ملخص
كثيراً ما ظلت القومية الأمهرية تمثل صمام أمان للوحدة الوطنية الإثيوبية لكن انقلبت الأوضاع رأساً على عقب حالياً... فما أسباب ذلك؟
ظل إقليم الأمهرة الإثيوبي، خلال السنوات التي أعقبت وصول رئيس الوزراء آبي أحمد لسدة الحكم بعد ثورة شعبية أطاحت حكم "أقلية تيغراي"، يمثل المنطقة الآمنة التي توفر الدعم السياسي للدولة المركزية في أديس أبابا، إذ برز التحالف الكبير بين قوميتي الأورومو والأمهرة، تحت مسمى "أورو- مارة"، الذي شكل القوة السياسية الطامحة لإحداث تغيير بعد ثلاثة عقود من حكم الجبهة.
وتطور هذا التحالف بين القوى السياسية الممثلة لإقليم الأمهرة وحزب "الازدهار" الحاكم، إلى ذروته عند اندلاع الحرب في إقليم تيغراي، فانتظمت الحركات المسلحة الأمهرية إلى جانب الجيش النظامي لمحاربة قوات تيغراي، خلال الفترة من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 وحتى نوفمبر 2022، قبل أن تنقلب التحالفات عقب توقيع اتفاق بريتوريا للسلام بين الحكومة المركزية وجبهة تحرير تيغراي، حتى صارت المنطقة الأمهرية موطناً لانتفاضة مسلحة شاملة، تحارب الجيش النظامي.
فما الأسباب الرئيسة التي أدت إلى انفضاض التحالف السابق وقيام تحالفات جديدة بين القوى السياسية التيغراوية والحكم المركزي في أديس أبابا؟ وما المقاربات التي تعتمدها القوى السياسية والعسكرية الأمهرية تجاه حكومة حزب الازدهار ورؤية الأخير في حلحلة الاضطرابات القومية سواء في تيغراي أو إقليمي أمهرة وأورومو، وهل ثمة أدوار للقوميات الأخرى في تشكيل التحالفات الراهنة، وما حدود التدخلات الإقليمية والدولية ودورها في الأزمات التي تعيشها إثيوبيا؟
من المؤكد أن السبب المباشر للانتفاضة التي اندلعت في إقليم الأمهرة يتمثل في توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية (CoHA) نوفمبر 2022 بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيغراي (TPLF)، ومنذ ذلك اعتبر قادة الحركات المسلحة الأمهرية تلك الاتفاقية بمثابة "صفقة خيانة" للتحالف العسكري القوي الذي استمر لعامين مع الجيش النظامي ضد غريمهما المشترك.
وأشعلت بعض البنود التي تضمنتها الاتفاقية بخاصة المتعلقة بنزع سلاح كل الميليشيات المسلحة، بما فيها ميليشيات الأمهرة، موجة من الغضب لدى قادة العمل المسلح في الإقليم المحاذي لتيغراي. كما أعربت الطبقة السياسية الأمهرية عن مشاطرتها ذات المشاعر، تجاه هذا الاتفاق الثنائي، للدرجة التي دفعت بعض النخب الشهيرة في حراك الأمهرة إلى التعبير عن الرغبة في الانفصال، وهو أمر لم يحدث من قبل في تاريخ إثيوبيا.
وكثيراً ما ظلت القومية الأمهرية تمثل صمام أمان للوحدة الوطنية الإثيوبية، ولعل أفضل وصف للعلاقات المتوترة بين الدولة الإثيوبية والنخبة السياسية في أمهرة، ذلك الموقف الذي عبر عنه وزير الخارجية الأسبق رئيس إقليم أمهرة السابق جيدو أندارجاشيو، الذي تحدث في خطابه أمام البرلمان عن أن "العلاقات بين شعب الأمهرة وحزب الازدهار بلغت مرحلة القطيعة التي لا رجعة فيها".
أما السياسي الشهير لدتوا إيالوا فاعتبر أن "إقليم أمهرة يتعرض لتطهير عرقي معلن، من قبل الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد"، على حد قوله.
وفي خضم الصراع الدامي الذي يجري بين الميليشيات المسلحة والجيش النظامي، مع عدم وجود أي احتمال لنهاية سلمية في الأفق، أضحى من الضرورة بمكان قراءة المسار السياسي الحالي في إقليم الأمهرة في ظل انهيار حكومة الإقليم وإعلانها تفويض الحكومة المركزية للتعاطي مع الشأنين الأمني والعسكري داخله.
ويطرح ذلك أيضاً أسئلة تتعلق بالعلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع، وبين الحكومات المحلية والمركز، وما هي حدود سلطة الدولة في بسط السلم والأمن في الأقاليم التي تتمتع بحكم فيدرالي محدود، وهل أسهم الحكم الفيدرالي القائم على البعد الإثني في بروز الاضطرابات القومية، وصولاً إلى مستقبل الدولة الإثيوبية واحتمالات التفكك؟!
بين الوطنية والقومية
يرى المتخصص في الشأن الإثيوبي إسكندر تلا، أن الثقافة الأمهرية ظلت تمثل روح إثيوبيا وصمام وحدتها لأكثر من قرن من الزمن، كما مثلت النخبة السياسية الأمهرية، خط الدفاع الأول عن الوحدة الترابية للبلاد، نظراً إلى الميزات التي مكنتها من الاقتراب لمراكز القرار وقيادة البلاد، منذ عهد الملك منليك الثاني (1866-1889) الذي نجح في توسيع رقعة البلاد وتحديثها، وجعلها بلداً مستقلاً في وقت كانت فيه القوى الأوروبية تتصارع لتأسيس مستعمرات لها في أفريقيا.
ويضيف أن توحيد البلاد، وقدرة منليك على صد القوى الاستعمارية، بخاصة بعد انتصاره على القوات الإيطالية الغازية، في موقعة "عدوة" الشهيرة، تمكن من بناء دولة حديثة، كان عمادها النخب السياسية الأمهرية والديانة المسيحية الأرثوذكسية، كعاملين رئيسين في بنية الدولة الإثيوبية الحديثة.
ويشير تلا إلى أن المظالم التي رفعتها بعض الإثنيات الإثيوبية لاحقاً، لا سيما في عهدي الملك هيلي سلاسي، والعقيد منغستو هيلي مريام، التي تطورت إلى حركات مسلحة، هي ناتج تغول الدولة واستبدادها، وليس مرتبطة بشكل رأسي بالقومية الأمهرية التي مثلت كثقافة، روح الدولة ورمز وحدتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقر المتخصص الإثيوبي وقوع مظالم كثيرة ربما استهدفت بصورة مباشرة أقاليم بعينها، بذريعة بروز تيارات للتمرد على الدولة، إلا أن تلك المظالم ظلت تترجم من قبل حركات التمرد باعتبارها جزءاً من "الثقافة الأمهرية المسيطرة سياسياً وثقافياً" وجرى إطلاق حملات سياسية واسعة ذات نفس قومي، تحت شعارات مواجهة "الاستعلاء الأمهري" والعقلية الاستبدادية، مما عمق الهوة المتخيلة بين القوميات الإثيوبية والأمهرة، على رغم أن استبداد الأنظمة المتعاقبة، لم يعف الأخيرة من صور الاضطهاد والظلم.
ويرى تلا أنه على رغم سقوط نظام العقيد منغستو في عام 1991، نتيجة تحالف الجبهتين التيغراوية والإريترية، صور كنهاية للاستبداد القومي في إثيوبيا، فإن العقود الثلاثة التالية برهنت أن حجم المظالم القومية في البلاد أضحى أكثر بروزاً وحضوراً، بل تطور الأمر إلى حد يهدد بقاء البلد موحدة، نتيجة الاصطفافات القومية والاستقطاب الحاد، وزاد من مفعولها السياسات التي اتبعتها جبهة "تحرير تيغراي" أثناء سيطرتها على الحكم، إذ كرست سياسات الفيدرالية الإثنية، واعتبرت كل قومية شبه مستقلة عن الدولة، سواء في إقليمها الجغرافي، أو رموزها القومية كالعلم والنشيد وغيره من مظاهر السيادة.
ويؤكد المحلل الإثيوبي أن الهدف الرئيس من تأسيس "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، في بداية سبعينيات القرن الماضي، تمثل في تأسيس دولة قومية مستقلة عن إثيوبيا، وأن تمكنها من إسقاط نظام الحكم في أديس أبابا بداية التسعينيات، عزز النزوع السلطوي لدى نخبتها، مما دفعهم إلى حكم البلاد بأجندات قومية قائمة على الإقصاء المضاد من جهة، والعمل على تهيئة الظروف لاستقلال تيغراي في حال فقدانهم السلطة.
في المقابل يرى تلا أنه خلال ثلاثة عقود منذ عام 1991 إلى 2018 لحكم الجبهة جرى "شيطنة الأمهرة" باعتبارهم القومية التي حكمت إثيوبيا لقرن من الزمن، ونزع خطاب الدولة نحو إدانة كل العهود السابقة، كما أدرج بند دستوري يسمح للقوميات الإثيوبية بالانفصال وإعلان الدولة، وفق شروط معينة.
ويعرج المتخصص الإثيوبي إلى الراهن السياسي القائم حالياً في إثيوبيا، وإقليم أمهرة خصوصاً، معتبراً أن توقيع اتفاق بريتوريا بين "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" والحكومة المركزية، من دون إشراك الحلفاء الاستراتيجيين لأديس أبابا، الذين خاضوا حرباً ضروساً لعامين ودفعوا تضحيات كبيرة، يعد تجاوزاً غير مقبول، فضلاً عن أن الاتفاقية ساوت بين التمرد الذي قادته "جبهة تيغراي" ضد الدولة، والحركات المسلحة الأمهرية، التي حاربت إلى جانب الجيش النظامي لحماية الدولة المركزية من الانهيار.
ويضيف أن بند "نزع سلاح الحركات المسلحة" بما في ذلك القوات الخاصة الأمهرية، يناقض مقررات التحالف بين الدولة وحلفائها، فضلاً عن أن الدستور الإثيوبي يقر في حق الأقاليم في بناء تشكيلات عسكرية تابعة لها بغرض حماية الأمن والسلام، تحت مسمى "القوات الإقليمية الخاصة"، وأن معظم القوات الناشطة في إقليم الأمهرة تقع تحت هذا البند.
ويوضح أن القوات الخاصة في الإقليم لا تعترف باتفاقية بريتوريا، ليس لكونها لم تكن طرفاً فيها فحسب، بل لأن مقرراتها تتناقض مع نص وروح الدستور الإثيوبي والقوانين والتشريعات المعمول بها في الدولة.
وينوه تلا بأن الدولة المركزية عقدت صفقة سياسية سمحت من خلالها لـ"جبهة تيغراي" بالعودة لممارسة السلطة في الإقليم بصورة منفردة، وذلك خلافاً لمقررات بريتوريا نفسها التي تنص على تشكيل حكومة انتقالية تشارك فيها كل الأطياف السياسية.
الكأس المرة
من جهته يرى المتخصص في الشؤون الإثيوبية، سلمون محاري، أن ثمة معضلة تتعلق بالتعايش السلمي بين كل المكونات القومية في هذا البلد الأفريقي، التي ظلت تقف عائقاً دون تحقيق الاستقرار في البلاد منذ أكثر من قرن من الزمن.
ويضيف أن مؤسسي ما يعرف بإثيوبيا الحديثة حددوا ركائز الدولة في المذهب الأرثوذكسي والثقافة الأمهرية، سواء تعلق ذلك باللغة أو غيرها من الخصائص الثقافية والحضارية، وتم اعتماد الأمهرية باعتبارها لغة الدواوين الحكومية، فيما تم تمكين القومية الأمهرية من السلطة والثروة، على حساب القوميات الأخرى التي تمثل غالبية ساحقة.
العامل الآخر في تصور محاري يتمثل في اتباع الأنظمة الإثيوبية على المقاربتين الأمنية والعسكرية، في مواجهة صور الاحتجاجات الداخلية، عوض معالجة جذور الأزمات الناتجة من غياب المساواة، والإدارة الحكيمة للتنوع العرقي.
ويدلل على ذلك بالمجازر التي ارتكبها نظام العقيد منغستو في محاولاته لإخماد الانتفاضات الشعبية في تيغراي وأورومو، تحت شعار "كل شيء نحو جبهة الحرب".
وينوه "بأن الحرب الأخيرة في تيغراي تعد نموذجاً صارخاً" لسياسات الدولة تجاه مواطنيها، فعوض حل الأزمات المتعلقة بالتنوع حشدت حكومة آبي أحمد كل الميليشيات القومية المسلحة إلى جانب الجيش النظامي، للقضاء على ما سمته تمرداً، مما كلف خسائر بشرية قاربت المليون ضحية معظمهم من المدنيين، فضلاً عن الخسائر المادية، وحين عجزت عن تحقيق انتصار عسكري خضعت للدعوات الدولية لوقف إطلاق النار.
ويروي أن الحركات المسلحة في أمهرة أجبرت على تذوق ذات الكأس المرة، نتيجة عودة التحالف بين الحزب الحاكم وجبهة تيغراي، وفقاً لمقررات اتفاقية بريتوريا.
ويتمسك محاري بأن الأزمة الحالية في إقليم الأمهرة ناتجة من القراءة المتعجلة للنخب السياسية في الإقليم، إذ لم تتوقع هذه النهاية للحرب في الإقليم الشمالي، وظلت تسعى إلى استغلال تحالفها القوي مع النظام الجديد في المركز، للقضاء مرة وإلى الأبد على غريمها المتمثل في "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، وإخراجها من الساحتين السياسية والعسكرية.
ويضيف أن نهاية الحرب مثلت بداية تفكك التحالفات العسكرية والسياسية القائمة، مشيراً إلى أن السعي إلى تطبيق الاتفاقية أدى بالضرورة إلى التعجيل بفك الارتباط بين ميليشيات أمهرة القومية والجيش النظامي، بخاصة بعد رفض الحركات المسلحة في الإقليم إلقاء السلاح وإعادة إدماج قواتها في الجيش النظامي وفق اتفاقية السلام.
مطالب الأمهرة
يعود المتخصص في الشؤون الإثيوبية، سلمون محاري، ليؤكد أن المطالب الأساسية للنخب الأمهرية تتمثل في إبقاء التحالف بينهم وبين الدولة المركزية بما فيها الجيش النظامي، وإقصاء "جبهة تيغراي"، فضلاً عن الاحتفاظ بالأراضي التي تم السيطرة عليها أثناء الحرب وإخضاعها لسيادة الإقليم، إضافة إلى الاحتفاظ بالقوات الخاصة وميليشيات "الفانو"، باعتبارهما الضامنين لتحقيق أهداف سياسية.
ويقر محاري وجود تشريعات تم إقرارها في فترات سابقة، تحت ضغط ظروف سياسية غير اعتيادية من بينها المتعلقة بالسماح لحكومات الأقاليم بتشكيل وحدات عسكرية، لا تخضع لسيادة وزارة الدفاع والدولة المركزية، وهي التشريعات التي تتخذها النخب الأمهرية كذريعة للخروج عن سلطة الدولة.
ويلفت الانتباه إلى أن من ركائز الدولة الوطنية في العالم احتكار القوة أو ما يعرف باحتكار الدولة الاستخدام الشرعي للقوة، من دون سواها من المكونات، موضحاً أن انتشار المظاهر المسلحة لدى جهات لا تأتمر لسيادة الدولة يعد مظهراً من مظاهر غياب الدولة، مما يخلق "دويلات داخل الدولة الواحدة".
ويرى أن الطبقة السياسية في إقليم الأمهرة تناقض الآن مواقفها السابقة التي تنادي بوحدة التراب الوطني، إذ أضحت تطلق خطابات سياسية انفصالية، على خلاف المواقف التاريخية التي تعرف بها، مما ينذر باستمرار الحرب القائمة، في ظل غياب بوادر حقيقية للتقارب بينها وبين المركز.
في المقابل تسعى الحكومة المركزية إلى فرض سيطرتها، على كل الأقاليم الإثيوبية وإنهاء المظاهر المسلحة، وترى ضرورة احتكار السلاح في يد الدولة، من خلال مشروع إعادة إدماج جزء من المسلحين في الجيش النظامي، وتسريح الجزء الآخر، ليس تطبيقاً لاتفاقية بريتوريا فحسب، بل أيضاً لضمان الاستقرار السياسي.
سيناريوهات الحل
بدوره يرى إسكندر تلا أن هناك أصلاً سيناريوهات أساسية للأزمة السياسية والعسكرية في إقليم الأمهرة، الأول يتبنى تمكن الدولة من الحسم العسكري وإخضاع القوات الخاصة وميليشيات "الفانو" لمقررات "إنفاذ القانون"، وفي حال تحقق هذا السيناريو ستبقى هناك جيوب تحارب الدولة في الجبال، بخاصة أن هذه القوات تتمتع بتأييد شعبي لا يستهان به، مما يعزز من إمكانية استمرار الأزمة لأمد بعيد، وقد تتمكن الحركات المتمردة من إعادة تنظيم قواتها من جديد والدخول في حروب طويلة.
أما السيناريو الثاني أن يتوصل الطرفان إلى توافقات معينة تؤدي في النهاية إلى اتفاقية شاملة لوقف إطلاق النار، ثم الدخول لمفاوضات صعبة حول المطالب. وفي هذه الحالة سيلعب ميزان القوة دوراً رئيساً في تحقيق مطالب كل طرف.
وأخيراً السيناريو الثالث وهو الأكثر كلفة فيتمثل في استمرار الوضع الحالي، ودخول الطرفين في حرب استنزاف طويلة، مما يعزز من إضعاف قدرات الطرفين أو انهيار النظام الذي يقوده آبي أحمد. وهنا يقدر إسكندر أن حظوظ السيناريوهات الثلاث شبه متساوية في ظل غياب الحوار بين الطرفين من جهة، واستمرار الحملات الدعائية من الجهة الأخرى.