ملخص
يصعب التكهن بما ستؤول إليه أوضاع الجوع عربياً لكن المؤكد هو أن المنطقة ليست على المسار الصحيح لتحقيق هدف التنمية المستدامة الثاني المتمثل في القضاء على الجوع بحلول عام 2030.
الأقوال المأثورة المأخوذة من التاريخ والعادات والتقاليد تشير إلى أن أحداً لا ينام من دون عشاء، وأن اللقمة الهنية تكفي مئة، وأن العافية في أطراف الجوع، لكن المأثور المأخوذ من صفحات ولت خيراتها ودبر ماضيها وقت كان سلة لغذاء العالم لم يعد يسري على حاضر بات الجوع فيه شبحاً يلوح في الأفق العربي ويدق باباً بعد باب.
على باب غزة يدق خطر مجاعة تحولت من "ممكنة" إلى "وشيكة". الحد الأقصى لانعدام الأمن الغذائي الحاد تم تجاوزه بصورة كبيرة. وسوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن الخامسة يتقدم بوتيرة قياسية نحو العتبة الثانية للمجاعة. ومعدلات الوفيات غير الناجمة عن الصدمات، وهي المؤشر النهائي للمجاعة، تتسارع، وإن ظلت الأرقام والمعلومات المفصلة محدودة، كما هي الحال في كل الحروب.
إحساس غير مريح
تعرف منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة الجوع بأنه "إحساس جسدي غير مريح أو مؤلم بسبب عدم كفاية استهلاك الطاقة الغذائية. ويصبح الجوع مزمناً عندما لا يستهلك الشخص كمية كافية من السعرات الحرارية (الطاقة الغذائية) على أساس منتظم ليعيش حياة طبيعية ونشطة وصحية".
وتعتمد المنظمة مؤشر انتشار نقص التغذية لتقدير مدى انتشار الجوع المزمن في العالم، والذي يمكن تسميته "نقص التغذية".
أما انعدام الأمن الغذائي فيحدث حين يعجز الشخص عن الحصول بانتظام على ما يكفي من الغذاء المأمون والمغذي من أجل النمو والتطور الطبيعي والعيش حياة نشطة وصحية. وقد يكون ذلك بسبب عدم توفر الغذاء و/أو نقص الموارد للحصول على الغذاء.
المفهومان مرتبطان. الجوع وانعدام الأمن الغذائي رفيقا الطريق. يعاني الشخص انعدام الأمن الغذائي الحاد حين ينفد الطعام ويمضي يوماً أو أكثر من دون أكل، فيعاني الجوع.
هذا ما يجري في غزة
وهذا تحديداً ما يجري في غزة. التقرير الصادر قبل أيام قليلة عن "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" الذي يتناول حالة الأمن الغذائي - أو بالأحرى انعدام الأمن الغذائي في غزة - يحذر من أن جميع سكان القطاع يواجهون مستويات توصف بـ"الأزمة" في انعدام الأمن الغذائي أو ما هو أسوأ من ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نصف السكان – أي نحو 1.1 مليون شخص - استنفدوا بالكامل إمداداتهم الغذائية وقدراتهم على التكيف، وباتوا يعانون جوعاً كارثياً، بل منهم من يتضور جوعاً.
يقول التقرير إن المجاعة وشيكة في الجزء الشمالي من القطاع، ويرجحون أن تحدث بين "الآن" ومايو (أيار) المقبل وتضرب نحو 300 ألف شخص من أهل غزة في شمال القطاع.
أمر مرعب
بحسب التقديرات الأممية، فإن هذا هو العدد الأكبر من الأشخاص على الإطلاق الذين يواجهون جوعاً كارثياً مسجلاً من قبل نظام تصنيف الأمن الغذائي. وتقول المديرة التنفيذية لـ"برنامج الأغذية العالمية" سيندي ماكين إن "الناس في غزة يتضورون جوعاً حتى الموت حالياً، وإن السرعة التي تنتشر بها أزمة الجوع وسوء التغذية – التي هي من صنع البشر - أمر مرعب".
وأشارت إلى أن أنه لا يوجد إلا نافذة صغيرة لمنع حدوث مجاعة كاملة، وهي الوصول الفوري والكامل إلى شمال القطاع، محذرة من أن الانتظار لحين إعلان المجاعة يعني أن الأوان سيكون قد فات، وأن آلافاً آخرين سيموتون جوعاً حتماً.
وبحسب التعريف الأممي، تحدث المجاعة حين يواجه السكان سوء التغذية على نطاق واسع، وحدوث وفيات مرتبطة بالجوع وعدم القدرة على الوصول إلى الغذاء وحتى يعلن منطقة ما بأن فيها مجاعة، ينبغي أن تتوافر ثلاثة شروط، أن 20 في المئة في الأقل من السكان سيواجهون مستويات شديدة من الجوع، وأن 30 في المئة من الأطفال يعانون الهزال، وأن يتضاعف معدل الوفيات مقارنة بالمتوسط وهو حالة واحدة لكل 10 آلاف من البالغين يومياً، وحالتا وفاة يومياً لكل 10 آلاف طفل يومياً.
الوضع الآني في غزة يشير إلى أن كل الأسر تقريباً لا تتناول وجباتها اليومية المعتادة. البالغون يقللون وجباتهم ليتمكن الصغار من تناول الطعام. وثلث الأسر في شمال غزة أمضوا أياماً بأكملها من دون تناول الطعام عشر مرات في الأقل خلال الـ30 يوماً الماضية.
مؤشرات المجاعة في غزة تنبئ بأنها على وشك الحدوث، بحسب عديد من متخصصي الأمن الغذائي في العالم، وهذا الجوع وهذه المجاعة "إدانة مروعة للظروف التي يعيشها المدنيون على الأرض" كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في مناسبة إطلاق التقرير.
غوتيريش اعتبر شبح المجاعة الذي يلوح في أفق غزة دليلاً على الحاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وأن تضمن السلطات الإسرائيلية الوصول الكامل وغير المقيد للسلع الإنسانية إلى جميع أنحاء غزة، قائلاً "علينا أن نتحرك الآن لمنع ما لا يمكن تصوره أو قبوله أو تبريره".
أزمة كبرى في السودان
لكن فداحة الموقف في غزة وشبح المجاعة الذي يلوح في أفق القطاع ليس مبرراً لتجاهل شبح آخر ألا وهو "أكبر أزمة جوع في العالم" التي تهدد السودان.
السودان الواقع في براثن حرب أهلية قاربت على إطفاء شمعتها الأولى يعاني مستويات كارثية من الجوع. الصراع الدائر الذي لم يكتف بإلقاء ظلاله القاتلة على البشر والبنى التحتية فقط، بل أثر سلباً في الإنتاج الزراعي، يهدد 5 ملايين سوداني بالجوع.
منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث أشار في مذكرة قبل أيام، إلى توقف أو عرقلة حركة التجارة، إضافة إلى ارتفاع جنوني لأسعار السلع، وتعثر وصول المساعدات الغذائية وموجات نزوح غير مسبوقة. وحذر من تعرض ما لا يقل عن 5 ملايين سوداني لمستوى كارثي من انعدام الأمن الغذائي في أرجاء السودان خلال الأشهر المقبلة، في حال لم تصل المساعدات الإنسانية والسلع الأساسية العاجلة لهم.
يشار إلى أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" حذرت من أن نحو 14 مليون طفل بالسودان في حاجة ماسة إلى مساعدات غذائية.
واقع الحال في السودان يشير إلى وقوع ما يزيد على 1000 حادثة مرتبطة بوصول المساعدات الإنسانية، وأن معظم هذه الحوادث وقع إما عمداً حيث استهداف الأصول التابعة للمنظمات الغذائية، أو بسبب الصراع الدائر. والنتيجة في الحالتين واحدة، تفاقم خطر المجاعة.
خطر متطابق في اليمن
خطر متطابق، ولكنه كاد يتحول إلى منظومة، يتربص باليمن، إذ خلق أمد الصراع الذي يقترب من العقد الكامل إحدى أشد الأزمات الإنسانية خطورة، لا سيما في ما يتعلق بالجوع.
وبحسب "برنامج الأغذية العالمي"، فإن المستوى الحالي من الجوع يسبب مشقة شديدة لملايين اليمنيين. وعلى رغم المساعدات الإنسانية المستمرة، فإن 17 مليون يمني يعانون انعدام الأمن الغذائي.
وزاد نقص التمويل من حدة المأساة. ففي ديسمبر (كانون الأول) 2023، أعلن برنامج الأغذية العالمي وقف عمليات التوزيع العام للأغذية في المناطق الخاضعة لسيطرة السلطات في صنعاء، وذلك لمحدودية التمويل.
محصلة الوضع الحالي في اليمن منذ مطلع عام 2024 هي أن 18.6 مليون شخص في حاجة إلى المساعدة الغذائية الإنسانية، و17 مليوناً يعانون انعدام الأمن الغذائي، و2.2 مليون طفل في حاجة إلى تدخل عاجل لعلاج سوء التغذية الحاد.
أزمة تمويل برامج الإغاثة الغذائية أحد عوامل تفاقم الجوع في مناطق الصراع العربي، لكن تبقى عاملاً ثانوياً حيث ثالوث الصراع والفقر واعتبار المدنيين وجوعهم أداة ضغط أو منصة حرب هو المسؤول الأكبر عما آلت إليه الحال.
قبضة الجوع في سوريا
حال الجوع وانعدام الأمن الغذائي في سوريا، على رغم هدوء الأوضاع نسبياً بعد ما يزيد على عقد من حرب أهلية ذات أبعاد عالمية ضروس، تضعها في المرتبة السادسة عالمياً من ناحية عدد الأشخاص الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي.
برنامج الأغذية العالمي يقدر وقوع 12.1 مليون سوري، أي ما يزيد على نصف السكان، في قبضة الجوع. و2.9 مليون سوري مهددون بانعدام الأمن الغذائي في عام 2024، بزيادة نحو 52 في المئة خلال عام واحد فقط.
وفي سوريا، تضامنت أسعار الوقود والغذاء القياسية، التي تفاقمت على وقع حرب روسيا في أوكرانيا، واستمرار النزاع في بعض أنحاء البلاد والزلزال المدمر لتلقي بظلال بالغة الثقل على الملايين، لا سيما الفئات الأكثر ضعفاً.
وجاء نقص التمويل لأنشطة برنامج الغذاء العالمي، وتعطل سلاسل التوريد ليؤديا إلى مزيد من الضرر الغذائي، إذ جرى تقليص الحصص الغذائية التي كان يوزعها البرنامج على ملايين الأسر. وأصبح عديد من الأسر مضطراً إلى الاختيار الصعب، فإما الوقود أو التعليم أو المدرسة أو الدواء أو الغذاء، فسداد كلفة الجميع صارت مستحيلة.
صدمة العالم
حين صدر "التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية" العام الماضي، صدم العالم بحقيقة مواجهة ربع مليار إنسان على ظهر الكوكب الجوع الحاد، وهو الرقم الذي يصر على التزايد للعام الرابع على التوالي.
وتوالت الحقائق التي بدت مفزعة في حينها، سكان سبع دول يواجهون المجاعة والعوز أو مستويات كارثية من الجوع الحاد. والمؤسف عربياً أن أكثر من نصف هؤلاء في الصومال، لكن ظروفاً مشابهة جمعت دولاً أخرى هي أفغانستان وبوركينا فاسو وهايتي ونيجيريا وجنوب السودان واليمن.
كان هذا قبل اندلاع الحرب في كل غزة والسودان، كما لم يأخذ التقرير في الاعتبار أثر الزلزال المدمر الذي حدث في سوريا خلال فبراير (شباط) 2023.
وجد التقرير (قبل اندلاع سلسلة الصراعات الأخيرة) أن معدلات الجوع في الدول العربية بلغت أعلى معدلاتها منذ عام 2000، إذ بلغ عدد الأشخاص الذين عانوا نقص التغذية في المنطقة العربية 59.8 مليون شخص، أي نحو 13 في المئة من تعداد الدول العربية، بزيادة 75.9 في المئة على الرقم المسجل في عام 2000.
وبحسب التقرير، كان معدل انتشار نقص التغذية أعلى في الدول العربية منخفضة الدخل والأقل نمواً، إذ عانى ثلث سكان هذه الدول تقريباً من الجوع. الصومال سجل النسبة الأعلى (48.7 في المئة)، يليه اليمن (34.5 في المئة)، ثم سوريا (27.8 في المئة).
جوع وربيع وصراعات
كما جاء معدل نقص التغذية في الدول العربية التي كانت تشهد صراعات أعلى بأربعة أضعاف من الدول التي لا تشهد نزاعاً.
اللافت أن أدنى معدل جوع في الدول العربية، بحسب التقرير الأممي، كان في سنوات ما قبل ما يسمى "الربيع العربي". وكان 9.7 في المئة فقط من السكان يعانون الجوع. وعزا التقرير الارتفاع الحاد في معدل انتشار نقص التغذية في السنوات بين 2010 و2016 إلى الصدمات الاجتماعية والاقتصادية وصدمات أسعار السلع الأساسية، والتي كانت أحداث "الربيع العربي" عاملاً رئيساً فيها. وتفاقمت الصدمات في سنوات كورونا وحرب أوكرانيا.
أسباب حدوث المجاعات كثيرة، صحيح أن تغير المناخ وعدم المساواة من جهة الدخول ومستوى المعيشة إضافة إلى تداعيات كورونا عوامل مساعدة، لكن يأتي الصراع على رأس القائمة، باعتباره المحرك الأكبر للمجاعة. ويزداد الجوع سوءاً ويتفاقم كلما تمعن الصراعات والحروف في دفع أعداد كبيرة من الناس إلى الفرار من بيوتهم. وتحدث المجاعات عادة في المناطق التي تفرض فيها قيود على سبل التنقل، وهو عامل مشترك في كل مناطق الصراع.
قلق شديد
المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة شو دونيو قال خلال الاجتماع الوزاري لمؤتمر المنظمة الإقليمي للشرق الأدنى وشمال أفريقيا في القاهرة قبل أيام إن الوضع في غزة، إضافة إلى الأزمات التي طال أمدها في السودان وسوريا واليمن "يثير قلقاً شديداً"، حيث شبح المجاعة يلوح في الأفق.
إعلان المجاعة في غزة أو السودان أو اليمن أو غيرها رسمياً سيؤدي إلى إشهار التضامن، والمطالبة بالتكاتف، والمجاهرة بالتعاطف، وجميعها ردود فعل منصوص عليها مسبقاً في المجاعات الكبرى التي ضربت دولاً ومناطق في العالم لا سيما في السبعينيات والثمانينيات، لكن مجاعات تلك الحقبتين كان يمكن الاكتفاء فيها بما سبق من ردود فعل على "صدمة" حدوث المجاعة، لكن المجاعات العربية التي تلوح في أفق المنطقة حالياً يصعب تصنيفها تحت بند الصدمة.
ويقول كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية العالمي عارف حسين في تصريحات إعلامية إن المجاعات اليوم تختلف عن تلك التي حدثت في السبعينيات والثمانينيات، عندما كان الجفاف هو المحرك الرئيس لها كما في إثيوبيا ودول أخرى.
ويضيف "كان في الإمكان أن يعرب المرء عن الأسف. ويقول لم نكن نعلم أن ذلك سيحدث، ولو علمت لفعلت شيئاً حيال ذلك. اليوم، نرى الأزمات تحدث في الوقت الحقيقي أثناء حدوثها، لذلك لا يمكن أن نقول إننا لم نكن نعرف".
يصعب التكهن بما ستؤول إليه أوضاع الجوع عربياً، لكن المؤكد هو أنه في ضوء الاتجاهات الحالية، فإن المنطقة ليست على المسار الصحيح لتحقيق هدف التنمية المستدامة الثاني المتمثل في القضاء على الجوع بحلول عام 2030.