Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مطورو الذكاء الاصطناعي منقسمون والبشرية مختبرهم الكبير

بينما يتهدد الذكاء الاصطناعي بقلب حال العالم رأساً على عقب، تدعو حركة فلسفية جديدة إلى إطلاق عنان التكنولوجيا والرأسمالية. في التقرير التالي نستكشف العالم المندفع نحو التسريع التكنولوجي الفاعل

في اتجاه عقارب الساعة من أعلى اليسار: رئيس شركة "أوبن أي آي" سام ألتمان، وصاحب رأس المال الاستثماري مارك أندريسن، ورجل الأعمال مارتن شكريلي، وعضو مجلس إدارة "أوبن أي آي)  السابق إيلون موسك، وفي الوسط، نجمة البوب غرايمس (اندبندنت/ غيتي)

في الملاهي الليلية ومراكز تجمع المبرمجين في مدينة سان فرانسيسكو، تحتدم معركة في سبيل مستقبل البشرية.

فمن ناحية، تجد حاملي شعلة التقدم مندفعين بسرعة فائقة نحو مستقبل طوباوي لألوهية تكنولوجية. وفي الركن المقابل تقف ضدهم قوى الهلاك واليأس، الذين يتوقعون مصيراً كئيباً من الركود والانحدار سيحكم جنسنا البشري. إذاً: إلى أي من الجانبين تقف أنت؟

إننا إزاء خطاب تعيين خَطته حركة فلسفية يشهد شكلها الأول حركة تطور مطردة، وقد أحدثت ضجة في وادي السيليكون خلال العام الماضي، والمعروفة باسم "التسريع الفاعل" (أو اختصاراً E/Acc).

وفيما يسجل الذكاء الاصطناعي تطورات مذهلة، مهدداً بحدوث اضطراب اقتصادي جسيم وحاملاً الكونغرس الأميركي إلى عقد جلسات استماع عاجلة في شأن احتمالية "فناء الإنسان" بسببه، يقدم "التسريع الفاعل" رسالة لا تبدو منطقية بعض الشيء، ومفادها: لا تتوقف. بل لا تبطئ حتى. أسرع.

في ديسمبر (كانون الأول) 2023، تفجر هذا المناخ المتوتر بين تطور [الذكاء الاصطناعي] من جهة، والسلامة في الجهة المقابلة وتحول إلى حرب بين الشركات، وذلك عندما حاولت المؤسسة غير الربحية المسيطرة على "أوبن أي آي" OpenAI، الشركة المطورة لروبوت الدردشة "تشات جي بي تي"ChatGPT، إقالة المؤسس المشارك سام ألتمان ذي الباع الطويل في منصب الرئيس التنفيذي.

وفي حين لم تتكشف بعد الأسباب الدقيقة وراء هذا القرار الذي ارتآه أعضاء مجلس الإدارة، علمت "اندبندنت" من مصدر داخلي مطلع أنهم كانوا قلقين من أن يعوق ألتمان قدرتهم على الإشراف على الشركة وتوجيهها نحو المنفعة المجتمعية، وهو الهدف الرئيس وراء إسناد المسؤولية إلى مؤسسة غير ربحية من البداية.

بالنسبة إلى البعض، جل ما تبتغيه حركة "التسريع الفاعل" هو الوقوف في مواجهة صوغ قوانين تنظيمية معقدة وخانقة على [الذكاء الاصطناعي] والرد على "المتشائمين" [أصحاب النظرة السوداوية التي ترى أن الذكاء الاصطناعي سيقود إلى انقراض البشرية] في هذا الحقل الذين يدعون إلى فرض قيود تحكم بقبضة من حديد على تطوير الذكاء الاصطناعي، على اعتبار أن تدبيراً كهذا سيحول دون نهاية العالم على يد الآلة.

في تصريح أدلى به إلى "اندبندنت"، يقول نيك ديفيدوف، مستثمر مغامر يركز في أعماله على الذكاء الاصطناعي: "بيت القصيد من حركة ’التسريع الفاعل‘ للذكاء الاصطناعي هو أن التقدم لا يمكن معالجته إلا من خلال مزيد من التقدم. جل ما علينا فعله مساعدة المجتمع على التعجيل في وتيرة التقدم، ومن ثم فإن القيمة الإضافية التي يولدها هذا المسار ستساعدنا في العثور على الموارد اللازمة لإصلاح الانعكاسات السيئة التي يسفر عنها التطور في مجال الذكاء الاصطناعي."

بالنسبة إلى آخرين، تتوخى هذه الحركة غاية أعظم شأناً، بل ذات طبيعة روحية: مساعدة جنسنا البشري على تقرير مصيره وقبول فكرة توسع البشرية خارج الأرض والمغامرة في الفضاء لاستكشاف واستيطان كواكب أخرى بما تمليه أبسط قوانين الفيزياء.

روهان باندي، مهندس في بحوث الذكاء الاصطناعي نظم أخيراً لقاءً جمع 65 عضواً من حركة "التسريع الفاعل" للذكاء الاصطناعي، من بينهم مؤسسو شركات ناشئة ومستثمرون معروفون، يقول إن فحوى هذه الحركة تتمحور حول إدراك أن الدور الذي نضطلع به بوصفنا مبتكرين في مجال الذكاء الاصطناعي يتماشى تماماً مع الإرادة الديناميكية الحرارية الأساسية للكون، أو أنه ينبثق منها مباشرة".

 

مارك أندريسن، صاحب رأس مال استثماري كبير، يفاخر بإعجابه بهذه الحركة، شأن زميله المستثمر غاري تان، ومئات الأشخاص الذين توافدوا إلى سهرة في أحد الملاهي الليلية عنوانها حصرياً "التسريع الفاعل" للتكنولوجيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي (وقد زينت السهرة مجموعة من الأغاني المسجلة بأداء النجمة الكندية غرايمس). ويندرج بين المؤيدين أيضاً مارتن شكريلي، المحتال المدان والملقب بـ"فارما برو" الذي تحول إلى رجل أعمال في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتصلة بالطب.

في الواقع، تطرح "حركة التسريع الفاعل" للتكنولوجيا انقساماً لا ينفك يتسع داخل عالم صناعة الذكاء الاصطناعي التي ما زالت تعتبر ناشئة نسبياً، والتي تتركز بصورة كبيرة في منطقة خليج سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأميركية. ولكن هذا الجدل يكشف النقاب عن صراع أعمق يتعلق بالجميع في أي مكان كانوا: من سيسيطر على الموجة التالية من الذكاء الاصطناعي ويستفيد منها؟

"التسريع أو الموت"

عندما سمع مالكولم كولينز للمرة الأولى عن حركة "التسريع الفاعل" للتكنولوجيا، بدت مناسبة تماماً لاهتماماته. ولما كان زعيماً لأيديولوجية إنجابية ذات رؤية مستقبلية تشجع على زيادة عدد السكان، ويمجد فوائد الذكاء الاصطناعي غالباً، فإنه كان حريصاً على تكوين حلفاء جدد.

يخبر كولينز "اندبندنت": "وجدت أنها حركة مختلفة عما كنت أعتقد. يبدو أن أعضاءها لا يعقدون مؤتمرات أو اجتماعات وليست لديهم مؤسسات، أو أي شيء من هذا القبيل".

وبدلاً من ذلك، لم نشهد سوى سحابة لا تنفك تتسع من "ميمات"memes ومنشورات تفيض بمصطلحات تكنولوجية فارغة في عالم "السايبربانك"، كما يسمى [والتي غالباً ما تتضمن كلمات وعبارات معقدة أو مستقبلية تتعلق بالتكنولوجيا وأجهزة الكمبيوتر والمجتمع]، وشبكة فضفاضة من أشخاص اختاروا رفع راية "التسريع الفاعل" للتكنولوجيا.

وفي المركز يتربع مدون كان يحمل اسماً مستعاراً عرف آنذاك بـ"بيف جيزوس" فحسب، وصفه الموقع الإلكتروني E/Acc Wki بأنه "الزعيم الأساس للحركة التي لا قائد لها"، والذي بدأ في وضع الخطوط العريضة لهذه الفلسفة في صيف عام 2022. وفي الشهر الماضي، كشفت مجلة "فوربس" عن جيزوس بوصفه مهندساً في الحوسبة الكمومية يدعى غيوم فيردون من كندا.

لمن لا يعرف، يشير القانون الثاني للديناميكا الحرارية [فرع من الفيزياء تصف قوانينه العلاقة بين الطاقة الحرارية أو الحرارة والصور المختلفة الأخرى من الطاقة وكيف تؤثر في المادة] إلى أن كل الطاقة الموجودة في نظام مغلق [نظام لا تخرج منه طاقة ولا تأتيه طاقة من الخارج] ستنتشر في نهاية المطاف إلى حال تصبح فيها كل الطاقة موزعة بشكل متماثل عديم النفع [فقد الطاقة الحركية]. وقد أشار أحد علماء الفيزياء، ويدعى جيريمي إنغلاند، إلى أن الكون متحيز بطبيعته نحو صور من المادة تعجل بهذه العملية، مثل صور الحياة، التي تكرر نفسها بلا هوادة لتستهلك كل الطاقة المتاحة.

تستقرئ حركة "التسريع الفاعل" للتكنولوجيا هذه النظرية المبتكرة إنما المتنازع عليها للادعاء بأن تحقيق أقصى قدر من استهلاكنا للطاقة يشكل الهدف الأسمى لوجودنا. الكون، الذي يشخصن أحياناً على أنه "إله الديناميكا الحرارية"، يريد منا أن نغزو النجوم ونحولها إلى محطات طاقة ضخمة، وقد كان تاريخ البشرية برمته بمثابة نقطة انطلاق نحو هذا المصير الكوني.

كي يستمر وجودنا، علينا أن نطلق العنان لأشكال أكثر قوة من الذكاء، بدءاً بالرأسمالية، التي اعتبرها فيردون "أقوى شكل من أشكال تكنولوجيا المعلومات التي عرفها الإنسان"، ثم "الذكاء العام الاصطناعي" (اختصاراً AGI)، أي [البرامج الذكية] القادرة على مضاهاة البشر أو حتى التفوق عليهم في إنجاز أي مهمة.

ولكن السعي إلى تأخير هذه العملية أو إحكام السيطرة عليها من شأنه أن يحكم على البشرية بأن تعيش أيامها على كوكب واحد هش. كتب فيردون أننا إزاء "خيارين اثنين لا ثالث لهما، التسريع التقني أو الموت. لا تكن في صف الموت".

واتضح أن هذا المزيج من الروحانية والألغاز التي تتجاوز المعرفة البشرية العادية من جهة والتحررية الرأسمالية المفرطة من جهة أخرى، عامل الجذب بالنسبة إلى كثر في الصناعة. وفي أكتوبر (تشرين الأول)، حظيت بتأييد أندريسن، الذي أعلن أنه "لا مشكلة مادية، سواء خلقتها الطبيعة أو التكنولوجيا، لا يمكن حلها بتطوير مزيد من التكنولوجيا... حالات الوفاة مثلاً التي كان في المستطاع الحيلولة دون حدوثها بواسطة ذكاء اصطناعي ومنعت من الوجود [هي] إحدى صور القتل".

ولكن أن تكون مؤيداً لحركة "التسريع الفاعل" للتكنولوجيا لا يعني أن تتفق مع الناحية اللاهوتية منها. "بالنسبة إليَّ، يتمحور ’التسريع الفاعل‘ حول: كيف يسعنا أن نجد حلولاً للمعضلات التي بين أيدينا، هنا والآن؟" يقول ديفيدوف.

ومع ذلك، يعتبر فيردون "التسريع الفاعل" بمنزلة "دين فوقي"، وهو الجانب الذي نال إعجاب باندي عندما تعرف إلى الحركة للمرة الأولى في مايو (أيار) أو يونيو (حزيران) الماضيين. يقول: "كان نظامها الأخلاقي... يتماشى إلى حد كبير مع وظيفة النفعية التي أعكف على تحسينها في حياتي".

 وفي نوفمبر، رقص مؤيدو الحركة تحت لافتات عملاقة كتب عليها "سرع أو مت" و"تعال وخذها" في حفل رعته شركة "إكستروبيك" التي يملكها فيردون (قالت نجمة البوب ​​غرايمز إنها "تختلف بشدة" مع أفكار الحركة، ولكنها أرادت أن تؤدي الأغاني في "منطقة العدو" بغية تعزيز النقاش الهادف). حتى إن متجراً للبضائع يروج لسترات بقلنسوة مزينة برسم بياني منمق يظهر النمو المتسارع للذكاء الاصطناعي.

ولكن خطاب "نحن ضدهم" أفضى إلى نفور بعض صناع الذكاء الاصطناعي، إذ وصف أحد رجال الأعمال "التسريع الفاعل" بأنها صورة من "العبادة". وانتقد آخرون الارتياح الصريح لمؤسس الحركة لإمكانية الاستعاضة عن البشر البيولوجيين بالآلات (علماً أن باندي يقول إن هذا التحول سيكون تطوراً وليس "انقراضاً").

بيد أن حركة "التسريع الفاعل" عبارة عن فلسفة مجزأة عن عمد، وليس من الضروري، في رأي المؤيدين، الموافقة على كل النقاط. والأهم من ذلك بأشواط الفكر الذي يعارضونه [لجم تطور الذكاء الاصطناعي].

صعود نجم المتشائمين؟

في مساء الجمعة الـ17 من نوفمبر 2023، وبعد مرور ثماني ساعات على قرار "أوبن أي آي" بطرد ألتمان، نشر رجل أعمال شاب في مجال الذكاء الاصطناعي يدعى كريستيان لويس رسالة تحد إلى متابعيه على منصة "إكس" (المعروفة سابقاً باسم "تويتر").

وقال لويس [عن طرد ألتمان]: "إننا فعلاً في حال حرب الآن. إنها بداية حملة ترهيبية مهلكة".

كان لويس واحداً ضمن مؤيدين كثر لحركة "التسريع الفاعل" الذين فسروا الانقلاب الفاشل لـ"أوبن أي آي" على أنه، على حد تعبير الصحافي في "سلايت" نيتيش باهو، يوازي في مجال الذكاء الاصطناعي "الطلقة التي تردد صداها حول العالم" [عبارة تشير إلى الطلقة التي أشعلت شرارة الثورة الأميركية. بمرور الوقت، أصبحت العبارة تمثل أي حدث مهم له عواقب بعيدة المدى أو يطلق سلسلة من ردود الفعل للأحداث]. غرد مارك أندريسن: "التسريع الفاعل!". "لقد فاز أصحاب الرأي القائل إن الذكاء الاصطناعي سيقود إلى انقراض البشرية" كتب حساب معجبي إيلون ماسك "هول مارس كتالوغ" Whole Mars Catalogue، في حين قال فيردون: "لن يثق أحد مجدداً بالقائلين إن الذكاء الاصطناعي سيكتب نهاية البشرية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"التشاؤم"، إلى جانب "التباطؤ"، يشكلان الاسم الذي يطلقه مؤيدو "التسريع الفاعل" على المشاعر التي صارت محتومة في دوائر الذكاء الاصطناعي منذ الإطلاق الصادم لـ"تشات جي بي تي" في نهاية عام 2022.

إن التعلم الآلي، وهو التقنية الأساسية وراء "تشات جي بي تي"، له جذوره في الخمسينيات من القرن الماضي وقد استخدم بنشاط من قبل عديد من الصناعات لأكثر من عقد من الزمن. على رغم اعتماده على نطاق واسع، هناك جدل مستمر بين الخبراء حول إمكانية تطور هذا النوع من الذكاء الاصطناعي إلى الذكاء العام الاصطناعي (AGI). يجادل بعض الخبراء بأن التنبؤات المروعة في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي هي مجرد صورة من صور الضجيج المبالغ فيه.

ولكن مع ذلك، فإن التطور المذهل للنتائج والإجابات التي يقدمها "تشات جي بي تي" حمل كثيراً من مطوري الذكاء الاصطناعي إلى رفع سقف توقعاتهم في شأن الاحتمال القائل إن الذكاء الاصطناعي سيدمر البشرية، النظرية المعروفة باسم "احتمالية الهلاك" p(doom) [probability of doom].

في سان فرانسيسكو، صار مألوفاً مشهد المتظاهرين الذين ينادون شركات الذكاء الاصطناعي بـ"التوقف موقتاً" عن المضي قدماً في ابتكار أنظمة أكثر تطوراً، في حين بدأ رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك بالتحذير من أن الذكاء الاصطناعي ربما يقود إلى فناء البشرية. حتى إن أحد فلاسفة الذكاء الاصطناعي المؤثرين، إليازر يودكوفسكي، دعا إلى فرض حظر عالمي على تطوير الذكاء الاصطناعي المعقد باتخاذ إجراء عسكري، زاعماً أنه حتى الحرب النووية ستكون أقل خطورة من الذكاء الاصطناعي المفرط المنفلت العقال.

يقول أندرو كريتش، الرئيس التنفيذي لشركة "إنكالتشيرد أي آي" Encultured.AI، الشركة المعنية بأبحاث سلامة الذكاء الاصطناعي، الزميل السابق في "معهد بحوث الذكاء الآلي" (MIRI) لمؤسسه يودكوفسكي: "أعتقد أننا نواجه تهديداً وجودياً بالفناء نتيجة طريقتنا في التعامل مع الذكاء الاصطناعي... في ظني أن كثيراً في مجموعة ’التسريع الفاعل’ إما أنهم لا يصدقون أن هذا التهديد موجود، أو أنهم لا يجدون فيه أي مشكلة".

يرتبط جزء كبير من نظرية هلاك الجنس البشري بالحركة [اليسارية] "الإيثار الفاعل" (اختصاراً EA) [تحث الأثرياء على العطاء من ثرواتهم لإحداث تغيير مؤثر في قضايا شائكة مثل الفقر والأمراض والمناخ]، التي يعتبر اسم "التسريع الفاعل" (E/Acc) تلاعباً لفظياً لاسمها، وبالثقافة الفرعية "العقلانية" الأوسع. كثيراً ما اعتقد المفكرون الذين يتبنون الفلسفة العقلانية أمثال يودكوفسكي أن العمل المنجز في شأن "مواءمة" الذكاء الاصطناعي مع القيم الإنسانية اليوم من شأنه أن يمثل غداً الفارق بين المدينة الفاضلة (يوتوبيا) والفناء، وهو منظور اجتذب عديداً إلى هذا المجال.

وبفضل تبرعات من أصحاب المليارات ذوي التفكير المماثل على غرار رجل الأعمال والملياردير الأميركي سام بانكمان فرايد [ما دام كان مدفوعاً بحلم الثراء من أجل تغيير العالم إلى الأفضل]، والتجمع معاً في مراكز متخصصة، تمكن أعضاء "الإيثار الفاعل" من تحقيق نفوذه لهم في "وادي السليكون"، وواشنطن العاصمة، وأماكن أخرى.

"إنها حقاً منظومة بيئية مدعومة بمليارات الدولارات، نجحت على نحو مبهر في التسلل إلى وادي السيليكون ونشر هذه النظرة العالمية"، يقول إميل بي توريس الذي يعكف على دراسة هذه الحركة، علماً أنه فيلسوف كان يتبنى سابقاً الفلسفة العقلانية.

في الحقيقة، يقول توريس، إن "الإيثار الفاعل" و"التسريع الفاعل" أيديولوجيتان متماثلتان: كلتاهما مهتمة بشدة بالتنبؤات التأملية المستمدة من الخيال العلمي ويشتركان في حماسة نفعية لتعظيم "القيمة". ومع ذلك، وعلى رغم هذه القواسم المشتركة، فإن أتباع "التسريع الفاعل" يكنون عداءً شديداً تجاه "الإيثار الفاعل"، وقد وصفها فيردون، المعروف أيضاً باسم "جيزوس"، مراراً وتكراراً بأنها "عبادة الموت".

دان هندريكس، مدير "مركز سلامة الذكاء الاصطناعي" يقول في هذا الصدد: "أرى حركة ’التسريع الفاعل’ أشبه باستجابة على الأحكام الأخلاقية السلبية التي تطلق على حركة ’الإيثار الفاعل’. إنها بمثابة علاج مهدئ للباحثين الذين يتقاضون مبالغ فاحشة من المال لأتمتة وظائف أعداد كثيرة من الناس... إذ تجعلهم يشعرون بالرضا عن أنفسهم، من خلال تبني قصة يكونون فيها الأبطال."

آلة رأس المال التكنولوجي

أسست شركة "أوبن أي آي" في عام 2015 في سبيل هدف نبيل وإنما متناقض: التأكد من أن الذكاء الاصطناعي العام المستقبلي "سيفيد البشرية جمعاء" من خلال أن تصبح أول شركة تقوم بتطويره.

ومن طريق جمع تبرعات بقيمة مليار دولار من شخصيات مثل إيلون ماسك، ورائد الأعمال والمستثمر الرأسمالي بيتر ثيل، وغيرهم من نجوم التكنولوجيا الكبار، كانت الشركة تأمل في أن تكون "غير مقيدة بالحاجة إلى تحقيق عائد مالي". وأعلن ميثاقها، الذي نشر في عام 2018، أننا نؤدي "واجبنا الائتماني الأساس تجاه الإنسانية".

ومع ذلك، مع مرور الوقت، أصبحت شركة "أوبن أي آي" تشبه بشكل متزايد أي شركة تكنولوجيا تقليدية. وفي عام 2019، وبسبب الكلفة الباهظة لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي الكبيرة، أنشأت ذراعها الربحية لجذب مزيد من المستثمرين. تشير التقارير منذ ذلك الحين إلى أنها أصبحت أكثر سرية وتنافسية من أي وقت مضى في سعيها إلى الحفاظ على تفوقها. وفي هذا العام، خففت الحظر الطويل الأمد على الاستخدامات العسكرية لتقنيتها.

وهذا ما يطلق عليه المفكرون الأساسيون في حركة "التسريع الفاعل"، مستعينين بمصطلح من بنات أفكار الكاتب والفيلسوف البريطاني نيك لاند، "آلة رأس المال التكنولوجي". إنه المحرك عينه الذي أنتج "فيسبوك"، و"أمازون"، و"غوغل": وهو المحرك الذي يدفع الشركات دائماً إلى إعطاء الأولوية للربح فوق كل اعتبار.

ربما يرى غيوم فيردون ومارك أندريسن إيجابية في هذا النهج. إنهما يتبعان أسلوب مفكري السوق الحرة من أمثال الكاتبة والفيلسوفة الأميركية من أصل روسي آين راند والفيلسوف وعالم الاقتصاد النمسوي البريطاني فريدريك هايك [معروف بدفاعه عن الليبرالية الكلاسيكية]، ولا يكتفيان برفض التشاؤم الذي تعبر عنه "الإيثار الفاعل"، بل يرفضون أيضاً أي جهود لتقييد الذكاء الاصطناعي.

ما دام موقف سام ألتمان تجاه الآراء المختلفة لمعركة "التسريع الفاعل" ضد "الإيثار الفاعل" موضوعاً للتكهنات. وقد اعترف علناً أنه "يعتقد أن كارثة ستحل علينا مستقبلاً ويعد العدة لها"، وقد قضى العام الماضي يسافر حول العالم في سبيل تحذير السياسيين من الخطر "الوجودي" الذي يطرحه الذكاء الاصطناعي. ولكن مع ذلك، فقد سعى أيضاً إلى تسويق منتجات شركة "أوبن أي آي"، فيما كان يميل إلى أفكار فيردون علناً.

وهكذا، عندما حاول أعضاء مجلس إدارة "أوبن أي آي" القريبون من "الإيثار الفاعل" إطاحة ألتمان، لم يكن مؤيدو "التسريع الفاعل" وحدهم الذين فسروا تحركاتهم على أنها محاولة لكبح جماح "الذكاء العام الاصطناعي".

وكشفت تقارير لاحقة عن صورة أكثر تعقيداً. اتهم الموظفون ألتمان بالسلوك غير النزيه تجاههم وأحياناً "المسيء إليهم نفسياً"، إذ وصفه أحد الموظفين السابقين في "أوبن أي آي" علانية بأنه شخص "مخادع" و"متلاعب".

نفى ألتمان محاولة التلاعب بمجلس الإدارة، علماً أنه اعترف بأنه كان أحياناً "يتصرف بطريقة خرقاء" في صراعاته معهم. وأعرب عن استعداده للخضوع لتحقيق مستقل في هذه المسألة.

وفي حديثه إلى "اندبندنت"، قال شخص مطلع على وجهة نظر مجلس إدارة الشركة إن الأخطار الوجودية لم تؤد دوراً كبيراً في اتخاذهم قرارهم هذا. بل في الحقيقة، كان همهم الأساس أن ألتمان كان يعمل على مركزية السلطة داخل الشركة وعزل نفسه عن الرقابة، مما يعرض للخطر مجموعة من المبادئ التقليدية من قبيل التأكد من أن تكنولوجيا "أوبن أي آي" لا تؤدي إلى تفاقم الظلم.

في ضوء ذلك، لم يكن ما حدث في "أوبن أي آي" مجرد مبارزة بين فلسفتين غامضتين، بقدر ما كان اختباراً لمعرفة ما إذا كانت حتى الشركة التي كان الغرض الأساس من إنشائها مقاومة هذا المسار قادرة على الحفاظ على موقفها حالما تحقق الصناعة نمواً كبيراً بما يكفي.

يقول هندريكس: "لقد أثبتت قوة الشركات أن التطورات المهمة في الذكاء الاصطناعي ستكون مدفوعة في المقام الأول بالضغوط التنافسية وديناميكيات السباق. النوايا والأيديولوجيات الأخرى، لا تهم كثيراً حقاً. واللاعبون في الساحة لن يتوافقوا مع القيم الإنسانية، بل مع التطور المستمر لنظام رأس المال التكنولوجي هذا".

ويشكل ذلك احتمالاً مثيراً للقلق ليس فقط بالنسبة إلى المهتمين بـ"الخطر الوجودي"، الذين يعدون 75 في المئة من الأميركيين وفق أحد استطلاعات الرأي، بل أيضاً بالنسبة إلى مجموعة واسعة من العلماء والناشطين الذين يرفضون انشغال العقلانيين بسيناريوهات الانقراض.

يقول توريس: "إن حال الجدل بين ’التسريع الفاعل‘ و’الإيثار الفاعل‘ أشبه بنزاع عائلي. إنما تنقصه كل الأسئلة التي يطرحها علماء أخلاقيات الذكاء الاصطناعي حول التحيز الخوارزمي، والتمييز، والأثر البيئي لـ[أنظمة الذكاء الاصطناعي]، وما إلى ذلك."

أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تنشرها شركات التكنولوجيا الكبرى حالياً متهمة منذ زمن بأنها تلحق الضرر بالمجتمع، بدءاً من خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تختار ما يراه مليارات الأشخاص على خلاصاتهم، وصولاً إلى برنامج تقييم الأخطار الذي يخبر القضاة بمدى احتمال عودة المجرم إلى ارتكاب الجريمة مرة أخرى.

وفي الوقت نفسه يبدو أن الذكاء الاصطناعي "التوليدي" مثل "تشات جي بي تي" يتسبب فعلاً في خسارة الوظائف، ويعزز قوة المحتالين والأشخاص وراء إرسال الرسائل البريدية غير المرغوب فيها (سبام). إنه يعاني "الهلوسة" [حال تصيب أنظمته فتروح تقدم إجابات غير صحيحة أو غير مرتبطة بالسياق المعطى، ولكن ذات درجة عالية من الثقة تجعلها تبدو مقنعة]، الناجمة عن التغذية بكميات مهولة من الأعمال المحمية بحقوق الملكية من دون إعطاء تعويض أو الحصول على أي إذن.

تاريخياً، رأى بعض المتشائمين أن هذه القضايا غير ذات أهمية مقارنة مع خطر الانقراض. ولكن كريتش وهيندريكس يرفضان هذا المنطق بصورة قاطعة، ويزعمان أن إيجاد حلول عادلة للمشكلات القصيرة الأجل يشكل مقدمة حاسمة لمعالجة المشكلات الطويلة الأجل.

يقول كريتش "إن النزاهة التي ينبغي توخيها في السيطرة على تأثير الذكاء الاصطناعي [الآن]، يجب أن تسيطر أيضاً على التأثيرات الكارثية للذكاء الاصطناعي. إذا كان يشكل خطراً على المجتمع، فلا بد من وجود مجموعة متنوعة من الأشخاص القادرين على أن يقولوا لا لذلك قبل وقوعه".

حتى ديفيدوف، على رغم تأييده التسريع التقني على نطاق واسع، يعتريه قلق في شأن فقدان الوظائف على المدى القصير الذي سيسببه الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في دول مثل باكستان أو إندونيسيا حيث يشكل العمل المكتبي الذي تستعين به مصادر خارجية من العالم الأول جزءاً كبيراً من الاقتصاد.

ولكن من غير المرجح أن يؤدي أي من هذا إلى ثني عزيمة مؤيدي "التسريع الفاعل" و"المتشائمين" في شأنها على حد سواء، الذين يعتقدون أن كل القضايا السياسية السابقة لن تعود قريباً ذات أهمية عملية.

"الفارق أن هذين المعسكرين يعتقدان أننا ’سنخلق إلهاً‘ في غضون الـ20 عاماً المقبلة،" يقول نوا، وهو عالم متخصص في تكنولوجيا التعلم الآلي لدى إحدى شركات التكنولوجيا الكبرى في سان فرانسيسكو يبلغ من العمر 24 سنة. ويختم: "وإذا صدقت الأمر، فهذا يغير تماماً طريقة تفكيرك في مسألة ما من قبيل تغير المناخ".

© The Independent

المزيد من علوم