قرر "وانغ أر"، بمجرد بلوغه الأربعين عاماً، من عمره، أن يكتب مذكراته، واختار لها عنوان "الزمن المفقود"، فجاءت رواية بالعنوان نفسه بتوقيع وانغ شياوبو (1952 – 1997)، ترجمها من الصينية إلى العربية أحمد السعيد (بيت الحكمة). يكتب "وانغ أر" حكايته المتقاطعة مع حكايات شخصيات أخرى اقترب منها خلال سنوات عمره المتوازية مع سنوات حكم مؤسس الصين الشعبية ماوتسي تونغ (1893 – 1976) وخصوصاً سنوات "الثورة الثقافية" التي أطلقها عام 1966 وانتهت عملياً بموته. إلا أن ظلالها بقيت مهيمنة بعد ذلك لسنوات طويلة، وأثرها، ربما لا تزال له امتدادات حتى هذه اللحظة ولأجلٍ غير معلوم. فهي، مع مجمل سياسات الحزب الشيوعي الذي كان يتزعمه ماو ويحكم من خلاله بالحديد والنار، خلّفت كوارث راح ضحيتها ملايين الصينيين، سواء في الحروب التي خاضها، أو نتيجة لخطة الانتقال من الاعتماد على الزراعة إلى الاعتماد على الصناعة (القفزة الكبرى إلى الأمام)، مما أسفر عن مجاعة شملت مساحات شاسعة من البلد الذي يعتبر الأكبر من حيث عدد السكان، على مستوى العالم. ويعلق "وانغ أر" من وقت لآخر على ما يكتبه عن حياته وعمله في الحفر في المناجم والتدريس في معهد التعدين، بعد فترة قضاها في الولايات المتحدة الأميركية للدراسة: "والصين بالطبع لا ينقصها صانعو الحفر"، على حد تعليقه.
هو أيضا ينقل طوال الوقت عن الآخرين. وهو بالمناسبة شخصية متكررة في غير عمل أدبي لوانغ شياو بو. وهكذا فإن السرد، بضميري المتكلم والغائب، يعكس أصواتًا عدة. يحكي ما رواه له كل من "السيد لي"، رئيسه في العمل، وما روته له "فتلة"، عن أدق تفاصيل علاقتهما الحميمة. مع العلم أن "فتلة" كانت عشيقته قبل أن تتعرف على "السيد لي". ويحكي أيضاً عن "السيد ليو"، وقد كان جاره في سكن عائلته، "كان كثير الكلام ولا يقول سوى هراء"، وعن والديه، اللذين كانا يتدخلان في أدق تفاصيل حياته الشخصية، (مثلما كانت السلطة الحاكمة تفعل مع الناس)، قبل أن يتخليا عنه وهما يفران من بلدتهما الريفية تحت وطأة المجاعة الكبرى. ويحكي عن "السيد خه" زميله في العمل في معهد التعدين، في بكين؛ والذي مات منتحرًا، وقد كان موته هذا هو بمثابة الانتصار الوحيد الذي حققه طوال سني حياته البائسة.
الصعلوك الفيلسوف
نشرت هذه الرواية القصيرة عام 1991؛ على حلقات في ملحق جريدة "ليان خه" في تايوان بعد منعها في البر الرئيسي الصيني، ثم أصدرتها دار نشر "فان رونغ" في هونغ كونغ في 1992، ضمن كتاب عنوانه "طرائف وانغ أر". ثم أعادت "ليان خه" نشرها مع روايات قصيرة أخرى لشياوبو تحت عنوان "العصر الذهبي". ولم يسمح بنشرها في الصين سوى في عام 1994.
والكاتب الذي يصفه السعيد بالصعلوك الفيلسوف، ولد في بكين عام 1952، وفي العام 1968 عندما كان في الصف الأول في المرحلة الثانوية، كُلف بالعمل في فيلق الجيش الصيني في مقاطعة يوننان الحدودية، وهي مسرح معظم أعماله الأدبية". وكان عمره 26 عامًا عندما التحق بجامعة الشعب الصينية، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية مع زوجته، وعندما عاد عمل بالتدريس في الجامعة نفسها، ثم في جامعة بكين، وعندما بلغ الأربعين، استقال ليتفرغ للكتابة. يقول بلسان "وانغ أر": "كتب مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود"، وتحدث فيها عن ذكرياته. يبدو أنه كان ميتًا منذ فترة طويلة عندما كتب هذا العمل، لكنه انتحل جسدًا آخر ليكتبه". يرى السارد أن الزمن المفقود "هو كل ما يملكه الشخص، فقط بوجود الزمن المفقود يصبح للشخص أصل ومآب". وهو هنا يتحدث ليس فقط عن زمنه الشخصي، بل كذلك عن زمن الثورة الثقافية التي قادها ماوتسي تونغ، وما تخللها وتبعها من مآس وآلام، برغم ما ينسب إليها من إنجازات تعتبر أساسا لما يشهده الصين الآن من نهضة على غير صعيد. ويتناص وانغ شياوبو في هذا العمل مع "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، أو بالأدق يعارضها، بالمصطلح النقدي.
أبعاد فانتازية
وعلى الرغم من أن وانغ شياوبو يتكئ هنا على فترة زمنية واقعية، إلا أنه نجح في إضفاء أبعاد فانتازية على شخوص روايته، ولم يقع في فخ المباشرة، وهو ينتقد ما جرى على الصعيد السياسي خلال سنوات "الثورة الثقافية"، خصوصا للطبقة الوسطى التي حوصرت أكثر من غيرها بإجراءات قاسية كان الغرض منها هو قمع حرية التعبير. ومن ثم فإن عملا مثل "الزمن المفقود" قوبل بالمنع، حتى بعد تخفيف تلك الإجراءات، وربما لو كان قد ظهر في زمن ماوتسي تونغ لحوكم صاحبه بتهمة معاداة الثورة، ولصدر ضده حكم بالإعدام. لا يتوقف "وانغ أر" في هذه الأجواء، علاقته الحميمة مع "فتلة"، والتي بدأت منذ أن كانا تلميذين في المدرسة الإعدادية، وصولًا إلى ذروتها: "وُلدنا في زمن الموت، وكصعلوكين متهورين، كيف سننتظر السعادة، ليس لنا سوى أن تتشابك أيدينا ونفعل شيئا عظيماً". وبعد مرور ثلاثة وعشرين عاما على تلك الواقعة، تعود إليه "فتلة" لتقول العبارة ذاتها التي سبق أن قالها لها هو فيما كانا يتهيآن لمضاجعة أولى. لكن "وانغ أر"، كان في تلك اللحظة يعاني من وطأة الشعور بالعجز، فاقداً الرغبة الجنسية. ليس هذا فحسب، وإنما أيضاً "مصاب بطول النظر وآلام المعدة، والتهاب البروستاتا والساق، وأعجز عن التبول. كاد الألم يصيبني بالشلل، فقدت وزني وخفَّ عقلي ثم جاء الموت".
أما هي فقد تدَّلى ثدياها وخاصمتها الدورة الشهرية، وباتت تشكو من آلام المهبل، وتساقط شعرها وغزت التجاعيد وجهها. باتت قبيحة للغاية وبدأت في الموت التدريجي". وهنا يتدخل راو عليم، لينقل عن "فتلة" قناعتها بأن "وانغ أر" بدا في شبابه كبطل مغوار، لكن عندما وصل إلى الأربعين صار على العكس تماماً. وينقل عن "وانغ أر" قوله لنفسه إنه كافح طويلاً ولكنه هُّزِم شرَّ هزيمة، عندما تشارك مع السيد ليو في سرقة الماء. ليعقب وانغ أر على ذلك الراوي بالقول إن سرقة الماء تحتاج لشجاعة أكثر من سرقة السيارات! وإضافة إلى الحس التهكمي، الذي يسود العمل، تتردد أفكار فلسفية، منها مثلاً الاستشهاد بقول شوبنهاور: "ما قبل الأربعين يمر العمر بطيئاً، وبعدها تجري السنوات"، ليعلق "وانغ أر": "يبدو الأمر كما لو كان الإنسان يزداد حيوية كلما طالت حياته. شيء جميل بالفعل، ولكن ماذا بعد اللحظة الراهنة؟ أرضى أن أعيش أحمق سعيداً ولا أكون عاقلاً حزيناً".
قصص التهور
وبعدما بات متعذرا على وانغ أر و"فتلة" استئناف تواصلهما الجسدي، راحا يتحاوران، أو ربما يتصادمان بأفكار كل منهما إزاء رغبته في الكتابة عن أصدقاء له أعدموا لأن لهم أفكاراً تختلف عن أفكار الثورة: "أرادوا أن يكونوا متهورين متمردين، ولكنهم تحولوا إلى بلهاء"، بحسب الراوي العليم.
تنتهي الرواية بالبداية، أي بتفكير وانغ أر في الكتابة عن ذلك الزمن المفقود، وتحديداً عن "قصص التهور"، ومنها "طبخ الفضلات البشرية وتناولها"، والتي يقول إنها توضح أن وقتاً مرَّ كان فيه الناس بلهاء، ولكن البلاهة لم تكن اختياراً، بل كانت فريضة، لا اختيارات دونها". ويضيف: "قصص التهور التي يمكن تذكرها كثيرة. لقد مات كثير من رفاقنا، ماتوا كأن لم يولدوا، أو كما لو أنهم لا يساوون برازاً".
...