه بالتأكيد سيفرض الجمارك على المنتجات، خصوصاً الحديد والصلب والألمونيوم وغيرها، كما فعل خلال فترة حكمه السابقة. والآن حتى شهر مارس (آذار) المقبل، هناك اتفاق مع الولايات المتحدة لتجميد هذه الجمارك، لكن ماذا سيحدث في حال عودة الرئيس ترمب للحكم؟ من المؤكد أنه سيعيد فرض الضرائب على المنتجات الأوروبية. أما بالنسبة إلى الصين فإن انخفاض كلفة التصنيع وتطور التكنولوجيا الذي وصلت إليه الصين اليوم، جعل الاتحاد الأوروبي في مسافة بعيدة جداً في هذا المجال". وأضاف "وفي ما يتعلق بقدرة دول الاتحاد الأوروبي على تنفيذ هذه الخطة التي دعا إليها ماكرون، يظهر أن التحدي لن يكون سهلاً، فالاتحاد الأوروبي يعاني ضغوطاً اقتصادية متزايدة، إذ ارتفعت الديون الخارجية بشكل ملحوظ، وتجدر الإشارة إلى أن الوصول إلى المستوى التكنولوجي نفسه الذي حققته دول كالصين والولايات المتحدة في هذه المجالات يبدو مستحيلاً. إضافة إلى ذلك توفير الأموال اللازمة لهذا الغرض سيكون عائقاً كبيراً". 
وعن سؤال ما إذا كان الرئيس ماكرون سيتمكن من تحقيق هذه الأهداف، يرى الخبير في القضايا الأوروبية محمد بركات أن "التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي تجعل من ترجمة الخطط إلى الواقع أمراً صعباً"، ويشير إلى أن "ما تم تبنيه أخيراً من خطة عمل لتشجيع الاستثمارات الداخلية ومراقبة الاستثمارات الخارجية، إضافة إلى مكافحة التجسس السيبراني، قد تواجه تحديات عدة في التنفيذ". ويبرز بركات أن "المشكلات المالية التي يعانيها الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى تمويل الاقتصاد والمشاركة في الحرب في أوكرانيا، تعقد من إمكان نجاح هذه الخطة التي يتزعمها ماكرون ويرى أنه يجب على الاتحاد الأوروبي تبنيها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


ويعتبر محمد بركات أن "دول الاتحاد الأوروبي لن تكون قادرة على الاعتماد على ذاتها في قطاع الصناعة، مع العلم أن كثيراً من المواد المستخدمة في الصناعات، ولا سيما التكنولوجيا المتطورة، تستورد من الخارج، وهناك مشكلات مع الدول المصدرة لهذه المواد. على سبيل المثال تحاول دول الاتحاد إنتاج مواد مثل الليثيوم وغيرها، ولكن هذا الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً وسيؤدي ذلك إلى عدم قدرتها على تحقيق هذا الهدف".
في السياق يعبر الباحث السياسي نبيل شوفان عن قلقه إزاء التحديات التي تواجه عملية دعم المبتكرين وتشجيع الابتكار في أوروبا، إذ يشير إلى نقص البنية التحتية اللازمة وندرة المصانع الإلكترونية كعوامل مساهمة في هذا الوضع. ويعتقد أن "هذه الظروف قد تكون الأسباب المساهمة في تأخر التقدم التقني في المنطقة، خصوصاً مقارنة بالولايات المتحدة، وفي هذا السياق تدعو فرنسا إلى زيادة التمويل الوطني للاتحاد الأوروبي، وتسعى دائماً إلى التخفيف من قواعد مساعدات الدولة، في خروج طفيف عن الحدود التي يسمح بها الاتحاد الأوروبي، مع تذكر خطر تحول ذلك إلى سباق على الإعانات بين الدول الأعضاء، وبالتالي خلق خلل في التوازن داخل السوق الموحدة، وهذا جوهر الخلاف بين الدول".

كما يشير المحلل السياسي نبيل شوفان إلى خطر فقدان مكانة الصناعة الأوروبية في ظل هذه المنافسة، مع احتمالية نقل المصانع إلى مناطق تتميز بكلفة أقل للطاقة ضرائب وإجراءات إدارية أسهل، إلى جانب توفر مساعدات كبيرة من الدولة. ومن وجهة نظره "لا يمكن القول إن الصناعة الأوروبية توقفت، لكن هناك تراجعاً في الوظائف الصناعية والتصنيع بشكل عام في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك في فرنسا، إذ انخفضت حصة العمالة الصناعية في إجمالي العمالة بشكل ملحوظ على مدى السنوات الأخيرة".


الاقتصاد الأوروبي في وجه النمو البطيء والتضخم المرتفع

وفي الشأن ذاته شهد اقتصاد منطقة اليورو العام الماضي حوالى 10 زيادات متتالية في معدلات الفائدة المرتفعة التي فرضها البنك المركزي الأوروبي للتصدي لتضخم قياسي. وحتى الأسبوع الماضي قرر البنك المركزي الأوروبي الاحتفاظ بسعر الفائدة الرئيس من دون تغيير، للمرة الثالثة على التوالي منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وأثقل التضخم في التمويل على الاستثمار واستهلاك الشركات والأسر، في حين عانت التصديرات تباطؤ الطلب العالمي، ونتيجة لذلك تعثرت منطقة اليورو في مسار التعافي. في الوقت نفسه، يتوقع المستثمرون أن تخفض أسعار الفائدة بحلول يونيو (حزيران) 2024، أو حتى قبل ذلك بالنسبة إلى الأكثر تفاؤلاً. على الجانب المقابل لا يتوقع أن تتجاوز منطقة اليورو نسبة نمو واحد في المئة (0.9 في المئة)، وتضغط عليها مرة أخرى ألمانيا، محرك أوروبا التي سيظل اقتصادها يعمل ببطء (0.5 في المئة متوقع). وتعاني البلاد الطلب الخارجي الضعيف، وتكاليف الطاقة لقطاعها التصنيعي، والفائدة المرتفعة التي يفرضها البنك المركزي الأوروبي بعد هذه النتيجة السيئة في نهاية العام، مما يثير قلقاً في بداية عام 2024.

ومن المتوقع أن تشهد الولايات المتحدة نمواً يفوق اثنين في المئة (2.1 في المئة) في عام 2024، وهي نتيجة مهمة للرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، خلال سنة انتخابية كاملة.
من جهته قال صندوق النقد الدولي إن الأداء القوي للاقتصاد الأميركي وبعض الاقتصادات الناشئة الرئيسة، مثل الصين، هو ما من شأنه أن يسمح للاقتصاد العالمي بالعمل بشكل أفضل هذا العام مما كان متوقعاً في البداية.

في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي أعلنت الصين زيادة بنسبة 5.2 في المئة في النمو الاقتصادي في عام 2023، وهي أبطأ وتيرة للاقتصاد الصيني منذ ثلاثة عقود خارج فترة كوفيد، وتتأثر بكين بأزمة عقارية، ويعاقب تباطؤ الاستهلاك وعدم اليقين الانتعاش في القوة الاقتصادية العالمية الثانية.

ختاماً يشكل الوضع الراهن تهديداً جوهرياً للقدرة التنافسية الجيوسياسية للكتلة الأوروبية، ويعود ذلك للتحولات الرقمية والمناخية التي قد تضعف من موقع الاتحاد الأوروبي. فوفقاً لتقديرات المفوضية الأوروبية فإن نصف عمليات خفض الكربون بحلول عام 2030، ستعتمد على تكنولوجيا ما تزال غير موجودة على أمل التمكن من ابتكارها، مما يضع الاتحاد أمام تحد كبير لتطوير هذه التقنيات. وفي الوقت نفسه، تحتل الصين والولايات المتحدة مكانة رائدة في هذا القطاع. ومع ذلك قدمت المفوضية الأوروبية أدوات جديدة لتعزيز الأمن الاقتصادي في القارة، ولكن يبقى التحدي الأساس هو تغيير السياسات الاقتصادية الأوروبية. هذه النقطة التي أكدها المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي دعا إلى إقرار آلية تصويت أوروبية بالأغلبية لتمكين الاتحاد من اتخاذ قرارات فعالة في مواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة. بالمقابل يبقى السؤال المطروح هو كيف يمكن علاج الأزمات الاقتصادية التي تواجه القارة العجوز؟

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير