Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الباروكة" في المحاكم البريطانية... علامة العدالة رأسها

يعود تاريخ ارتداء الشعر المستعار إلى القرن 17 وبدأت صناعته من شعر الإنسان ثم من شعر الخيل فصوف الأغنام وصولاً إلى الألياف الاصطناعية والنباتية

يعود تاريخ ارتداء الشعر المستعار في محاكم المملكة المتحدة إلى القرن 17 (غيتي)

ملخص

كانت الباروكات العصرية ترمز إلى التقاليد والاستمرارية داخل النظام القانوني البريطاني مع مرور السنين وأصبحت أكثر من مجرد أكسسوارات، إذ صارت تمثل السلطة الدائمة للمحاكم. تبنت مهنة القانون هذا التقليد واستمر حتى يومنا هذا.

 

في عالم الدراما، عادة مما يؤدي بروز ممثل معين بأداء استثنائي في عمل حديث إلى دفع المشاهدين للبحث عن مشاركاته في الماضي، وكذلك تشرع منصات العرض بوضع أعماله السابقة في أماكن تجعل وصول الجمهور إليها سهلاً، هذا تماماً ما حدث مع الممثل الإنجليزي بن رادكليف الذي لمع في مسلسل "أسياد الجو" Masters of the Air الذي عرضت حلقته الأخيرة في عطلة نهاية الأسبوع الماضية. فجأة بات مسلسل "تشريح فضيحة" Anatomy of a Scandal الذي شارك فيه رادكليف عام 2022 من أكثر الأعمال التي يبحث عنها مشتركو "نتفليكس"، وكنت أنا واحدة من بينهم. يتناول المسلسل تفجر فضيحة عضو برلماني عن حزب المحافظين بعد إقامته علاقة مع مساعدته الشابة. يدور قسط كبير من أحداث العمل في قاعات المحاكم البريطانية ولا يمكن للمرء سوى ملاحظة نوع من التناقض بين القصة شديدة المعاصرة وبروتوكولات المحاكم شديدة التقليدية والمغرقة في طابعها البريطاني الذي نقلته المخرجة بدقة شديدة حظيت بإشادة من عاملين في القضاء البريطاني. أزياء وإطلالات المحامين والقضاة أثارت السؤال التالي لدى محبي دراما المحاكم، وأغلب قصص مسلسلاتها المعروفة تدور في أميركا: لماذا ما زال المحامون والقضاة في بريطانيا يرتدون شعراً مستعاراً في القرن الـ21؟ 

جذور الشعر المستعار في قضاء المملكة المتحدة

يعود تاريخ ارتداء الشعر المستعار في محاكم المملكة المتحدة إلى القرن 17. خلال هذا الوقت، لم يكن الشعر المستعار (الباروكة) يقتصر على العاملين في مجال القانون فحسب، بل كان من الأكسسوارات العصرية بين النخبة البريطانية في ذاك الوقت. بدأ القضاة باعتماد الشعر المستعار كرمز لمكانتهم الاجتماعية وسلطتهم. وغالباً ما كانت الباروكات تصنع من شعر الخيل وتأتي بأشكال وأطوال مختلفة، مما يعكس اتجاهات الموضة في تلك الفترة.

على الجانب الآخر من القنال الإنجليزي، أسهمت الملابس التي كان رجال القانون الأوروبيون يرتدونها في اعتماد الشعر المستعار للقضاة في المملكة المتحدة أيضاً. كان لدى دول مثل فرنسا وهولندا تقاليد راسخة في ما يتعلق بالشعر المستعار بالنسبة إلى القضاء. وقد استعار المجتمع القانوني البريطاني، الذي كان حريصاً على إنشاء هويته المميزة، عناصر من هذه الممارسات الأوروبية.

كانت الباروكات العصرية ترمز إلى التقاليد والاستمرارية داخل النظام القانوني البريطاني مع مرور السنين وأصبحت أكثر من مجرد أكسسوارات، إذ صارت تمثل السلطة الدائمة للمحاكم. تبنت مهنة القانون هذا التقليد واستمر حتى يومنا هذا.

تطور باروكات رجال القانون مع الوقت

تذكر جامعة القانون في بريطانيا (The University of Law) أن سجلات التاريخ القانوني، شهدت عناصر قليلة من الأزياء تطوراً مثيراً للاهتمام مثل الذي مرت به باروكة القاضي في المملكة المتحدة. طرأ على ما بدأ كأكسسوار عصري تحول مذهل في مواد صناعته وأشكاله وتصوراته على مر القرون.

النسخ الأولى من باروكات العاملين في القانون كانت تصنع من شعر الإنسان لكن مع تزايد الطلب أصبح الشعر البشري نادراً ومكلفاً، مما أدى إلى اعتماد مواد يسهل الوصول إليها مثل شعر الخيل الذي كان باهظاً بدوره، فتم اللجوء إلى صوف الأغنام، وفي وقت لاحق، الألياف الاصطناعية. أدى هذا التحول إلى خفض الكلف وجعل الشعر المستعار أكثر اتساقاً في المظهر.

كذلك تطورت أنماط الشعر المستعار، ففي البداية كانت الباروكات شديدة الإتقان وتشتمل على تجاعيد مرتبة بانتظام وتصميمات معقدة. بمرور الوقت، أصبحت أكثر بساطة وعملية، مما يعكس الأذواق المتغيرة والاعتبارات العملية. اليوم، النمط الأكثر شيوعاً هو الباروكة البسيطة والقصيرة بتجعيدات واضحة.

تجدر الإشارة إلى أنه ليس كل القضاة والمحامين (من الرجال والنساء) في المملكة المتحدة يرتدون شعراً مستعاراً، ويختلف استخدام الباروكة بحسب المحكمة ومستوى الإجراءات الشكلية، في حين أن القضاة والمحامين في المحاكم الأهم مثل المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف غالباً ما يزينون رؤوسهم بالشعر المستعار فإن نظراءهم في المحاكم الأدنى، مثل محاكم المقاطعات، قد يختارون عدم ارتدائه، وعادة ما يترك قرار ارتداء الشعر المستعار لتقدير القاضي نفسه.

مع تناقص ارتداء الباروكات في المجتمع بالعموم، أصبح فن صناعة الشعر المستعار لرجال القانون حرفة متخصصة، حيث يقوم حرفيون مهرة بصناعة الباروكات يدوياً لتلبية متطلبات مهنة القانون، كما يلعب صانعو الباروكات دوراً مهماً في ضمان جودة وأصالة باروكات القاضي، حيث يصممونها بعناية لتناسب مرتديها وتكون مريحة وتبدو موحدة، مما يسهم في الصورة المهنية للقضاة والمحامين.

في عام 1822، حصلت شركة "إد أند ريفنسكروفت"، إحدى أقدم دور الخياطة وتجارة الملابس في لندن، على براءة اختراع لتصميم الباروكات التي لا تزال متداولة حتى اليوم.

يذكر أن كلفة الشعر المستعار تختلف بحسب طوله والمادة المصنوع منها والشخص الذي سيرتديه. على سبيل المثال، يمكن أن تصل كلفة الباروكة التي تغطي الرأس بالكامل والتي يرتديها القضاة إلى 3 آلاف دولار، بينما تميل تلك التي يرتديها المحامون إلى أن تكون أقل كلفة حيث يبدأ سعرها من 500 دولار.

تغير التصورات والتكيفات

مع تطور المجتمع، تطورت أيضاً التصورات المتعلقة بباروكات القضاة والمحامين. فما كان في يوم من الأيام رمزاً للهيبة والسلطة بدأ يواجه التدقيق في العصر الحديث. تساءل البعض عما إذا كان الشعر المستعار ضرورياً في قاعات المحاكم المعاصرة، بينما اعتبره آخرون تقليداً محبوباً. واستجابة لهذه المواقف المتغيرة، بدأ بعض القضاة في ارتداء الشعر المستعار بشكل أقل، بخاصة في المحاكم الابتدائية.

يتمثل الدور الذي تؤديه الباروكات في النظام القانوني في المملكة المتحدة في عدة نقاط أولها الرمزية والسلطة داخل النظام القانوني. عندما يرتدي القاضي الشعر المستعار، فإن ذلك يدل على الانتقال من هويته اليومية إلى هوية المحكم القانوني. وهذا التحول الرمزي يغرس شعوراً بالجاذبية والحياد في قاعة المحكمة، ويصبح الشعر المستعار تمثيلاً مرئياً لدور القاضي كوسيط غير متحيز، يركز فقط على دعم القانون وتحقيق العدالة، ويذكر جميع الحاضرين بأن الإجراءات ليست مجرد مسألة عادية أخرى، بل هي التزام صارم بمبادئ القانون، كما أن وجود الشعر المستعار للقضاة له تأثير ملموس على أجواء قاعة المحكمة. فالطبيعة الرسمية والمهيبة لهذه الباروكات تحدد نبرة الاحترام واللياقة المتبعة في القاعة، فهي تسهم في الشعور بالنظام والتقاليد الأساسية في بيئة قانونية.

علاوة على ذلك، يمكن اعتبار ارتداء الشعر المستعار بمثابة طقس إيذاناً ببدء الإجراءات أو إشارة خفية، لكن مهمة لجميع الحاضرين إلى أن المحكمة منعقدة وأنه سيتم الالتزام بقواعد العملية القانونية.

صموئيل مارش وباروكة القنب

بما أن معظم الشعر المستعار كان يصنع تقليدياً من شعر الخيل أو صوف الأغنام أو الأنسجة الاصطناعية، فمن المتوقع جداً أن يظهر شخص يعارض هذا.

في عام 2017، قام المحامي الشاب صموئيل مارش، خريج جامعة كامبريدج الذي يتبع نظام حياة خضرياً (أي إنه لا يأكل ولا يرتدي ولا يستعمل أي شيء من أصل غير نباتي)، بالاحتجاج على ارتداء باروكة مصنوعة من مواد حيوانية أو نسيج غير طبيعي، وذلك إخلاصاً لمواقفه الواعية اجتماعياً وبيئياً في العصر الحديث.

لما اكتشف مارش أن طلبه غير موجود في بلاده، وعليه طلب باروكة توافق شروطه من النمسا شرع في صناعة أول باروكة قانونية نباتية باستخدام خيوط القنب. وبعد أن انتشرت أخبار باروكته الصديقة للبيئة في الدوائر القانونية، أدرك مارش أن هناك طلباً كبيراً من قبل أشخاص يشاركونه المبادئ نفسها، فأنشأ شركة "هيمب أند هيمب" التي تصنع وتبيع الشعر المستعار النباتي المصنوع خصيصاً للعاملين في القانون، ويخصص مارش الأرباح الناتجة لدعم القضايا التي تهدف إلى تعزيز حماية الحيوان من خلال القانون.

ما ضرورتها في العصر الحالي؟

لم يخلُ تاريخ الباروكات في النظام القانوني في بريطانيا من الانتقادات، وبخاصة في العصر الحديث، حيث كان هناك جدل مستمر حول ما إذا كانت هذه الباروكات لا تزال ضرورية. ويرى البعض أنها قديمة وبعيدة عن الممارسات القانونية المعاصرة. لقد تغير التصور العام لهذه الباروكات، حيث اعتبرها البعض آثاراً لعصر مضى.

يثير هذا النقاش أسئلة أساسية حول الموازنة بين التقاليد والتطبيق العملي في قاعة المحكمة. وبينما يستمر بعض القضاة في ارتداء الشعر المستعار كعلامة على التقاليد والهوية، اختار آخرون نهجاً أكثر حداثة وأقل رسمية.

يجادل المنتقدون بأن شعر المستعار يمكن أن يخلق حاجزاً بين السلطة القضائية والجمهور. ويؤكدون أن هذه الباروكات، بما تحمله من دلالات تاريخية، قد تنفر بعض الأفراد، مما يجعل النظام القانوني يبدو منعزلاً ولا يمكن التواصل معه بشكل حقيقي. أثار هذا النقد مناقشات حول ما إذا كان ينبغي للنظام القانوني أن يكون أكثر ارتباطاً بالناس وأقل تقليدية.

إضافة إلى ذلك، قبل بضع سنوات، رفع محامون بريطانيون دعوى قضائية ضد الشعر المستعار، زاعمين أنه غريب وعفا عليه الزمن مثل ريش الكتابة أو الدروع.

وقد أدى الجدل حول الشعر المستعار للقضاة والمحامين إلى دعوات إلى الإصلاح وحتى الإلغاء التام. يرى البعض أن رجال القانون يجب أن يتبنوا ملابس أكثر حداثة وقرباً من الناس تعكس الديناميكيات المتغيرة للمجتمع وتفضي إلى نظام قانوني أقل رسمية وأكثر تواصلاً مع الأشخاص الذين يخدمهم.

رداً على هذه الخلافات والانتقادات، بدأ بعض القضاة والمحامين ممارسة السلطة التقديرية في ارتداء الشعر المستعار، وأصبح من الشائع على نحو متزايد أن يترأس القضاة المحاكم الدنيا من دون باروكة.

يرى البعض أن هذه القدرة على التكيف بمثابة حل وسط بين التقاليد والحداثة، مما يسمح للقضاة بالحفاظ على سلطتهم مع الاعتراف بتوقعات الجمهور المعاصرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شهدت السنوات الأخيرة أيضاً مناقشات داخل الدوائر القانونية حول الحاجة إلى قواعد لباس أكثر توحيداً ومرونة. ومن شأن هذا النهج أن يمكن القضاة من اختيار الملابس التي تناسب سياق إجراءاتهم وطبيعتها على أفضل وجه.

غالباً ما تتقاطع هذه الدعوات إلى الإصلاح مع مناقشات أوسع حول التنوع والشمولية في مهنة القانون. يؤكد النقاد أن شرط ارتداء الشعر المستعار قد يثني الأفراد من خلفيات متنوعة عن ممارسة مهنة القانون، حيث يمكن أن ينظر إليها على أنها حصرية وبعيدة عن الواقع.

يرد في موقع "مايند لو" Mind Law أنه اعتباراً من عام 2007 ألغت قواعد اللباس الجديدة الشعر المستعار للمحامين في معظم الأحيان، ولم يعد الشعر المستعار مطلوباً أثناء المثول أمام محكمة الأسرة أو المحكمة المدنية أو عند المثول أمام المحكمة العليا في المملكة المتحدة. ومع ذلك، لا يزال الشعر المستعار مستخدماً في القضايا الجنائية.

وفي إيرلندا، استمر القضاة في ارتداء الشعر المستعار حتى عام 2011، إلى أن توقفت هذه الممارسة. في إنجلترا، وغيرها من المستعمرات الإنجليزية والبريطانية السابقة، مثل كندا، على سبيل المثال، التي تخلت مقاطعاتها عن الشعر المستعار طوال القرنين 19 و20 أو جامايكا، التي أزالت الشعر المستعار في عام 2013، يرتدي المحامون والقضاة الآن الشعر المستعار فقط للاحتفالات.

رغم هذه الأهمية الشكلية للباروكات في قاعات المحاكم، والجدل الدائر حولها، لا بد من التأكيد أن ما يرتديه القاضي لا يؤثر في نتيجة الإجراءات القانونية وأن الباروكة تظل رمزاً للسلطة والتقاليد فقط، لكن القرارات المتخذة في المحكمة تستند إلى القانون والأدلة والحجج المقدمة. وإذا كانت هذه ممارسة بالية أم محببة، بإمكانكم الحكم بأنفسكم وليس مطلوباً منكم أن ترتدوا باروكة.

المزيد من منوعات