ملخص
تكشف وثائق لوزارة الخارجية البريطانية رفع عنها الحجاب لأول مرة عن ملفات تتعلق بالشأن السوداني وكيف كان يتعامل نظام الرئيس عمر البشير في سنواته الأولى في شأن العلاقات الخارجية مع المحيط العربي وإيران، كما تلقي الضوء على حرب الجنوب التي كان من نتائجها انفصاله عن الوطن الأم عام 2011، وتوضح الأوراق السرية نظرة الدبلوماسيين البريطانيين لموظفي الإدارة السودانية في الدبلوماسية والاستخبارات
على رغم إطاحة نظام (الإخوان) في السودان قبل خمس سنوات بعد فترة حكم امتدت لثلاثة عقود، لكن ما زالت تلك الفترة محل اهتمام كثير من الناس، لأنها شهدت صراعات وأزمات مع دول عدة إقليمية ودولية بسبب استضافة الخرطوم عدداً من قيادات الجماعات المتطرفة من بينهما زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، مما قاد الولايات المتحدة لتصنيف السودان دولة راعية للإرهاب، فضلاً عن فرضها عقوبات اقتصادية قاسية عليها لأكثر من 20 عاماً.
ومعلوم أن تنظيم (الإخوان) ظهر في السودان في 1949 تحت مسمى حركة التحرير الإسلامي، لكن غير مسماه مرات عدة إلى تنظيم الإخوان، ثم جبهة الميثاق، فالجبهة الإسلامية، وأخيراً المؤتمر الوطني الذي تفرع منه المؤتمر الشعبي في نهاية تسعينيات القرن الماضي بعد الخلاف الشهير الذي حدث بين زعيم التنظيم حسن الترابي ورئيس الحكومة عمر حسن البشير.
في هذه الأثناء، كشفت وزارة الخارجية البريطانية لأول مرة في نهاية مايو (أيار) 2023 عن الطابع السري عن ملفات تتعلق بأحداث سودانية داخلية وخارجية خلال عامي 1989 و1990، شملت تقارير ومراسلات دبلوماسية تم تبادلها بين وزارة الخارجية البريطانية في لندن وسفاراتها في الخرطوم وبغداد والقاهرة، وتحدثت الوثائق عن علاقات السودان مع بريطانيا والعراق وإيران والسعودية وليبيا ومصر، فضلاً عن تناول قضية الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق دي مابيور، وسعي إيران إلى تشكيل ميليشيات عسكرية في الخرطوم على غرار الحرس الثوري الإيراني، والتعاون العسكري والتجاري بين الخرطوم وبغداد، والإرهاب في السودان.
التقارب مع إيران
تضمنت هذه الرسائل أنه مع بدء فترة الحكم العسكري الثالث في السودان برئاسة المشير عمر البشير في الـ30 من يونيو (حزيران) 1989، الذي جاء للسلطة بتخطيط من الجبهة الإسلامية القومية التي أسسها حسن الترابي عام 1986، حاول النظام الإسلاموي الجديد كسب اعتراف الدول العربية والإسلامية والأفريقية، إذ أعلن فوراً عن نيته إرسال مبعوثين إلى مصر والسعودية وليبيا وإثيوبيا وتشاد، على أن تتبعهم في وقت لاحق بعثات إلى دول الخليج والدول الأفريقية.
كما اقترب السودان من إيران في سياستها الخارجية، فتزامناً مع إلغاء منصب رئيس الوزراء في إيران ألغي هذا المنصب في السودان أيضاً. وأعلن النظام الجديد اعتراف مصر والسعودية وليبيا والكويت والعراق والأردن، إذ التقى الوفد الرسمي (المصري) الأول برئاسة حسن أمين نمر، وزير شؤون الرئاسة الذي وصف بأنه مبعوث خاص للرئيس مبارك بالجنرال عمر حسن البشير في الثاني من يوليو (تموز) 1989، وكان أن حمل رسالة تحية وتعاطف وتمنى للنظام الجديد كل النجاح، في حين التقى الوفد الليبي برئاسة سعيد محمد مجذوب المبعوث الخاص للعقيد القذافي بالجنرال البشير في الثاني من يوليو 1989.
اضطهاد المسيحيين
يتحدث سجل نقاشات مجلس العموم في بريطانيا في الـ22 من يونيو 1993 عن شهادة توني ورثينجتون وهو نائب عمالي عن كلايدبانك وميلنجافي كان قد زار الخرطوم بمعية برلمانيين آخرين.
جاء في شهادة البرلماني البريطاني "يكمن جوهر المشكلة في تصميم الديكتاتورية العسكرية في الخرطوم على أن البلاد ستدار في ظل نظام الشريعة – فرض دولة دينية. وهو أمر غير مريح حتماً لأولئك الذين لا يتبعون هذه العقيدة، أو ليس لديهم درجة عالية من الإيمان. فشهادة المسيحيين، على سبيل المثال، غير مسموح بها في المحاكم الشرعية، فالشريعة تمتد إلى جميع مجالات الحياة، بما في ذلك الخدمات المصرفية والتعليمية، فقد تم تعريب أنظمة التعليم العام وأسلمتها، ومن المحتم أن يعطي ذلك مواطنة من الدرجة الثانية لجميع المسيحيين أو غيرهم من غير ذوي النزعة الأصولية. كيف يمكن أن يكون هناك سلام داخل دولة دينية في مجتمع متعدد الثقافات؟ الشريعة تعني أن الدين يحدد الهوية الوطنية وهو إطار البنية السياسية والمدنية، فضلاً عن أن الدين يخصص السلطة والموارد، ومن ثم لا بد أن تكون هناك مشكلات في دولة متعددة الأديان والثقافات مثل السودان، حيث لا توجد مساواة بين الطوائف، ومن الناحية الاقتصادية نجد أن البلاد مفلسة، فالبنك الدولي انسحب من هذا البلد لأنه لا يسدد ديونه، وهناك هرب هائل لرأس المال الخاص. تقف الحرب الأهلية التي استمرت لمدة 10 سنوات خلف كل هذه المشكلات. البلد في ورطة كبيرة. هناك وقف رسمي لإطلاق النار، لكن المتمردين في الجنوب ينتمون لفصائل ولا يزال هناك قتال بين تلك الفصائل. ولا تحتكر الحكومة السودانية العنف أو انتهاكات حقوق الإنسان وحدها بل ارتكبت القوات الجنوبية فظائع مروعة. ولا تزال الفصائل في الجنوب تعوق إيصال الأغذية، على رغم كل الظروف المأسوية خاصة تلك التي شهدناها على شاشات التلفزيون".
تعاطف وقلق بريطاني
يشير التقرير الصادر عن إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، بوزارة الخارجية البريطانية في الـ12 من يناير (كانون الثاني) 1990 إلى محادثة تمهيدية لوزير خارجية بريطانيا، دوغلاس هيرد مع السفير السوداني الرشيد أبو شامة ومناقشة عدد من أزمات السودان في تلك الفترة. جاء في الوثيقة ما نصه:
"قال وزير خارجية بريطانيا إنه استمتع بلقاء وزير الخارجية السوداني في الحوار الأوروبي العربي في باريس في الـ22 من ديسمبر (كانون الأول) وأعرب عن أمله في أن تكون هناك فرص أخرى لمثل هذا الاتصال غير الرسمي بين حكومتينا بخاصة عندما يمر الزوار السودانيون عبر لندن".
وأضاف هيرد "إن هناك كثيراً من التعاطف والقلق في بريطانيا في شأن المشكلات التي تواجه الشعب السوداني. لكن هل توجد هناك أي طريقة يحتمل أن تحل بها المشكلات قريباً؟".
يجيب أبو شامة إن "الوضع معقد"، وعزا الجمود إلى تعنت الجيش الشعبي لتحرير السودان. وقال إن قرنق يبدو عازماً على تولي السلطة الكاملة. ولا تزال الحكومة مستعدة للتفاوض وتأمل في التوصل إلى تسوية. وهناك دور للمجتمع الدولي في الضغط على قرنق لكي يكون مرناً وأن يكف عن رفع الشروط المسبقة.
ورداً على سؤال هيرد، قال السفير السوداني "إنه قد يكون هناك مجال للوساطة المصرية".
أثار وزير الخارجية أيضاً موضوع جلسة محكمة الاستئناف للخمسة الذين أدينوا بتفجيرات الخرطوم. وقال "إن الشعب البريطاني يتوقع فرض عقوبات صارمة مناسبة على جرائم القتل الوحشية هذه".
كان يشير إلى التفجيرات التي وقعت في فندق الأكروبول بوسط الخرطوم في مايو 1988.
ورد أبو شامة بأن "حكومته تصرفت بسرعة لتقديم الجناة إلى العدالة وأن القضية لا تزال أمام المحاكم. وقد أعرب أقرب أقرباء الضحايا البريطانيين الآن عن آرائهم لكنهم لم يحبذوا أي خيارات متاحة بموجب الشريعة الإسلامية".
وأشار أبو شامة إلى الحقوق الثلاثة وهي حق الله والقانون والأقارب، معلقاً "إنه بموجب الثانية من هذه الحقوق، أخبره المدعي العام أخيراً أنه يعتقد أنه وفقاً للقانون يجب فرض عقوبة السجن: لكن هذه كانت وجهة نظر شخصية إلى حد كبير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع اقتراب الاجتماع من نهايته، قال أبو شامة إنه طلب منه إثارة نقطة واحدة مع وزير الخارجية البريطاني. وقال إن حكومته أصيبت بخيبة أمل لأن بريطانيا، على عكس فرنسا، لديها تحفظات على القرار الذي يدعو إلى مزيد من المساعدات الطارئة للسودان وربطت ذلك بحالة حقوق الإنسان. فالسودانيون لم يشيروا من قبل إلى حساسيتهم في شأن هذا الأمر سواء هنا أو في نيويورك أو في الخرطوم، ومن ثم تعهد وزير خارجية بريطانيا بالنظر في الأمر.
بعد التحدث إلى الخارجية والممثلية البريطانية في نيويورك، تواصل الوزير البريطاني منذ ذلك الحين مع أبو شامة وأوضح له أنه "على رغم شعورنا أنه من المهم الإشارة إلى بعض الحاجة إلى احترام حقوق الإنسان بخاصة للنازحين في السودان، كنا على استعداد لمواصلة لعب دور في جهود الإغاثة والمرحلة التالية من عملية شريان الحياة. وبناء على ذلك، أيدنا القرار الذي اتخذ بتوافق الآراء". وأضاف أنه أرسل "الآن إلى السفير السوداني نسخة من البيان المؤرخ في الـ24 من أكتوبر (تشرين الأول) في شأن قرار نائب ممثل المملكة المتحدة للشؤون الخارجية".
أزمة الخليج
تستعرض برقية دبلوماسية مرسلة من السفارة البريطانية في الخرطوم في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 إلى مرجعيتها في لندن، جانباً من تصريحات مدير الاستخبارات العسكرية في السودان محمد أحمد مصطفى الدابي خلال لقائه بالسفير البريطاني في الخرطوم. جاء في هذه الوثيقة ما نصه:
"التقيت مدير الاستخبارات العسكرية العميد الدابي في الأول من نوفمبر وأطلعني على أزمة الخليج، فقد دافع الدابي بقوة عن موقف الحكومات المؤيد للعراق المناهض للغرب. وقال إن هذه مشكلة عربية يجب أن يحلها العرب سلمياً. كما كان يبذل قصارى جهده لتأكيد دور إسرائيل ويحاول ربط معاملتها للفلسطينيين. ولأن القوات السورية لن تقاتل ضد العراق وأن السعودية وحكومة الكويت المنفية قد تكونان على استعداد للتفاوض مع العراق، فقد اعتقد أن الحرب غير مرجحة. ومع ذلك، إذا بدأت الحرب، فقد كان الدابي متأكداً من أنه ستكون هناك تظاهرات واسعة النطاق مناهضة للغرب في الخرطوم وربما بعض المدن الرئيسة الأخرى. كما اعتقد أن المنظمات الإرهابية العربية الموالية للعراق ستعمل داخل السودان ضد أهداف غربية. وامتنع عن تحديد المنظمات التي كان يفكر فيها".
حرب الجنوب وعداء مصر
يضيف التقرير "يعتقد الدابي أن الجيش الشعبي لتحرير السودان سيحاول قريباً الاستيلاء على مدينة أبيي وسيزيد ضغطه على مدن أخرى في غرب الاستوائية مثل يامبيو ومريدي ومندري". كما أعرب عن اعتقاده أن "الجيش الشعبي لتحرير السودان سيكثف عملياته حول جوبا".
وكان الجيش قد وضع بالفعل خططه لمواجهة هذه التحركات وتوقع تكثيف العمليات بعد الـ15 من نوفمبر، عندما كان من المقرر أن تتوقف الأمطار في جميع أنحاء الجنوب. وكان الدابي لاذعاً في نظرته للعلاقات مع مصر وألقى باللوم عليها وعلى السعودية في معظم مشكلات السودان. كان يعتقد أن الأصوليين الإسلاميين هم الذين اغتالوا رئيس البرلمان المصري. ويعتقد أن السبب الرئيس لعداء مصر للسودان يرجع إلى قرار بلاده بزيادة استخدامها لمياه النيل لري المشاريع الزراعية الجديدة الهادفة لجعل السودان مكتفياً ذاتياً للغذاء.
وعبر السفير البريطاني في نهاية البرقية عن تعليقه حول المقابلة مع مدير الاستخبارات العسكرية في السودان عام 1990، قائلاً "لم يكن هذا أداءً عالي الجودة من قبل مدير الاستخبارات وذهب إلى حد ما لإظهار تفكيره السطحي وسذاجته. وطوال المناقشة، كان من الواضح أنه كان يتبنى الخط السوداني الرسمي المبسط من دون بذل أية محاولة للتفكير في الوضع. لقد وعدني بعقد إحاطة لجميع الملحقين الأسبوع المقبل لكنه سيرفض مناقشة ما يسميه السياسات التي يمكن أن تشير إلى عدم ثقة معينة في موقف السودان الحالي".