فاجأت تعديلات الحياة السياسية الروسية وهيكلية النظام التي أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين في عز استفحال جائحة "كوفيد-19" عام 2020 المعارضة في البلاد وأخذتها على حين غرة، مما جعل رد فعلها مرتبكاً ومتعثراً.
وبضربة واحدة أخرج بوتين الطبقة السياسية من سبات العزلة بسبب الجائحة وعُطل الشتاء حين اقترح في الـ 15 من يناير (كانون الثاني) 2020 تعديل الدستور الروسي في أعقاب استقالة رئيس الوزراء غير الشعبي ديمتري مدفيديف وحكومته.
وحده المعارض الرئيس للكرملين أليكسي نافالني كتب يومها على مدونته "بوتين يريد أن يكون حاكماً للبلاد مدى الحياة، لذلك لا أحد يفهم ما يجري ولا شيء واضحاً البتة"، مضيفاً أن "الحياة ستوضح إستراتيجياتنا في المدى المنظور".
كما ندد رجل الأعمال المعارض ميخائيل خودوركوفسكي الذي يعيش في المنفى بإجراءات ستتيح "الحفاظ لمدى الحياة على نظام يضمن عدم إزاحة عصابة بوتين".
تلك التعديلات الدستورية ألقت الضوء على خطط بوتين للحفاظ على حكمه ونفوذه ما بعد عام 2024 حين سيكون مضطراً إلى مغادرة الكرملين، لعدم جواز ترشحه بنص دستوري لولاية ثالثة متتالية، قبل إقرار هذه التعديلات التي أخرجت بصورة خادعة تضمنت نقل بعض الصلاحيات إلى البرلمان على غرار اختيار رئيس الوزراء، غير أنها عززت في المقابل سلطة الرئيس وفترات حكمه المسموح بها دستورياً.
ويومها قال النائب السابق المعارض غينادي غودكوف "ربما هي المرة الأولى التي لا أفهم فيها المنطق الشخصي لبوتين، ببساطة لا أفهم لماذا كان على عجلة من أمره".
أساليب استخباراتية
على مدى 24 عاماً في السلطة نجح بوتين عبر حبك خطط استخباراتية في إسكات وسائل الإعلام وعزل المعارضة عن اللعبة السياسية إلى حد واسع، وانتهت آخر تحركات احتجاجية واسعة للمعارضة عامي 2012 و2019 بقمع بوليسي شديد، كما دين بعض الناشطين بأحكام قاسية بالسجن.
والحقيقة أنه على مدى الأعوام القليلة الماضية عندما أشارت كل الظروف إلى أن شيئاً فظيعاً كان يحدث للمعارض العنيد أليكسي نافالني، لم يصدق أحد أن أحكام السجن القاسية لمدة 19 عاماً في ظروف لا تحتمل ستكسره، لأن هذا المعارض المبدئي كان كما في كل مرة، مثّل الشخصية الرئيسة في كتاب لا يمكن أن تختفي من صفحاته في المنتصف، وكان ينجو من كل التجارب التي فرضها عليه النظام الروسي بابتسامة وروح دعابة مميزة.
محاولة اغتياله الأولى حدثت صباح الـ 20 من أغسطس (آب) 2020، عندما كان نافالني عائداً لموسكو من تومسك على متن رحلة تجارية عادية، وأثناء الرحلة أصيب بالتقيؤ ومرض مفاجئ وساءت حاله لدرجة كاد يفقد الوعي، فاضطرت الطائرة للقيام بهبوط اضطراري في أومسك.
وبعد الحادثة كتبت سكرتيرة نافالني الصحافية، كيرا يارميش، عبر منصة "إكس" أنه يعاني تسمماً حاداً، ولقد وجد هذا المنشور الآن تفسيره المنطقي بعد أن تمكنوا حتى بعد أربعة أعوام من قتله في ظروف غامضة ملتبسة، لم ولن يكشف أي تحقيق داخلي عن ملابساته ومن أعطى الأمر بتنفيذه وكيف حدث هذا.
آنذاك واصلت السلطات الروسية إنكار تعرض نافالني للتسمم بمادة "نوفيتشوك" ورفضت فتح قضية جنائية بتهمة الشروع في القتل، وأصدرت نظرية تلو الأخرى حول ما حدث له على متن الطائرة، وبشكل عام كالعادة استخدموا خدعاً استخباراتية معدة سلفاً، لكن كان من الواضح أنهم فعلوا ذلك، وقد نجا نافالني بالفعل واستغرق وقتاً طويلاً حتى يعود لرشده في عيادة شاريتيه الألمانية، وأجرى هناك مقابلات صحافية ووضع النقاط الأخيرة على فيلمه المصور عن قصر بوتين على ضفاف البحر الأسود.
وبينما كان لا يزال في ألمانيا أصدر فريقه تحقيقاً يفيد بأن مجموعة من ضباط جهاز الأمن الفيدرالي (الاستخبارات) كانت وراء تسميمه، وفوق كل ذلك أصدر نافالني مقطع فيديو بعنوان "لقد اتصلت بقاتلي، لقد اعترف بكل شيء"، إذ اتصل أمام الكاميرا برجل وصفه بأنه ضابط جهاز الأمن الفيدرالي كونستانتين كودريافتسيف، وأكد في الواقع أنهم حاولوا بالفعل قتل المعارض.
وأثار الفيديو كثيراً من النكات حول عمل جهاز الأمن الفيدرالي وسراويل نافالني الداخلية، فوفقاً لكودريافتسيف فقد عالج "نوفيتشوك" هذا الجزء بالذات من خزانة ملابس المعارض.
ومرة أخرى هناك شعور بعدم الواقعية المطلقة لما يحدث، لكن في الوقت نفسه يبدو رد الفعل هذا تجاه التسميم أكثر واقعية وأكثر أثراً في روح نافالني من وفاته المحتملة في الواقع بهذه المادة.
وفي الـ 17 من يناير 2021 قرر نافالني الخارج من الموت بأعجوبة العودة لروسيا، ومجلس إدارة بوبيدا بأكمله مكتظ بالصحافيين المرافقين له وآلاف الأشخاص يشاهدون البث المباشر الذي تجريه قناة "دوزد" التلفزيونية المعترف بها الآن في روسيا كعميل أجنبي ومنظمة غير مرغوب فيها، وتوقع الجميع أنه سيقبض عليه على الحدود مباشرة، لكنه يبدو كالمعتاد في مزاج مبهج، وشاهد هو وزوجته جوليا "ريك ومورتي" الرحلة بأكملها.
قبض على نافالني كما هو متوقع عند مراقبة الجوازات، ومنذ ذلك الحين لم يطلق سراحه، ومن الأسهل أن نتذكر ونرى كيف كان يبدو قبل أن يذهب إلى أحد السجون الروسية، لأن جميع التغييرات في وزنه ومظهره حدثت هناك بالفعل وأسفرت عن جعله يسلم الروح بخطة شيطانية غريبة عجيبة.
محاكمات بلا نهاية
منذ اعتقاله في مطار روسيا بدأت محاكمات لا نهاية لها لنافالني، فأولاً اُستبدل الحكم الصادر ضده مع وقف التنفيذ في قضية إيف روشيه القديمة بالسجن الحقيقي مدة عامين وثمانية أشهر، ثم أضيفت إليهما في صيف عام 2022 تسعة أعوام سجناً بتهمتي "الاحتيال في صرف التبرعات" وازدراء المحكمة، وفي بداية أغسطس 2023 تلقى حكماً جديداً بـ 19 عاماً في السجن بتهمة إنشاء منظمة متطرفة.
كما أصبحت ظروف احتجاز نافالني أكثر صرامة باستمرار، وتحول النظام العام إلى نظام صارم ثم اُستبدل بنظام خاص، ونُقل المعارض على مراحل أبعد وأبعد عن مسقط رأسه في موسكو حيث كان يعيش قبل التسميم.
ففي البداية نقل إلى مدينة بوكروف في منطقة فلاديمير ثم إلى قرية مليخوفو هناك، وفي نهاية عام 2023 اختفى، وفي يوم رأس السنة الجديدة تمكن المحامون من العثور عليه في المستعمرة الإصلاحية رقم (3) بقرية خارب في منطقة يامال نينيتس المتمتعة بالحكم الذاتي، وهي إحدى المستعمرات الواقعة في أقصى الشمال وأبعدها في روسيا.
وأثناء وجوده في الحجز كان يرفع دعاوى قضائية باستمرار على إدارات المستعمرات التي كان يقبع فيها بسبب ظروف اعتقاله، وفي بعض الأحيان ظهرت تسجيلات فيديو لهذه المحاكمات على الإنترنت، وبفضلها كان من الممكن رؤية نافالني والتأكد من أنه على قيد الحياة، وكان من المستحيل ألا نلاحظ مقدار الوزن الذي فقده أثناء سجنه وكيف أصبح وجهه منهكاً وخدوده غائرة.
وأثناء وجوده في السجن واجه نافالني مشكلات صحية مختلفة، وحدث كل هذا على خلفية ظروف الاحتجاز التي لا تطاق والتي ابتدعت خصوصاً له، وفي ربيع عام 2021 لم يسمح له بالنوم بشكل طبيعي باعتباره يفكر بالهرب، وكان يوقظ كل يوم منتصف الليل للتحقق من وجوده، ثم دخل في إضراب عن الطعام لأسابيع عدة لأنه لم يسمح للطبيب برؤيته، كما أرسل بانتظام إلى زنزانة العقاب، وقبل يومين من رحيله كتبت سكرتيرته الصحافية يارميش إن هذه هي المرة الـ 27 التي يرسل فيها إلى هناك، وفي المجمل سيقضي 308 أيام هناك.
ووفقاً لها فقد أطلق سراحه من زنزانة العقاب في الـ 11 والـ 14 من فبراير (شباط) الجاري، أي قبل يومين من وفاته المفاجئة، ومنح مرة أخرى 15 يوماً في زنزانة العقاب.
تنمر روتيني
كل ما حدث لنافالني أخيراً كان بمثابة تنمر روتيني لا نهاية له على شخص ما، وإن حجم العبارة في جملته الأخيرة، 19 عاماً من النظام الخاص، لم يكن في الحقيقة مهماً بقدر ما قال هو نفسه، "19 عاماً من السجن وفق النظام الخاص والرقم لا يهم، أفهم جيداً أنني مثل كثير من السجناء السياسيين أقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، إذ إن الحياة تقاس بطول حياتي أو بعمر هذا النظام".
وقد ظهرت هذه الرسالة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد صدور الحكم، لكن يبدو أنه مع مراقبة العالم أجمع لنافالني فلن يسمح له بالموت، وحتى هنا لا يزال هناك قليل من تلك الثقة الباقية من الأعوام السابقة في أن كل هذا لم يكن يحدث بشكل حقيقي، وأن نافالني سينجو من هذه العقوبة الوحشية أو سيطلق سراحه في وقت ما.
ولكن هذا لم يحدث، وبدلاً من ذلك أرسل نافالني إلى العالم الآخر، وبقي السؤال الصعب: كيف لم يظهر سياسي آخر معارض مثله في روسيا أثناء سجنه، يمكن أن يكون متمتعاً مثله بشخصية كاريزمية وشجاعة ونبيل تماماً في الوقت نفسه؟ وحتى في السجن تمكن من أن يكون أكثر ذكاء وحسن التوقيت من المعارضين الروس الآخرين بشكل عام.
يمكن التعامل مع شخصية نافالني بشكل مختلف، لكن قصته ليست فقط قصة البطولة والتضحية بالنفس والشجاعة أمام النظام، لكنها أيضاً قصة كيف غرق النظام الروسي من رأسه حتى أخمص قدميه في الحرب ضد شخص واحد ولم يتراجع ولم يتردد في استخدام أية وسيلة في هذه المعركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أفسحت الاحتجاجات المطالبة بالإفراج عن نافالني المجال لمواكب حداد عفوية لمناسبة وفاته تجري الآن في جميع أنحاء العالم، واليوم والأهم من ذلك كله أود أن يتبين أن البيان الرسمي حول أسباب وفاة نافالني كان كذبة، تماماً كما كذبة عدم تسميمه.
بصمت ومن دون ضجة ولا إعلان، اعتقلت السلطات الروسية أكثر من 600 شخص خلال فعاليات احتجاجية على اغتيال نافالني شهدتها 32 مدينة روسية منذ وفاة ألد خصوم الرئيس فلاديمير بوتين في الداخل، بحسب ما أعلنت منظمة "أو في دي إنفو" الحقوقية، وهذه أكبر موجة من الاعتقالات في الأحداث السياسية في روسيا منذ سبتمبر (أيلول) 2022 عندما احتجزت السلطات أكثر من 1300 شخص خلال تظاهرات ضد "التعبئة الجزئية" لجنود الاحتياط من أجل الحملة العسكرية في أوكرانيا.
وقالت "أو في دي إنفو" المعنية بحرية التجمع في روسي إن مدينتي سان بطرسبورغ وموسكو اللتين يحظى فيهما نافالني بدعم كبير، شهدتا أكبر عدد من الاعتقالات.
وكانت دول غربية عدة انتقدت تعامل السلطات الروسية مع المعارضين إثر الإعلان عن وفاة نافالني الذي تمتنع السلطات من تسليم رفاته بحجة إجراء تشريح لجثته لمصلحة التحقيق في سبب وفاته.
رفيقة دربه ووريثة نضاله
نجح النظام الروسي عبر أساليبه الاستخباراتية في تشتيت المعارضة وتهجيرها وفرض سطوة الخوف والرعب على كثير من شخصياتها، كما نجح في جعل شكلها هلامياً غير محسوس وغير مدرك ولا مرئي للعيان، لكن أرملة أليكسي نافالني، يوليا نافالنايا، قالت إنها ستواصل عمله في النضال من أجل البلاد.
ودعت نافالنايا الناس من خلال فيديو نشرته إلى لوقوف بجانبها متهمة بوتين باغتيال وقتل زوجها، ووصفها حلفاء وأصدقاء لها بأنها مؤيدة شرسة لزوجها الذي قاوم دائماً الحياة السياسية العامة، وأنها عملت بصمت خلف الكواليس لدعمه.
ونقلت صحف أجنبية عن أستاذ الاقتصاد في جامعة ساينس بو المقرب من عائلة نافالني، سيرغي جورييف، والذي تحدث مع يوليا خلال الأيام الأخيرة، "لقد ناقشنا قيادة المعارضة معها مرات عدة عندما كان أليكسي تحت الإقامة الجبرية أو في السجن".
ووفق جورييف فقد كانت أرملة نافالني دوماً تقول إنها عاشت مع سياسي وأدركت مدى خطورة وصعوبة هذه المهمة، وذكر أنه مع صعود نجم نافالني في البداية كناشط في مكافحة الفساد ثم كسياسي معارض، بما في ذلك الترشح لمنصب عمدة موسكو عام 2013 والرئاسة في 2018، كانت يوليا دائماً إلى جانبه.
ولفت إلى أنها "تحدثت بقوة خارج قاعات المحكمة حيث كان يحاكم في كثير من الأحيان، وانضمت إليه في بعض الأحيان خلال رحلاته الانتخابية في جميع أنحاء البلاد".
وأكد جورييف أنها ساعدت نافالني في صياغة صورته وكانت تناقش معه مشاريعه بانتظام، فقد شاركت في جميع القرارات السياسية ودعمت أليكسي دائماً وكانت جزءاً من قضيته، إذ اعتمد أليكسي دوماً على نصيحتها وتضحياتها.
لا استسلام
واعتبرت صحيفة "ذي غارديان" أن يوليا لم تستسلم حتى بعد الحكم بالسجن المؤبد على زوجها عام 2021، وصرحت بأنها ستقاوم للعمل في السياسة.
ووفق الصحيفة فإن السيدة يوليا تعتبر حالياً واحدة من أكثر الشخصيات شهرة لدى المعارضة في روسيا، وتسعى إلى نقل عمل زوجها الراحل مع تأسيس هوية سياسية فريدة.
وكتبت المحللة السياسية في مؤسسة "آر بوليتيك تاتيانا ستانوفايا" أن "الوقت وحده هو الذي سيكشف عن مدى تأثيرها في المشهد السياسي".
والتقت أرملة نافالني الأسبوع الماضي وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وقالت أمام حشد من الزعماء الغربيين والدبلوماسيين ومسؤولين آخرين في ميونيخ الجمعة الماضي إن بوتين وحلفاءه سيتحملون مسؤولية "ما فعلوه ببلادنا وعائلتي وزوجي".
ولخص مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل زيارة نافالنايا قائلاً إن الاجتماع سلط الضوء على "دعم المقاتلين من أجل الحرية في روسيا وتكريم ذكرى أليكسي نافالني".
أبرز المرشحين لخلافة نافالني
سلط نافالني الضوء على الوضع الكارثي الضعيف للمعارضة الروسية وشكلها الهلامي وتفرق شملها وتشتت أعضائها وقادتها بفعل اتخاذ بوتين إجراءات صارمة ضد المعارضة والإعلام، إذ اُعتقل الآلاف في احتجاجات مناهضة للحرب وصدور قانون جديد يقضي بالسجن لمدة 15 عاماً لمن ينشر "أخباراً كاذبة" عن الجيش، وهو قانون ظاهره الدفاع عن الجيش وهدفه الأساس قمع المعارضة وملاحقتها بحجة معارضتها الحرب وتعريضها سمعة الجيش للتشويه.
ويصور التلفزيون الحكومي الروسي المعارضين على أنهم خونة يعملون لمصلحة الغرب، ويقول بوتين إن بلاده تخوض معركة مع الغرب في أوكرانيا التي يقول إن الولايات المتحدة وحلفاءها يستخدمونها في محاولة لتدمير روسيا.
وعلى رغم ذلك تتداول أسماء أبرز المعارضين الروس الذين من الممكن أن يدفعوا باتجاه تغيير روسيا مثلما فعل أليكسي نافالني الذي يعتبر رمز المعارضة وأبرز شهدائها.
وبحسب أوساط المعارضة الروسية فإن مؤسسة مكافحة الفساد التي أسسها نافالني من المفترض أن تحمل إرثه، ويتطلع كثيرون إلى أن يضطلع حلفاؤه في المجموعة، وهم كبير الإستراتيجيين ليونيد فولكوف ورئيسة التحقيقات ماريا بيفتشيخ ومدير المؤسسة إيفان جدانوف والمتحدثة كيرا يارميش إلى جانب أرملته يوليا، بدور كبير في قيادة مسيرة المعارضة ومتابعة نهجه في مكافحة الفساد على رغم حجم الضغوط والمطاردات التي ستواجههم.
وتوقعت صحيفة "ذا هيل" أن تحظى أرملة نافالني التي تعهدت بمواصلة عمل زوجها والنضال من أجل البلاد وضد الرئيس فلاديمير بوتين بمكانة متقدمة في المعارضة الروسية، بحكم رمزية زوجها وغضبها الواضح من أولئك الذين قتلوا المستقبل، على حد تعبيرها.
ويعتبر رئيس شركة "يوكوس" النفطية التي صفاها بوتين ورجل الأعمال والمنشق الروسي ميخائيل خودوركوفسكي أحد الأسماء المتوقعة لقيادة المعارضة، بحكم خلافه السياسي مع بوتين، مما تسبب في سجنه 10 أعوام بتهم فساد وتهرب ضريبي، لكن ما يعوق خودوركوفسكي عن هذه المهمة هو انتقاله بعد خروجه من السجن إلى لندن، والعفو المفاجئ الذي منحه إياه بوتين، وكذلك ديانته اليهودية التي لا تساعد في لم شمل المعارضة المتفرقة.
ومع أن خودوركوفسكي أسس في منفاه الطوعي "منظمة روسيا المفتوحة"، وهي مجموعة معارضة لها موقع إخباري خاص بها، وعملت على تأييد كثير من المعارضين في الانتخابات، وقدمت منصة تعليمية ومساعدة قانونية للمتهمين الذين يواجهون محاكمات ذات دوافع سياسية، لكن في نهاية المطاف وتحت الضغط اضطرت "منظمة روسيا المفتوحة" إلى إغلاق أبوابها، واكتفى خودوركوفسكي بالتحول ليقود جبهة مناهضة للحرب الروسية في أوكرانيا.
وفي المرتبة الثالثة يأتي الصحافي السابق الذي تحول إلى معارض ويقضي حالياً عقوبة لمدة 25 عاماً في السجن، فلاديمير كارا مورزا، بوصفه أحد الأسماء المعارضة المؤثرة أيضاً بفعل استمراره في انتقاد بوتين من خلال مقالات الرأي والرسائل من خلف القضبان.
أما آخر هذه الأسماء فهو إيليا ياشين الذي رفض مغادرة روسيا على رغم الضغوط التي مارستها عليه السلطات إلى أن قبض عليه في يونيو (حزيران) 2022 وحكم عليه بالسجن ثمانية أعوام ونصف العام بتهمة "نشر معلومات كاذبة" عن الجيش الروسي، ومع ذلك لا يزال فعالاً ومؤثراً حتى من السجن، ولديه 1.5 متابع لحسابه على قناة "يوتيوب".
سؤال كبير وصعب
المعارضة الروسية موجودة وقائمة لكن فعاليتها ودورها محل سؤال كبير وصعب، وكذلك مدى قدرتها على تحريك الشارع، فبينما تجمع مئات المحتجين، وكثير منهم مهاجرون روس، في مدن داخل أوروبا وخارجها للتعبير عن غضبهم بعد الإعلان عن وفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني في سجنه، لم تشهد المدن الروسية احتجاجات كبيرة لافتة للنظر، واقتصرت التحركات الاحتجاجية والتأبينية لنافالني في كل مدينة على عشرات المعارضين فقط، اُعتقل معظمهم وزج بهم في السجون بحجة خرق النظام العام.
وخلافاً لصوت المعارضة الخافت داخل روسيا فقد ذكرت وكالات أنباء عالمية أن محتجين تجمعوا أمام سفارات روسية في عدد من البلدان ورددوا شعارات تنتقد فلاديمير بوتين وتتهمه بالمسؤولية عن وفاة نافالني، ولا سيما في برلين، حيث تجمع حشد يتراوح بين 500 و 600 شخص، وفقاً لتقديرات الشرطة، في شارع أونتر دن ليندن بالمدينة وهم يهتفون بمزيج من اللغات الروسية والألمانية والإنجليزية، "بوتين إلى لاهاي"، في إشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تحقق في جرائم حرب محتملة ارتكبت في أوكرانيا.
وقال رجل روسي لف نفسه بعلم مناهض للحرب باللونين الأزرق والأبيض إن "أليكسي نافالني زعيم المعارضة الروسية، وكنا دائماً نعلق آمالاً على اسمه".
وفي ليتوانيا التي كانت خاضعة في الماضي لإدارة موسكو ولكنها الآن عضو في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وموطن لمجتمع كبير من المهاجرين، وضع المتظاهرون الزهور والشموع إلى جوار صورة نافالني، كما تجمع محتجون أيضاً في روما وأمستردام وبرشلونة وصوفيا وجنيف ولاهاي وغيرها، ووقف أكثر من 100 متظاهر خارج السفارة الروسية في لندن، كما نظم المئات في لشبونة وقفة احتجاجية صامتة.
أما في روسيا فقد حذر ممثلو الادعاء المواطنين الروس من المشاركة في أي احتجاج حاشد في موسكو، وقالت جماعة "أو في دي إنفو" المدافعة عن الحقوق التي تقدم تقارير عن حرية التجمع في روسيا إن مئات الأشخاص اعتقلوا في مسيرات تأبين لنافالني، ونقلت عن مشاركين في هذه المسيرات المتواضعة أن نافالني كان "رمزاً للحرية والأمل".
لكن يبدو جلياً أن مساحة الحرية تضيق أكثر فأكثر في روسيا، وأن الأمل بالتغيير يخبو رويداً في بلاد دوستويفسكي وتولستوي وغوغل وباسترناك وشيخوف بولغاكوف، وغيرهم من كبار الكتاب والأدباء، الذين ألهموا العالم بأسره وأهدوه آمالاً بغد أفضل وأكثر إشراقاً.